طلال سلمان

على الطريق في وداع رجل لم يعرف كيف يكون رئيساً للجمهورية!

في هدأة الليل، يجلس فخامته في مقعده الأثير على الشرفة المطلة على بيروت المطفأة العيون الممزقة القلب والحنايا، ويأمر بالموسيقى فتنساب روائع الألحان الكلاسيكية لتضفي بعداً سابعاً على المأساة اللبنانية التي اتخذت عنواناً لها القصر الجمهوري في بعبدا.
الصمت يغلف المدينة، الصمت مدفن المدينة وشاهدها، الصمت يستولد المزيد من العتم. الصمت يحتضن القصر ويعتصره. الصمت يطبق على الفخامة. العتم يبتلع الصولجان. في العتم تتوالد الأشباح ثم تأخذ بالتناسل حتى تكاد تحيل القصر إلى حجر لها، الأشباح تطلق الخوف خفافيش تصفع بأجنحتها زهو السلطة، السلطة تتضاءل وتمحي ويذهب مجدها، فيصير ضرورياً رفع الصوت بإصدار الأمر للنادل المتكاسل والتنبيه على الحارس المتناعس.
“أنا فخامة الرئيس وسأبقى، أنا المفدى، أنا المعظم. أنا الحكم والحاكم. أنا الشرع والشرعية. أنا السلطة، مصدرها والغاية. أنا السيف والدينار. أنا رمز الوطن ومجسد إرادة شعبه. أنا الإجماع الوطني. أنا توأم الأرزة والنشيد. أنا ابن أبي الرئيسين، ما قبلي ماض منسي، وما بعدي قدر مجهول، وأنا وحدي “المعرفة”.
لكن صمت الليل يمتص “الأنا” ثم يرميها إلى العتم فيبتلع الصوات والصدى.
لا بد، إذن، مما ليس منه بد!
لقد انتهى أمد المصادفة القدرية، ودقت ساعة الرحيل ولا مناص!
سقطت في لجة اليأس أوهام التجديد والتمديد،
لا مجال بعد لتوظيف الفراغ من أجل ضمان ديمومة السلطة، فيستمر مالئ الكون حاكماً لفترة سنتين إضافيتين باسم الفراغ بعد أن حكم بفضل الفراغ مدة السنتين الماضيتين.
كيف يتلاقى الحاكم والفراغ، كيف يكون حاكم في الفراغ، كيف يحكم حاكم بقوة الفراغ. كيف يمكن نطق العبارة “صاحب الفخامة.. والفراغ”!!
لقد ألف أمين الجميل الألقاب جميعاً، وألبسها فارتداها جميعاً.
ها هو رئيس الإجماع يصبد الحاكم بلا حكم. الرئيس ولا دولة، الرئيس في واحدة من “الدول” هي الأضعف بعسكرها، برغم إنه الأكثر عدداً والأفخم عدة والأغلى تدريباً… دولة هي الأضعف باقتصادها برغم إن مواردها هي الأغرز وهي الأغنى.
دولة هي الأضعف في علاقاتها بمواطنيها، مع إن مواطنيها بأكثريتهم الساحقة الماحقة معها، ولا يرتضون عنها بديلاً، ولا يريدون لها الزوال لأنهم يريدون البقاء في أرضهم وبأرضهم ولأرضهم.
أهكذا ينتهي صاحب الفخامة بعد ست سنوات من الحكم بصلاحيات لم يحلم بها إمبراطور ولا مارسها سلطان أو ملك جبار؟!
أهكذا ينتهي وليس حوله إلا بضع عشرات من الموظفين: بينهم المستشار الذي لا يستشار فإذا أشار عُمل بالرأي – الضد،
وبينهم المنافق الذي ينادي بلقبه الرسمي فلا يحس بأي حرج بل ينحني وهو يستجيب: أمر مولاي!!”
وبينهم النديم المتقن تقليد رؤساء عصر الردة والانحطاط،
وبينهم المضحك الخصوصي الذي يجمع النكات البذيئة من نفايات أسواق النخاسة والرق البشري!
وبينهم “الكتيب” المتحذلق الذي يعرف كيف يقول، باسمه، ما لا ينوي عمله، وكيف يكذب في موضع الصدق فيزور الوقائع، ويلوي عنق التاريخ ويحوله إلى مجرد “شاهد ما شافش حاجة”!!
وبينهم أخيراً صحبة الأنس والسمر، وفيهم “البلاي بوي” و”الزازو” و”الوزوز” و”الصياد” الذي لا يخطئ قلوب الطرائد، إلى جانب “الانسكلوبيدي” المتخصص في تجميع أخبار الفضائح عن أصحاب البيوت اللامعة بالنجوم والأقمار المحتشدة فيها!
أهكذا ينتهي وليس تحت إمرته، وهو صاحب الزمان، إلا بضع مئات من الحرس الجمهوري الذي أقام – بالخوف منه – حرساً عليه، وبضع مئات أخرى من عناصر الميليشيا التي تبيع ولاءها لمن يدفع أكثر، والتي لا يضيق عليها تعصبها فيمنعها من أن تعمل لسيد آخر في أوقات الفراغ؟!
أهكذا ينتهي الحلم الجميع بكابوس الخروج من الجنة مطروداً تلاحقه اللعنة ويحاصره الإحساس بأنه “أعطي حكماً فلم يحسن سياسته ومن لا يسوس الحكم يخلعه”؟!
وإلى أين الخروج؟!
تلك هي المعضلة التي تفاقم الإحساس بالخيبة والسقوط الذريع؟!
رجل يخرج من القصر العالي فلا يعرف إلى أين يدخل بعده، وأنى يعيش ستطارده أشباح إنجازات العهد الخارقة والتي أدهشت العالم، وأي إدهاش!
إنه لا يستطيع أن يذهب إلى النسيان. النسيان مقبرة التافهين والعجائز وهو أحد أهم النابهين في تاريخ بلد النبوغ والعبقرية، ثم إنه “زين الشباب” الذي لم يمتع بالشباب…
لعله يدرك الآن، إنه ذاهب إلى القلق وليالي السهاد. إنه ذاهب إلى جحيم الخوف من كل من حوله وما حوله.
إنه رجل مضطر لأن يحيل نفسه، وبإرادته إلى شبح لا يرى ولا يدرك ولا يلمس!
رجل خارطته لا تتضمن إلا جزراً آمنة معدودة ومحددة، وخطة السير لا تتضمن إلا بضع طرق سرية وغير مألوفة يمخرها بسياراته المصفحة فلا يراها ولا يجرؤ أن يدعها تراه، وهو يتوقع كميناً على كل منعطف ويشتبه بكل سيارة متوقفة إلى جانب الطريق لأنه سيحسب إنها تركت لتنفجر عند مروره فتجعله هباء منثوراً.
أهكذا ينتهي الأمر “بالقائد الشاب” الذي دخل القصر مبشراً بثورة العدل والإنصاف والمساواة والأعمار والتقدم؟!
أيخرج إلى اللامكان؟!
وكيف “يكون” ذلك الذي لا مجال لأن يثبت “وجوده” في أي مكان؟!
وكيف يكون الزعيم الأكبر من رئيس ذلك الذي لا تتضمن خارطة حركته بيروت، تلك التي كانت قبله أميرة، والتي تصنع الزعماء والرؤساء والقادة وتمنحهم ألقاب السؤدد وتدخلهم الوجدان الشعبي يستقرون فيه إلى جانب الأنبياء والقديسين؟!
وكيف يكون الزعيم الأكبر من رئيس ذلك الذي ليس للبنانه جنوب، وليس مسموحاً بدخوله الجنوب؟!
وأين الزعامة وطرابلس ما زالت في ثياب الحداد، تنظر إليه بالريبة إن لم يكن بالحقد وطلب الثأر لدم رئيسها الشهيد رشيد كرامي؟
بل أين الرئيس الأكبر من زعيم وليس في خارطته جبل لبنان؟!
الجبل؟! أي حساب عسير ينتظر الخارج من القصر إلى القصر في المهجرين والمهجورين والمتروكين للريح والبحر في المسافة بين القصرية؟!
أهكذا ينتهي صاحب الفخامة: صورة على جدار في قصر متروك لخلف، بل بديل هو أقرب ما يكون إلى صورة الخصم؟!
“لكنها فكرة عبقرية…” يقول لنفسه “بهذه الطريقة لن يستطيع أحد أن يلغي أثري. لقد مررنا نحن آل الجميل من هنا. غيرنا مر مرة، ونحن جئنا القصر مرتين”!
اثنان من آل الجميل على جدار القصر، حماة للشرعية والسيادة والاستقلال والوحدة الوطنية؟!
هذا ظلم للبنان. إنه التاريخ فعلاً، ولكن من قال إن التاريخ هو صكوك عدالة وغفران، من قال إن التاريخ هو الحق، سيما إذا عزلت الأحداث عن سياقها وتم التعاطي مع الوقائع الباردة وكأنها هبطت من السماء السابعة واحتفظت على الأرض بقداسة الحقيقة؟!
لا بأس، لقد علق هو أيضاً صور السلف الصالح من الرؤساء، لكي يقول إن بيت أبيه هو بيت الرئاسة والرئاسات!
وماذا يهم أن يأتي بعده نقيضه؟!
لقد أتى بعد بشارة الخوري نقيضه كميل شمعون، وبعد شمعون نقيضه فؤاد شهاب، وتحول الامتداد شارل حلو إلى نقيض بذاته ثم عبر خلفه سليمان فرنجية، وعلى أكتاف سليمان فرنجية وصول نقيضه (ومنافسه، المهزوم قبل ست سنوات)، الياس سركيس، وأقدم الياس سركيس الذي كان يعرف إنه ميت قريباً على ما يشبه الانتحار حين طوب الرئاسة لخصمه ونقيضه بشير الجميل، وتسببت انتحارية بشير في وصول نقيضه أمين..
هكذا سيرد ميشال اده، وقائع العهود الاستقلالية في أي حال..
العهود الاستقلالية؟!
مرحباً استقلال.
مرحباً مورفي.
مرحباً نهاية العهد الذي كانت بدايته إعلان نهاية للبنان، وليس أكيداً إن تصير نهايته نقطة البداية في تاريخ لبنان الجديد.
مرحباً لبنان الجديد!
وإلى اللقاء.. صاحب الفخامة الذاهب إلى القلق والخوف وليالي الوحدة الباردة والطويلة.
ترى كم صديق لك الآن، وأنت على عتبة القصر الذي صار خروجك منه مشكلة، ودخول غيرك إليه ألف مشكلة، لأن “الجمهورية”، خرجت منه ولم تعد منذ سنوات ست عجاف، بل لعلها سبع إذا ما استذكرنا بدء المسيرة مع الرئيس الذي عرف كيف يصل ولم يعرف كيف يبقى، بينما نعرف نحن كيف أوصلت وكيف أبقيت ثم لم تعرف كيف تحكم وكيف تكون رئيساً لهذه الجمهورية السعيدة.

Exit mobile version