طلال سلمان

على الطريق في وداع حزب الكتائب…

مع انتهاء أعمال “مؤتمر الحوار الوطني حول لبنان” في جنيف (أواخر 1983) طلبني المرحوم الشيخ بيار الجميل إلى “لقاء حميم”، كان معظم ما دار فيه شخصياً تضمن التنقيب عن أساس عائلته ومنبتها الأصلي قبل لبنان وهل هو يمني أو عراقي (كما الروايات) أو فلسطيني مقدسي كما أخبره جدوده…
ولقد سألت الشيخ بيار عن حزب الكتائب، وعن السبب في إصراره على ترؤسه منذ “ولادته” في أواسط الثلاثينات وحتى يومذاك، مستغرباً أن يستطيع أي حزب أن يستمر وينمو في ظل رئيس – قائد أوحد لا يتبدل ولا يتغير على امتداد نصف قرن هائل بما حفل به من أحداث وتحولات.
وكان جواب الشيخ بيار بسيطاً وصاعقاً: – إذا استعفيت أو تخليت فلسوف يختلفون وينتهي الحزب،
-ولو يا شيخ بيار، أليس الحزب مؤسسة؟! ألم يستطع عبر خمسين سنة أن يبني نفسه كمؤسسة؟! ألم تستطع الأجيال التي تعاقبت على الانتماء إليه أن تحوله من إرث عائيل أو مدار لزعامة شخصية إلى تنظيم حقيقي له أجهزته وله برنامجه وله مؤسساته القيادية؟!
مرة أخرى رد بيار الجميل ببساطة صاعقة: – ماذا أفعل؟! كلهم يحبني أنا ويريدني أنا ولا يريد غيري…
-ولكنك تقترب من الثمانين…
-عمري ثمان وسبعون سنة تماماً، لكن صحتي والحمد لله ممتازة.
-فماذا عن الحزب؟! إنه عليل؟! وها إنه عاجز عن نصرة ابنك (الثاني) الذي تسلقه سلماً إلى الرئاسة الأولى (وإن في ظل الحراب الإسرائيلية) كما أن الأجيال الجديدة تتجاوزك شخصياً، فها هي “القوات اللبنانية” تقف موقف المعارضة لك أنت القائد المؤسس والرئيس الدائم ولابنك رئيس الجمهورية!
صمت الشيخ بيار لحظات، وغامت عيناه، وخيمت غمامة من الحزن فوق وجهه قبل أن يعود إلي ليقول:
-لا مشكلة طالما بقيت حياً، المشكلة ستكبر بعد وفاتي.
-ألا تعتقد أن إيصال كتائبي إلى رئاسة الجمهورية، وبالطريقة التي وصل فيها، ستعجل في إنهاء الحزب، لاسيما إذا أصابك مكروه؟!
هز الشيخ بيار رأسه بصمت… ثم استدرك متنبهاً: – لكن الشيخ أمين، وقبله المرحوم بشير ، أعلن خروجه من الحزب بمجرد انتخابه رئيساً للجمهورية،
-إنما السؤال عن مصير الحزب يا شيخ بيار؟!
وختم الشيخ بيار الحوار بما يحرجني لاقفله : – وهل تريدني أن أموت الآن؟! سنجد الحل، أو يجد غيري الحل بعدي!
استذكرت هذا الحوار وأنا أتابع، شأني شأن سائر اللبنانيين، المعركة الحامية جداً على رئاسة حزب الكتائب والتي أطلق رصاصتها الأولى سمير جعجع وأطلق رصاصتها الأخيرة بالأمس الدكتور جورج سعادة،
… وبقي أن تستكمل ترتيبات تشييع الجنازة بما يليق بالفقيد الكبير من احترام لتاريخه ولدوره المؤثر في الحياة السياسية بلبنان الجمهورية الأولى (؟!) ولبنان الجمهورية الثانية (؟!) والحرب الأهلية التي تفصل أو تصل بينهما.
من باب الإنصاف لا بد من القول: إن الكتائب هو آخر الأحزاب السياسية، فقبله تهاوت قبيلة كاملة من الأحزاب العقائدية او تلك القائمة على الزعامات الشخصية.
ومن باب الدقة لا بد من القول: إن الإعلان الرسمي عن وفاة الحزب إنما تم مع اختيار بشير الجميل رئيساً للجمهورية، قبل عشر سنوات من اليوم.
لقد انتهت وظيفة الحزب الفعلية يومذاك…
كانت الميليشيا قد التهمت “الحزب”، وذلك ما أصاب سائر الأحزاب، ثم جاءت الرئاسة الأولى بمثابة رصاصة الرحمة.
وما كان بإمكان أمين الجميل، بكل قدرته على المناورة، أن يحيي العظام وهي رميم، خصوصاً وإنه كان يحاول السيطرة على الميليشيا (“القوات اللبنانية”) والحزب (الكتائب) معاً… وانتهى ، كما ينتهي أي مناور تخيب طلقاته وقد خسر موقع الزعامة في المؤسستين معاً.
وهكذا تهاوى إيلي كرامي، الذي أراده أمين الجميل مجرد قائمقام يشغل المنصب بالوكالة حتى لا يجيئه أصيل، قبل أن يستطيع من يدعي حق الوراثة أن يتسلم التركة – الأمانة.
ولولا أن جورج سعادة يتميز بكل هذا القدر الهائل من الإناة وطول البال واللعب على التناقضات والإفادة من الوقت الضائع، والأهم الإفادة من الحاجة إلى الزر الكتائبي في توكيد “لبنانية” الجمهورية الثانية التي ضربت في الطائف وحصلت على شهادة الولادة من دمشق، لما أمكن إبقاء حزب الكتائب على قيد الحياة (بالمعنى الرسمي) حتى اليوم.
يستطيع جورج سعادة الآن أن يقول إنه أطال عمر حزب الكتائب سياسياً بضع سنوات… وعبر المشاركة في الحكم، وليس بالاستنكاف أو المقاطعة.
فهذا الحزب الذي ولد في أحضان الحكم، والذي نمته ونشرته الخدمات التي قدمها بتسهيلات وفرها له الحكم، ابتداء من سنة 1959 وحتى اليوم، لا يستطيع مطلقاً أن يعيش معارضاً، وأن يستمر إذا هو خرج من الحكم.
إنه يموت إن بلغ قمة الحكم،
ويموت إن خرج تماماً من الحكم،
وهو مع آل الجميل عجز عن التحول إلى مؤسسة، ومن دونهم لا يستطيع الاستمرار لأنه “حزبهم” : أليس شعاره “الله، الوطن، العائلة”، فإذا ما استثنينا المطلقات لا يبقى من المحسوسات إلا “العائلة” التي جاءت به وذهب معها، وما كان عمره الإضافي إلا تأخيراً فرضته الظروف في غعلان الوفاة.
وما من شك أن سمير جعجع قد عجل بإنهاء “العمر الإضافي”، فهو قد افترض أنه يستطيع انتزاع اللافتة من “الصيفي” ونقلها إلى “غدراس”، فيكتسب بذلك ما ينقصه من مشروعية الزعامة المسيحية.
أما جورج سعادة فكان أعقل حين لم يقدم نفسه أبداً على أنه “الزعيم المسيحي” أو “القائد”، واستمر حيث شب وترعرع في ظل اللافتة، مع وعيه بأنها باتت شيئاً من التاريخ قد تنفع في الحاضر ولكنها تنتمي إلى الماضي ولا تصلح أداة لصنع المستقبل.
فجورج سعادة هو “الكتائبي”،
أما سمير جعجع فهو “قائد” بلا حزب، فمن معه معه لأسباب لا تمت إلى العقيدة (أو إلى الكتائبية) بصلة، وهم أقل من أن يكونوا حزباً وإلا لكان استغنى عن اللافتة، وهو في نظر نفسه أكبر من أن يرضى بزعامتهم فقط.
وليس هذا رثاء لحزب عاش طويلاً وقضى نحبه، كغيره من الأحزاب عبر الحرب الأهلية التي استولدت “أحزابها العسكرية” على أنقاض المؤسسات السياسية التي كانت قائمة. إنها محاولة لتوصيف الواقع الكتائبي عشية معركة رئاسته التي يبدو إنها لن تقع لأنها لم تعد ذات موضوع.
مات الحزب، عاش الوزير.
وهذا ينطبق على من هو أعرق من حزب الكتائب وأكثر شعبية من سمير جعجع.
وسيكون على “الجماهير” مع خروجها من الحرب التي زجت فيها واسترهنت فيها طويلاً أن تبني أحزابها الجديدة، بعيداً عن الطوائف والعائلات والميليشيات وكلها واحد!

Exit mobile version