طلال سلمان

على الطريق في ذكرى الاستقلال، وفي ضوء الزيارة – العار: وطن واحد أو محميات إسرائيلية…

لكم يبدو الكلام باهتاً عن الاستقلال، في لبنان كما في سائر الأقطار العربية، بعد الذين فعله أنور السادات بزيارته لإسرائيل.
فالاستقلال هو، في التحليل الأخير، مثل الوطن: كائن حي، يتنفس وينفعل ويتفاعل مع طموحات بنيه والظروف المحيطة به والمؤثرة فيه. وإذا اعتل الوطن ظهر اعتلاله، أولاً في استقلاله فإذا هو ضعيف، مهلهل، ورمزي أيضاً. وبين النتائج المفزعة للحرب اللبنانية إنها مكنت إسرائيل من التحكم باستقلال لبنان، إضافة إلى سيادته، إذ هي غدت – بصورة أو أخرى – وصية عليه، وأعطت نفسها حق المشاركة في قراراته وخياراته الداخلية والخارجية.
والاستقلال هو، في التحليل الأخير، فعل إرادة وطنية، فإذا أضعف التمزق هذه الإرادة انتهى الاستقلال ومعه الوطن وشعبه.
من هنا فإن الربط بين الاستقلال والوفاق الوطني بديهية لا تقبل الجدل، وقد قصد الرئيس الياس سركيس أن يؤكد على هذا الترابط العضوي بين الهدفين ليفهم معرقلي تحقيق الوفاق الوطني أنهم مسؤولون – بالتالي – عن هذا الوهن الذي يعاني منه لبنان، والذي يبرز أكثر ما يبرز في مضمون استقلاله.
على أن للاستقلال الآن ، وبعد فعلة السادات، مضموناً آخر، غير الذي عرفه العالم عبر تاريخه الطويل،فقد “سيح” الوطن وجعله شيئاً هيولياً بلا ملامح، وإذا إسرائيل في القاهرة (صوت وصورة)، وإذا القاهرة “طرفة” يتسلى بها الإسرائيليون.
لقد أزال السادات الحد الوحيد الذي يبرر وجود “دول” عربية واستقلالات عربية، بينما مكن وثبت الحدود الأخرى: الحدود بين العرب أنفسهم، ومط إلى أقصى مدى ممكن مساحة الاحتلال الإسرائيلي.
كانت إسرائيل هي الفاصل وهي خط النار، وكان استقلال أي قطر عربي يستمد شرعيته – بشكل أساسي – من صعوبة قيام دولة للوحدة تذوب فيها الكيانات القطرية في ظل الاحتلال الصهيوني لأرض فلسطين ومخاطر توسعه وتمدده، مع كل ما يلقى من دعم دولي مادي ومعنوي وسياسي.
“- ليس إلى الوحدة مجال، على الأقل الآن، إذن فلندعم استقلالنا الوطني في انتظار الظروف المؤاتية لتحقق الدولة – الأمنية، هذه الدولة التي يستدعي قيامها أو يترتب عليه بالضرورة تحرير فلسطين وسقوط حاجز النار الإسرائيلي”.
هكذاكان لسان الحال “الاستقلاليين” العرب، وبالذات خارج لبنان،
أما في لبنان، وبسبب من “وضعه الخاص” والمميز، فقد كان للاستقلال معنى آخر تندغم فيه النزعة إلى الحرية، في الداخل، مع الحرص العربي العام على تبرئة النفس من شبهة التعصب أو الرغبة في ممارسة أي نوع من أنواع القهر ضد أي إنسان فوق الأرض العربية.
فمع العجز عن صنع الوحدة، وعن تحقيق الديمقراطية الحقيقية، ومع التخلف الفظيع في المفاهيم الفكرية، ومع القصور عن استيعاب روح العصر، اكتسب قيام “الدول” العربية “المستقلة” صفة الضرورة الوطنية بل وحتى القومية. صحيح إنه كان في الأغلب والأعم استقلالاً عن العرب بقدر ما هو أو ربما أكثر مما هو استقلال عن الغرب، لكن الصحيح أيضاً أن البديل الوحيد المطروح مقابله كان استمرار الاستقلال عن العرب، واستمرار الخضوع المباشر لسيطرة الغرب.
بعد 1948، أي بعد الهزيمة العربية الأولى وقيام دولة إسرائيل فوق أرض فلسطين، اكتسبت الكيانات القطرية عامة، ولبنان خاصة، مزيداً من الشرعية، وأخذت تمحي عن وجه دول هذه الكيانات ملامح الأوضاع المؤقتة والاستثائية وتقترب أكثر فأكثر من صورة الأمر الواقع والباقي.
أما الآن وبعد فعلة السادات فإن معاني كثيرة مرشحة للتبدل جذرياً، ومنها معاني الحرية والاستقلال والعداء والوطنية، إضافة إلى معنى الوطن نفسه.
لقد أسقطت الزيارة – الخيانة – جدار العداء الوطني والقومي بين العرب وإسرائيل، وعندما “ينفتح” الاستقلال على “العدو” فإن مفهومه البديهي ينقلب إلى العكس تماماً. ذلك أن العدو وحده بقي على طبيعته، أما توصيف العلاقات معه فباتت غير ما كانت عليه.
كان الخائن هو من يتصل أو يتخابرمع العدو، مباشرة أو بالوساطة، فإذا رئيس الدولة هو المتصل، وهو داعي نفسه إلى كنيست العدو، وهو المتهم منتقديه ومعارضيه ومهاجميه بمعاداة الشعب وبالتفريط بمصالح الأمة وحقوقها وطموحاتها القومية!
وكان الوطني هو المتصدي للعدو، بأشكال التصدي كافة وأرقاها الكفاح المسلح، فإذا صار بيغن هو “الصديق” انقلب الثائر والمقاتل والفدائي إلى مخربين لجهود السلام، وإلى “أعداء” للخبز والرفاه والسلامة العامة!
كان تحقيق الحرية (للوطن وللمواطن) مرهوناً بحسم المعركة الوطنية (والقومية) ضد العدو الغاصب، ضد الاحتلال، ضد السيطرة الصهيونية المدعمة بالهيمنة الإمبريالية… فإذا انتفت صفة العدو عن إسرائيل انتفت عن “منجزاتها” أيضاً وعن داعميها، خصوصاً وإن السادات تبرع لها بصك البراءة بينما هي لا تزال “تحتل” أرضه الوطنية، ناهيك بالأراضي العربية الأخرى (ومنها المنسية فلسطين).
لقد دمغت الزيارة هذه المفاهيم والقيم جميعاً بالطابع الإسرائيلي وأكسبتها ملامح إسرائيلية.
لقد اتفق السادات مع بيغن علىأنه من الضروري أن تتعايش الدول العربية سلمياً مع الدولة الإسرائيلية، وخلصا إلى التأكيد بأن “الأمتين العربية والإسرائيلية” ستتعاونان من أجل صنع غد أفضل لهذه المنطقة التي أسقط اسمها الأصلي – أي الوطن العربي – وأعطيت، عملياً، اسم “الشرق الأوسط”
وطالما أن الحرية مثل الاستقلال كل لا يتجزأ، فحرية إسرائيل ستغدو بعد اليوم واجباً عربياً، وأي انتقاص منها هو انتقاص من حرية الدول العربية نفسها.
واستقلال إسرائيل – بحدود احتلالها!! – هو شرط لاستقلال الدول العربية المحتلة أراضيها!!
… وهكذا فإن معنى الاستقلال، حتى في لبنان، قد تبدل أو تحور (إذا أخضعناه للتداعيات المنطقية نفسها)، فلم يعد يؤذيه أو يضيره أو يشينه أن يظل “الجدار الطيب” صلة وصل ودليل حسن جوار مع العدو “السابق” و”الصديق” الحالي و”الشريك” المستقبلي، بدل أن تعود حدوده الجنوبية حاجزاً محصناً في وجه الأطماع الصهيونية،
وهكذا فإن من تحالفوا، داخل لبنان، مع إسرائيل يمكنهم الآن أن يرفعوا صوتهم بالادعاء أنهم إنما كانوا بذلك التحالف يحمون “الوطن” واستقلاله (ولو على حساب بعض المفاهيم البالية مثل التعامل مع العدو الخ)
الوطن، الاستقلال، الحرية، السيادة، الحرب والسلام،
لقد ابتكر لها السادات مضامين جديدة يمكن في ضوئها، بل يجب في ضوئها أن يعاد تفسير الكثير والكثير من الأحداث التي رافقت تسلمه للسلطة بضربة القدر اللعينة تلك.
من “ثورة التصحيح” في 15 مايو (أيار) 1971،
إلى طرد الخبراء السوفيات 1972،
إلى حرب أكتوبر 1973 التيدفنت في خيمة الكيلو 101 بوصفها آخر الحروب في منطقة الشرق الأوسط،
إلى الاتفاق المنفرد حول سيناء في 1975
إلى الحرب اللبنانية التي تحولت – كأنما بسحر ساحر – إلى مجموعة من الحروب العربية فوق أرض لبنان، ربما لتفتح الطريق إلى حروب أهلية عربية أخرى متى لزم الأمر في المستقبل (القريب)؟!
وما أشقى الرئيس الياس سركيس واللبنانيين عموماً اليوم وهم يحتفلون بعيد استقلالهم الرابع والثلاثين، بينما ينهي السادات “استقلال” مصر عن إسرائيل في محاولة لتكريس “استقلالها” عن العرب.
“إن ضمان الاستقلال أن نعمل على إعادة بناء الوطن الواحد”
… فماذا عن العمل لتمزيق كل وطن واحد، سعياً إلى مزيد من تمزيق الوطن الكبير الواحد، أليس هذا ضماناً ضد الاستقلال والتحرر والمستقبل العربي الأفضل؟
وإذا كان من حق أعداء العروبة في لبنان أن يفرحوا بالسادات وما أنجزه، فإن عليهم أن يتذكروا باستمرار أن البديل للعروبة هو “التصهين” وليس أي شيء آخر.
وبرغم زيارة السادات سيبقى العرب (بمن فيهم اللبنانيون) أعداء في نظر إسرائيل والصهيونية، أعداء لمشروعهم الإمبراطوري الذي بدأ بباخرة مهاجرين ووصل إلى إقامة أقوى دولة في هذه المنطقة، وبدأ بقتال شنه الإسرائيليون لا العرب، واستمر حتى هذه اللحظة، قتالاً إسرائيلياً للعرب، واحتلالاً إسرائيلياً لأرض العرب وليس العكس.
لقد أنهى السادات “عداءه” مع إسرائيل، ولم ينه ولا باستطاعته أن ينهي عداء إسرائيل للعرب كلهم، ولمصر بالذات، ولا هو بقادر على صنع السلام. ففي المشروع الصهيوني (الأميركي) يظل السلام مثل الحرب قراراً إسرائيلياً وبالشروط الإسرائيلية، وهي شروط تلغي أكثر من دولة عربية، وتلغي استقلالات جميع العرب، وقد تصل إلى إلغاء وجودهم ذاته. كما سبق إن وصلت (في فلسطين)
وبالتأكيد فإن إسرائيل لن تقبل بأن يظل لبنان وطناً واحداً ومستقلاً،
ولسنا نظن، برغم كل شيء، إن من مصلحة أحد من العرب، أو من مصلحة أحد من اللبنانيين، بمن فيهم مناصرو “الجبهة اللبنانية” أن ينتهي لبنان إلى مجموعة من المحميات الإسرائيلية وإن اتخذت تسميات مختلفة (كانتونات أو فيدراليات)، لإخفاء طابعها الطائفي.
قد نختلف، ولا بأس من أن نختلف إلا على الاستقلال والوطن الواحد وإسرائيل التي تظل هي هي إسرائيل بعد زيارة السادات مثلها قبلها.

Exit mobile version