طلال سلمان

على الطريق في حمى “الفروغ”

كان ينقصنا “الفروغ” حتى تكتمل حلقة الأحقاد والكراهية التي نحصر ونحاصر فيها وكل العداء متجه إلى الذاتن بينما “العدو” الأصلي (والوحيد) يتخفف من ملامحه المنفرة ويكاد يصبح حكماً أو مرجعاً صالحاً للنظر في شكاوى بعضنا على البعض الآخر.
ألم يتوجه إليه نفر منا ما يشبه العتاب لسماحه أو لتساهله أو لغفلته، وفي كل الحالات لمسؤوليته المباشرة عن تمرير صاروخ “الترياق” العراقي، السوفياتي المنشأـ عبر البادية الأردنية، الإنكليزية المنشأ، على سفن أجنبية، مصرية العلم أو التسهيلات، الأميركية المنشأ، لكي يحمي أسباب الحرب في لبنان ويؤمن إدامتها ويرفع وتيرتها بما يغطي على الأزمة المصيرية التي تهز الكيان الصهيوني وتخلخله بفعل الانتفاضة المجيدة لشعب فلسطين فوق أرضه العربية؟!
كان ينقصنا “الفروغ” لكي تبلغ كراهية “اللبناني” لـ “اللبناني” الآخر ذروتها فيتمنى له الهلاك، مع وعيه بأن الدمار سيجيء شاملاً لن يتوقف عند الحدود الوهمية للطوائف والمذاهب ومطامع الأمراء وجنرالات الحرب وعصابات الخبز والبنزين والمعابر السوداء.
… ولكن يتحقق الإجماع اليتيم بين “اللبنانيين” على كراهية “العرب”، كل العرب، من خليجهم إلى المحيط، يستوي في ذلك “خادم الحرمين الشريفين” في الجزيرة وأمير المؤمنين وظل الله على الأرض سليل الأسرة العلوية الشريفة في المغرب الأقصى، وثالثهم في اللجنة الثلاثية صاحب الجزائر.
فعداء “اللبناني” يتجه الىن، إلى ذاته أولاً، ثم إلى أخوته، الأقرب فالأبعد، من “الشرقية” إلى سوريا فإلى الأردن والعراق والكويت وصولاً إلى اليمن السعيد، ومن “الغربية” إلى فلسطين فمصر وليبيا وصولاً إلى الصومال وجمهورية الموز الأخرى في خاصرته جيبوتي.
ولقد صارت الأحقاد والكراهية مؤسسات تقوم عليها مصالح ومنافع وترسم على أساسها سياسات ومخططات بعيدة المدى.
هناك، مثلاً، مؤسسات الكراهية ذات الطابع الطائفي.
بعدها مباشرةن ومن نسلها، جاءت مؤسسات الكراهية ذات الطابع المذهبيز
وقد رسمت هذه وتلك حدود الكانتونات، تاركة بينها مساحة خلاء يفيد منها ويتحصن فيها العدو الإسرائيلي.
وهناك، مثلاً، مؤسسة الكراهية للفلسطيني، كفلسطيني، وتتداخل في مداميكها ظروف التنشئة مع تزوير دلالات التجربة المرة للفترة ما بين هزيمة 1967 وانفجار الحرب الأهلية سنة 1975 ثم ما توالد عبر مراحلها وأطوارها المختلفةز
وعلى قاعدة هذه المؤسسة قام التحالف الكتائبي – الإسرائيلي في نهاية السبعينات ليعطي ثماره المرة عشية الاجتياح الإسرائيلي صيف 1982 تغيير نوعي في بنية لبنان السياسية وفي وظيفة كيانه وفي طبيعة علاقته بمحيطه العربي.
وعلى قاعدة هذه المؤسسة قامت حرب المخيمات، لتوسع هامش الحركة أمام العدو الإسرائيلي داخل الطوائف. فالسياسة تتغذى بلحم الطوائف، ولكنها لا تقف عند حدود الاختلاف الفقهي أو العقائدي في ما بينها.
وبقدر ما سهلت هذه المؤسسة التواصل مع العدو الإسرائيلي والتمكين، واقعياً، للتطبيع بين “جماهير” لبنانية وبين عدوها القومي، فقد تمت الاستفادة منها في بناء مؤسسة الكراهية لـ “السوري” ثم في استيلاد سائر مؤسسات الكراهية للعرب الآخرين في المشرق والمغرب.
وجاء يوم فرض فيه على اللبناني أن يحدد ولاءه بالكراهية لهذه المؤسسة أو تلك إن كنت مع “الفلسطيني” فعليك أن تنتسب إلى مؤسسة الكراهية للسوري، والعكس بالعكس، وإن كنت مع “المصري” فعليك أن تنتمي بلا إبطاء لمؤسسة الكراهية للجماهيرية العربية الليبية وقائدها معمر القذافي الخ.
وإلى ما قبل حكاية “الفروغ” كان “العراقي” خارج السوق، ليس لأن اللبنانيين مدنفون بحب صدام حسين ولكن لأن الحرب العراقية – الإيرانية كانت قد استولدت مؤسسة كراهية أعظم شأناً وأغنى وأعتى من كل سابقاتها.
ولعل “الفروغ” ذاته من مواليد هذه المؤسسة المتعددة الأبعاد، إقليمياً ودولياً، أو هكذا يراد لنا أن نعتقد!
ومؤسسة كراهية الذات “قومية” الطابع.
إنها الوجه النقيض للوحدة، بمختلف درجاتها.
ولقد دمرت هذه المؤسسة، حتى اليوم، معظم ما يجمع العرب،
دمرت “جامعتهم” وحولتها إلى قرية مهجورة ينعب فيها اليوم، ولا يكاد أمينها العام يجد لنفسه عملاً، إلا إذا جاء تونس زائر فرنسي كبير من وزن رولان دوماً فما فوق،
ودمرت كل المؤسسات المنبثقة أو المتفرعة عن جامعة الدول العربية، الوحدة الاقتصادية ، الاتحادات المهنية، مكتب مقاطعة إسرائيل (!!)
(بين الطرائف إنهم يدرسون الآن، وفي جملة ما يدرسون، موضوع عودة أو إعادة مصر إلى هذا المكتب الذي عطلوه هم بأكثر مما عطله السادات والصلح المنفرد ومعاهدات كامب ديفيد)!!
بل هي دمرت حتى الدور الشكلي لهذه الجامعة كإطار لمؤتمرات القمة العربية.
فالحسن الثاني دعا الملوك والرؤساء والأمراء العرب إلى قمة لا علاقة للجامعة بها، بل هي كانت فيها مجرد ضيف ثقيل وشاهد زور، ولم يكن الشاذلي القليبي من دور إلا كقارئ لبيانها الختامي والمقررات… ربما لقديم علاقته بالثقافة!.
أكثر من ذلك: حين كلف الأخضر الإبراهيمي بمهمة مع اللجنة الثلاثية كان الحسن الثاني حريصاً على التوكيد أن الإبراهيمي إنما كلف بصفة شخصية، وإن اللجنة لا الجامعة هي مرجعه، وإنه “معار” كمن يأخذ إجازة من دون مرتب للالتحاق بوظيفة أخرى… وإن اللجنة هي التي تدفع “كراه” – أي مرتبه – طيلة فترة انتدابه، أما وضعه كأمين عام مساعد للجامعة فمعلق!
كذلك فقد دمرت مؤسسة الكراهية هذه معظم الدول العريبة، إذ حرفت كل دولة على حدة من مسارها واخترعت لها بالضرورة أعداء وهميين في الداخل وفي المحيط من حولها، وأدخلتها في سلسلة حروب لا تنتهي مع شعبها ومع جوارها (العربي) ومع انتمائها القومي، بحيث كادت تلغي هويتها العربية إضافة إلى دورها وموقعها في حركة نضال الأمة.
وألحقت هذه المؤسسة أبلغ الضرر بالقضية الجامعة وبالرباط المقدس الذي كان يشد العرب بعضهم إلى بعض مؤكداً وحدة المصير التي تجمعهم.
ومؤكد إن مؤسسة الكراهية هذه قد ألحقت بقضية فلسطين من الضرر ما عجزت عن إلحاقه إسرائيل بكل جبروتها وعلى امتداد الأربعين سنة الماضية،
ومن أسف فإن هذه المؤسسة لا تفتأ تقوى ويتعاظم وجودها وتأثيرها على حساب البديهيات والأساسيات والثوابت ومكونات الوجود الوطني لكل قطر عربي وللعرب بمجموعهم وفي أربع رياح أرضهم.
ونعود إلى لبنان وأثر “الفروغ” في تعزيز مؤسسة الكراهية فيه وفي دور هذا الترياق العراقي في تسعير الحرب وفي إطالة أمدها.
لقد أنهت هذه الهبة التي أنعم بها صدام حسين على ميشال عون دور اللجنة الثلاثية بالملكين فيها والرئيس الجزائري.
أنهتها كمهمة قومية، وإن كانت أبقتها لدور آخر لا تبشر ملامحه بالخير.
فغاية جهد اللجنة الآن الوصول إلى هدنة بين سوريا وبين العراق، وليس إلى إنهاء “الحرب” بينهما، تمكن من ابتداع هدنة أخرى في لبنان قد تفتح الباب لحل ما في يوم في شهر في سنة في جيل في دهر من الدهور.
أي إن اللجنة الكريمة قد أدخلت الحرب اللبنانية إلى طاحونة مؤسسة الكراهية إياها، مخلية طرف إسرائيل ومن وراءها من أية مسؤولية عن هذه الحرب التي اجتمع فيها وعليها وبها العالم كله.
صارت الولايات المتحدة، مثلاً، مصدر نصح.
وصارت دولة الفاتيكان صاحبة مساع حميدة، بشهادة صاحب النيافة أوكونور.
وصارت فرنسا مصدر إرشاد وتوجيه.
وصارت إسرائيل عامل تهدئة يهمها استقرار الأوضاع في لبنان وتحييده عن التأثيرات الضارة للصرعاات العربية – العربية.
وغدا حين يقف الملك فهد بن عبد العزيز في حضرة صديقه القديم الرئيس الأميركي جورج بوش فلن يجد ما يطلبه منه إلا المساعدة على وقف “الحرب” السورية – العراقية فوق أرض لبنان ليمكن من ثم أن تتابع اللجنة الثلاثية درسها لمسألته بهدوء وروية بحيث تصل – بعون الله – إلى وقف النزيف الحاد تمهيداً لاكتشاف مكامن الجراح ومعالجتها.
والملك فهد سيسافر مباشرة بعد انتهاء موسم الحج بمشاغله الكثيرة وأعبائه الثقيلة، وهو لذلك استعد بإجازة مغربية امتدت شهرين أو يزيد، فلبنان يحتاج – ويستحق – الجهد الملكي كله، بل هو يستحق تضحية في مثل جسامة القبول بعضوية اللجنة الثلاثية.
ندور في الفراغ ويدور بنا الفراغ حتى نكاد نغفل عن كل ما يجري لنا وحولنا في العالم الواسع، الذي احتفل، أمس بذكرى مرور مئتي سنة على الثورة الفرنسية التي فتحت الباب لحوق الإنسان.
… هذا في حين يهتز العالم الاشتراكي من أقصاه إلى أقصاه تحت وطأة الثورة الجديدة التي تجيء بعد سبعين عاماً من انتصار الثورة الاشتراكية العظمى لتقول إن القيادة قد انحرفت وإن الحزب قد أضاع الطريق فلم يولد الإنسان الجديد ولم يتم بناء الغد الأفضل الذي يوفر للإنسان الخبز مع الكرامة.
… وفي حين تتوارى الحركات القومية ويتضاءل تأثير المشاعر القومية سواء حيث انتصرت فحققت أهدافها، كما في أوروبا الغربية، أو حيث انتكست فقصرت عن الإنجاز كما في الدنيا العربية والعالم الثالث عموماً،
… وفي حين تعيش حركة هائلة الزخم والامكانات كالصهيونية مأزقاً كيانياً خطيراً يسقطها كحلم ولا يستبقي منها إلا دولة عاجزة – على قوتها العسكرية – عن علاج مشكلاتها البنوية المتفاقمة وعن تحديد أهداف مقبولة ومعقولة لمجتمعها الذي لا يستطيع أن يواجه الشمس في حين تنهشه حمى العنصرية وتستنزفه وتربك مناصريه، في الدنيا، وما أكثرهم.
إنه عالم جديد يطل مؤكداً إن التاريخ لا يتوقف ولا يرجع إلى الوراء.
ونظل ننتظر أن يجيء الأخضر الإبراهيمي، وقد جاء مراراً، وأن يذهب ليعود بما لم يحمله أول مرة، وقد ذهب وعاد ودار معنا في الفراغ ودار بنا، أحياناً فيه، ثم انصرف – بتوجيه لجنته الثلاثية – إلى علاج أسباب الحرب العراقية على سوريا في لبنان، وهي مهمة يلزمها عمر ثان، أمد الله في عمر طويل العمر السي الأخضر.
ونظل ننتظر أن يلتقي بعضهم البطريرك صفير في الديمان فيهمس في أذنه بكلمات يرد عليها غبطته بتمتمة خافتة يختلط فيها الدعاء بالتمني بالنصح والإرشاد، بينما ميشال عون يتحصن خلف “عناد” الطائفة العظمى ومكابرتها فيزيد منه ويعززه ويعطيه مبررات إضافية.
فبعد صاروخ “الفروغ” دخلت الطائفة العظمى المسرح الدولي من بابه العريض، وصارت جزءاً من المعادلة الكونية متخطية واقع المعادلة الإقليمية التي لم تعد قادرة على توفير الحماية الضرورية.
فالطائفة العظمى الآن في حمى جنرالها الذي أعزها بالصاروخ العراقي،
هذا الصاروخ، السوفياتي المنشأ، قد عبر الأردن الإنكليزي المنشأ، إلى ميناء العقبة حيث السيطرة إسرئايلية، فإلى قناة السويس حيث يرفرف العلم المصري، فإلى البحر الأبيض المتوسط حيث تزدحم الأساطيل، ليبلغ الشاطئ اللبناني ولا من رأى أو عرف، مكذباً الادعاء بأن هذا البحر إنما هو بحيرة أميركية.
الطائفة العظمى في حمى “الفروغ” الآن،
… ومعها الطوائف الصغرى وكانتوناتها،
واللجنة الثلاثية تمضي إجازة مع بعد العيد،
والملك فهد يستعد لموسم ما بعد الحج، وفي رأس قائمة اهتماماته المجاهدون الأفغان الذين أنشأ لهم “حكومة” تسلحها الولايات المتحدة بالصواريخ الأقوى من “الفروغ” لمقاومة الالحاد ولو اضطرها الأمر إلى إبادة الشعب الأفغاني كله،
وغداً سيحصل أمراء الطوائف الأخرى وجنرالات الحرب على صواريخ بعضها فروغ وبعضها أعظم قدرة على التدمير،
وهكذا تتحقق العدالة كل “فروغه في يمينه!
أما نحن ففي الفراغ ندور ويدور بنا الفراغ في انتظار أن يفرغ الأخضر من مهمته المتصلة بالفروغ فيتفرغ لمشكلتنا التي لا علاقة لها بالفروغ والفروغيين،
والصيف طويل وحار،
فالنتسل بأخبار عصابات الخبز والغاز والبنزين والمعابر السوداء، فهي الوجه الآخر لحكاية الفروغ… وتلك هي، على وجه التحديد، ثالثة الأثافي!

Exit mobile version