طلال سلمان

على الطريق في انتظار مصر..

لم تكن مصر أقل حضوراً في دنيا العرب عموماً، وفي منطقة الجزيرة والخليج، على وجه الخصوص، منها هذه الأيام، وبينما تقرع الطبول وتتهدج أصوات المسؤولين والمذيعين بالحديث عن الدور الخاص لمصر، وعن التاثير المصري العميق، وعن المشاركة المصرية الضرورية واللازمة والفعالة في حماية الجزيرة والخليج.
لم يكن الحضور المصري، في الماضي، ليحتاج إلى أي شيء مما يجري اليوم فيزيد في غياب مصر وافتقارها إلى الدور والتأثير: لا هو كان يحتاج إلى انتقال رئيس جمهورية مصر ليطوف بين العواصم المتلاصقة والمتباعدة، ولا كان يحتاج إلى رعاية أميركية للزيارة وأهدافها، ولا هو كان يحتاج – بخاصة – إلى التبريرات المزورة التي تساق اليوم بوهن للتوكيد على بديهيات كلما جادلت فيها أضعفتها إلى حد التشكيك بوجودها أصلاً.
فحضور مصر لم يكن، أبداً، ليحتاج إلى إذن او إلى تبرير أو على طلب ناهيك بزيارة رئيس جمهورية مصر العربية.
فمصر في عيون العرب، كما في وجدانهم، ليست مجرد ملايين عديدة من البشر. ليست مجاميع من الموظفين الذين يعملون بلا كلل لضمان “أكل العيش”، أو طوابير من العمال وصغار الكسبة الذين يرتضون أن يقوموا بأشق الأعمال لقاء أتفه الأجور، ولا هي حشود من الجند المدربين والخبراء في تشغيل أسلحة البر والبحر والجو لقاء حفنة من الدولارات…
مصر، في وجدان العربي، أعز مما يتصور الحكام، بمن في ذلك حاكمها، وأغلى.
ولقد تعود العربي، منذ أن بدأ يعي حقائق الدنيا، أن يعتز بمصر وكأنها “عاصمة” بلاده جميعاً، كأنها “حاضرته” وأحد العناوين الأمجد لحضارته.
حتى من قبل جمال عبد الناصر كانت مصر الأكبر والأحب، الأكرم والأقرب، الأقوى والأعظم حناناً بين أقطاره جميعاً، كانت لها دائماً منزلة الأم ودور “المعلم” والدليل إلى التقدم واللحاق بركب العصر.
ولقد ترادفت مصر، ومنذ عهد بعيد، في وجدان العربي، مع الثقافة والفنن مع الفكر والأدب، مع العراقة في العلاقة مع الحضارة ومن ثم مع الدولة والمجتمع المتمدن.
ثم جاء عبد الناصر فأضاف إلى مصر دورها الطبيعي المفتقد: القائدة والرائدة وحاملة راية النضال القومي من أجل التحيرر والوحدة والتقدم، من أجل كرامة الإنسان العربي، في كل أرضه الفسيحة، ومن أجل مكانة يستحقها تحت الشمس.
ولطالما حمت مصر الجزيرة والخليج، في جملة أقطار أخرى، بغير أن ترسل جندياً واحداً.
كانت تحمي، وباسم أمتها دائماً، الضعيف والخائف، كما كانت تعين المعوز والمحتاج، وتفتح الطريق إلى الغد الأفضل قاهرة التخلف والجهل وترسبات عصور القهر الاستعماري جميعاً.
وكانت إيران الشاه، إيران الساسانية، إيران الأكاسرة، إيران شرطي الخليج، تخاف من مدرس أزهري مصري وتخشى دوره في استنهاض عرب الجزيرة والخليج.
وكانت بريطانيا العظمى تقاتل ما وسعها القتال لتمنع صوت القاهرة، عاصمة التحرر والعزة القومية، من الوصول إلى عرب الجزيرة والخليج.
وشهيرة هي الأزمة الخطيرة التي نشبت في الكويت بسبب دعوة وجهت. قبل ثلاثين سنة ونيف، إلى مدير إذاعة “صوت العرب” أحمد سعيد، لإلقاء محاضرة في بعض نوادي الكويت.
فلقد تدخل الإنكليز، وكانوا بعد يحتلون الكويت، وأجبروا أحمد سعيد على العودة على الطائرة نفسها، وعاد الرجل تجنباً لمذبحة ترتكبها القوات البريطانية ضد شعب الكويت العربي.
كانت مصر هي العرب جميعاً.
وكانت مصر تقود العرب جميعاً في معركة التحرر والكرامة والوحدة.
وكانت مصر قوية بأمتها، وقوية بانتصاراتها المتوالية على أعداء العرب.
لم تكن مصر “متسولة” تطلب الصدقات، فيعطيها الأميركان فتات أرباحهم من الثروات العربية، ثم يحيلونها إلى العرب لكي يعطوها بقدر ما تكون في خدمة حكامهم.
ولا هي كانت مصدراً للمرتزقة.
ولا كانت، كما يراد لها أن تكون اليوم، غطاء للوجود الاستعماري في الجزيرة والخليج.
ويوم ذهبت مصر إلى الخليج كان وهج ثروتها العربية مصدر الأمل للشعوب الإيراني، بقدر ما كانت القاهرة ملجأ مناضليهم ومصدر الدعم لكل الأحرار الساعين لتخليص إيران من كابوس الشاه، الحاكم بقوة الحديد والنار.
أما اليوم فإن التاريخ يعيد نفسه بشكل كاريكاتوري: يذهب حاكم مصر إلى الجزيرة والخليج، مغلول اليد واللسان بالقيد الأميركي – الإسرائيلي، ليساعد في تغطية الوجود الاستعماري هناك، وليغطي بصورة مصر واسمها الأساطيل الأميركية والغربية العادية والمستعدية على عرب الجزيرة والخليج، كما على الشعوب الغيرانية.
وكيف يحمي العاجز عن تحرير نفسه الآخرين؟
ومتى كان الأسير مقاتلاً جيداً وهو يقاتل – بالسخرة وبالقهر – لحماية أهداف مستعبدة وأطماعه ونهبه لثرواته القومية؟!
كل شي مغلوط،
لا مصر هي الذاهبة الآن إلى الخليج،
ولا عرب الجزيرة والخليج هم الذين يستقبلون اليوم رئيس مصر العربية،
ولا أهداف عرب مصر وعرب الجزيرة وعرب الخليج هي التي يراد حمايتها، بل يراد حماية وتأمين النهب الأميركي المستمر للثروات العربية،
وهذا النهب هو، للمناسبة، إحدى ضمانات الوجود الإسرائيلي (وهو الامتداد الأميركي والغربي، في الأرض العربية) واستمرار تفوقه على العرب مجتمعين.
بعد النفط، ها هم العرب يسلمون سيوفهم لأعدائهم،
وها هم يرفعون أصواتهم بأناشيد “الاستقلال” بينما هم يستظلون جميعاً العلم الأميركي.
والصورة مضحكة إلى حد الإيلام، الآن: فلقد التقى المتعوس مع خايب الرجاء،
فأية حماية ستكون، ولمن؟!
… وشعب فلسطين، في الضفة والقطاع، وأرض 48، يقاتل بالحجارةليحمي كرامة أمته العربية،
وشعب جنوب لبنان، يقاتل بلحمه الحي دفاعاً عن عزة أمته العربية،
وميدان المعركة هنا لا هناك،
والاساطيل لن تبقى في مياهنا إلى الأبد، ولن تستطيع حماية الذين سيسقطون هناك بفعل النهوض هنا،
وسنظل، هنا وهناك، ننتظر مصر… ننتظر بهية.

Exit mobile version