طلال سلمان

على الطريق في انتظار مبادرة وطنية شجاعة تعيد الموضوع والقرار إلى بيروت!

لن ينفتح باب الحل المرصود ولن تنفرج الأزمة التي يختنق فيها لبنان، هذه الأيام، طالما بقينا نتعاطى مع “الاستحقاق الدستوري” وكأنه مجرد موعد للتسلم والتسليم بين رئيس للجمهورية انتهت ولايته وبين خلف له جاء يتسلم الراية ويكمل المشوار!
الأمر أخطر من هذا بكثير وأعمق دلالة،
والأمر يتجاوز أشخاص المرشحين ليكون من بينهم “الخلف الصالح”، بل هو يفرض عليهم أن يتحلوا بمواصفات خاصة جداً تتعدى نطاق الكفاءة الشخصية.
ذلك إن “القائم بالأمر” الآن هو رئيس جاء ثمرة لانقلاب كتائبي استولى علىالسلطة بالقفز عليها من فوق دبابة الغزو الإسرائيلي،
ولقد يقال: إن الظروف في صيف 1982، بما فيها الهزيمة العربية الشاملة أمام الغزو الإسرائيلي وإجراء الانتخابات في ثكنة عسكرية تقع في ضاحية من ضواحي العاصمة المحاصرة، والانهيار الشامل الذي أصيبت به القوى السياسية، والإرادة المغلولة بقهر الغازي… كل ذلك قد أدى إلى “انتخاب” المرشح المفروض بقوة حراب الغازي، بشير الجميل، فلما اغتيل كان “حتمياً” أن يتم “انتخاب” شقيقه الأكبر، وإلا لسقط لبنان في فراغ المجهول المميت…
تجنباً للغرق في سجال غير مفيد ومتأخر جداً مع هذا المنطق الانهزامي، فلسوف نفترض إنه لم يكن بالإمكان، يومئذ، أبدع مما كان، ولن نقيم محاكم لمحاسبة متأخرة لأولئك الذين أضفوا على نتائج الغزو شكليات “الشرعية” الدستورية التي يبجلها اللبنانيون،
ولكن، ماذا عن اليوم؟!
ألم يتبدل ميزان القوى بعد ست سنوات طوال وحافلة بالحروب والتجارب البائسة؟!
أليس من حق اللبنانيين أن يطمئنوا إلى أنهم، بعد كل الذي عانوه من أذى في أرواحهم وأرزاقهم وكراماتهم ومعنوياتهم، سيزيلون – أخيراً – آثار العدوان الإسرائيلي على بلادهم وأبرزها تسليم الحكم لانقلاب كتائبي،
لقد تبدل ميزان القوى فلماذا لا تتبدل طبيعة الحكم في لبنان بما يعكس وضعه الراهن؟!
أنظل نتصرف، وكأن جيوش إسرائيل تحتل نصف لبنان وتحاصر إرادة شعبه وتقهر إرادة أمته؟!
لكن إسرائيل ذاتها الآن محاصرة بانتفاضة شعب فلسطين العربي العظيم في أرضه،
ثم إن أوضاع الأمة ليست في مثل ذلك البؤس الذي كانت عليه خلال ذلك الصيف الأسود من العام 1982.
والقوى السياسية في لبنان تتمتع بقدر من العافية يمكنها من التعبير عن آرائها وبالتالي من الالتزام بالقانون العام للنظام السياسي في لبنان، وهو شرط حياة له: الاعتدال، ومكافحة التطرف والجموح الطائفي في اتجاه احتكار السلطة والهيمنة على القرار السياسي في البلاد،
لا مجال لهيمنة فرد أو حزب أو فئة أو حتى طائفة، في هذا الكيان الهش تركيبه على أهمية مزاياه.
ذلك أبسط درس أولي من دروس محنة الغزو الإسرائيلي وما بعده،
والدرس الثاني أن لا مجال لحكم انقلابي في لبنان يكسر قوانين اللعبة ويحطم أسس التوازن الدقيق،
على هذا فإن خروج أمين الجميل من الرئاسة ينبغي أن يكون مناسبة لإعلان نهاية مرحلة، وإعلان سقوط رهان، والعودة إلى حقائق الحياة (التاريخ والجغرافيا والمصالح).
المرحلة المطلوب إنهاؤها هي تلك التي يكون فيها قرار الأجنبي (فكيف بالإسرائيلي)، هو النافذ في لبنان، وهو الذييلتزم به أهل نادي الحكم، محلياً، حتى لو كان ضد مصلحة اللبنانيين وسائر العرب، ولو كان طابعه العداء السافر لهوية لبنان العربية وللدور العربي في لبنان المعزز لهذه الهوية وهو سوري في الدرجة الأولى،
والرهان المطلوب إسقاطه، والجهر بهذا الإسقاط، هو الرهان على إسرائيل.
فليست إسرائيل، ولا يمكن أن تكون عنصر توازن مع “النفوذ العربي” في لبنان،
وليست لا يمكن أن تكون أداة صحية لتمكين الوحدة الوطنية وضمان الكيان اللبناني، ومن ثم ضمان صيغة الحكم فيه بالامتيازات التي تعطيها لفئة أو لطائفة أو لجماعة.
إن إسرائيل تستخدم كل من هو برسم الاستخدام، وكل من هو على استعداد لأن يضحي بمصالح بلده وطائفته ذاتها من أجل كرسي في السلطة أو حفنة من الدولارات،
لكن أمثال هؤلاء الذين لا يتورعون عن الوصول بحراب “العدو” ذاته، لا يمكن أن يكونوا عنواناً للوحدة الوطنية ولا يمكن أن يؤتمنوا على مصير النظام بلد الكيان.
أما حقائق الحياة فإن مجافاتها هي التي أوصلتنا إلى المأزق الحاضر،
فلا تجاهل مطالب اللبنانيين في الاصلاح ممكن وعلي، بعد الآن، خصوصاً وإن جميع المعنيين، في الداخل والخارج، يقرون بعدالتها بل وبحيويتها لاستمرار النظام ومن ثم الكيان اللبناني.
ولا الولايات المتحدة الأميركية القوية جداً في العالم كله، يمكن أن تعوض لبنان خسارته سوريا.
فسوريا هي الباقية، سوريا هي الداخل، بقدر ما تشكل العلاقة معها ضماناً وتوكيداً لهوية لبنان القومية،
وغير معقول أن يشهد الغربي، والأميركي بالذات، وحتى العدو الإسرائيلي، بدور لسوريا في لبنان، ثم ينكره عليها بعض اللبنانيين، إن المكابرة في إنكار هذا الدور لا تعني إلا الحرب، والحرب مع الذات وعلى الذات.
وليست هذه تزكية للدور السوري، في لبنان، فهو أقوى من أن يحتاج إلى مثل هذه التزكية.
إنها محاولة لتنبيه المعنيين إلى خطورة ما يمكن أن تقودنا إليه الرعونة والمكابرة وادعاء القدرة على تحقيق انتصارات وهمية على قوى حقيقية لا تحول ولا تزول.
إن صرخات البطريرك الماروني، ومن معه، يجب أن تتجاوز الإطار الوجداني، إلى الفعل،
والمخاوف التي تبديها القوى والشخصيات السياسية من السقوط في لجة الفراغ القاتل يجب أن تتحول إلى عمل، إلى مبادرة إيجابية تساعد على كسر الجدار وفتح طاقة للأمل في غد مقبول للبنان واللبنانيين.
إن الذين ساهموا في إيصال بشير ثم أمين الجميل إلى سدة السلطة يجب أن يتحملوا مسؤولياتهم بإزالة آثار هذه الخطيئة المميتة،
إن الذين تلاقوا على الخطأ، أو صمتوا – خوفاً – عن الخطأ، أو برروا بالمنفعة أو بالجبن هذا الخطأ التاريخي واسبغوا عليه شرعية ما كان ليكتسبها لو ظل مجرد إجراء قمعي بادر إليه المحتل.. إن هؤلاء، وفيهم المسلم والمسيحي، مطالبون الآن ليس بغسل العار الذي أحلقوه بلبنان واللبنانيين. فالسياسة غير الأخلاق، ولكن بإصلاح ما أفسدوه في بنية لبنان وفي سلامة كيانه ونظامه وصولاً إلى ولوج العهد الجديد… بلا ألم!!
تماماً كما كان إلغاء اتفاق 17 أيار الحد الأدنى المقبول لاستعادة النظام اللبناني، ومؤسساته، بعض الشرعية التي أفقدها حين أخذ الحكم الانقلابي الكتائبي إلى اتفاق الاذعان ذاك،
المطلوب اليوم إلغاء حكم الانقلاب الكتائبي الذي عطل، عملياً، مؤسسات الدولة جميعاً، وأطلق رياح الفتن فعصفت بالفئات أو “العائلات الروحية” اللبنانية، ومكن لحكم ميليشيات الطوائف انطلاقاً من كونه منها، فهي تسانده وتبرر وجوده حتى وهي تدعي إنها إنما تقاتله.
والذين وضعوا الفيتو على ترشيح سليمان فرنجية وريمون اده، بالتحديد، إنما كانوا يحمون حكم الانقلاب الكتائبي، أي عهد الاختراق الإسرائيلي للنسيج الاجتماعي اللبناني، أي عهد غلبة الأجنبي على العربي في لبنان الذي يفترض أن يكون قد استقر في يقين الجميع الآن أنه يكون عربياً أو لا يكون أبداًز
إن وضع ذلك الفيتو لم يكن إعلان اعتراض على شخصين قد لا يكون أي منهما المنقذ أو رجل الحل العتيد، ولعل أياً منهما ما كان ليصل لو كانت الظروف طبيعية.
فالاعتراض مجاله مجلس النواب وليس قطع الطرقات إليه بالعصابات المسلحة.
والاعتراض، ليكون مشروعاً ومبرراً، يجب أن يصدر عن إرادة لبنانية، وليس من واشنطن ولا، خاصة، من تل أبيب.
وبرغم قوة الولايات المتحدة الأميركية، وقوة إسرائيل، فما زال بوسع اللبنانيين أن يكونوا باتفاقهم أقوى خصوصاً وإنهم يتفقون، هذه المرة، على ما يضمن مستقبلهم ووجود وطنهم وحياتهم فيه، وليس كيفية توزيع المناصب بين المسترئسين والمستوزرين والذاهبين إلى الحرب ضد الوطن تحت أعلام الطوائف أو الأجنبي.
فهل نسمع مبادرة للاتفاق الوطني؟!
هل نسمع مبادرة تصون الحاضر وتحمي المستقبل، بدلاً من حمايات الضمانات والامتيازات التي يكاد يصبح حكم الانقلاب الكتائبي جزءاً لا يتجزأ منها؟!
نتمنى أن يكون بين اهتمامات اللقاء في بكركي، واللقاءات الأخرى في الأمكنة الأخرى، توفير مناخ لمبادرة شجاعة تسحب الموضوع (والقرار) من واشنطن (وتل أبيب) وتعيدهما إلى بيروت.
والجغرافيا شرط للاتفاق!

Exit mobile version