طلال سلمان

على الطريق في انتظار حوار الكبار حول دويلات الصغار!

هل انتهت “الحرب” في “الشرقية” بهذا الاتفاق الغامض وغير المحددة أبعاده السياسية، بين العماد ميشال عون وسمير جعجع؟!
هل انتصرت “الدولة” على “الدويلة” ونال الجنرال “القرار” الذي كان يطلبه بدلاً من النصائح؟! وهل سويت الأمور العالقة جميعاً باتفاق تقاسم النفوذ والأرض والقرار الذي تم بين “جيش الشرعية” و”سلطتها” وبين “القوات اللبنانية” التي كانت تحتكر كل شيء مبقية هامشاً ضيقاً لغلالة الشرعية التي يمثلها الجنرال والتي كانت تحتاجها… حتى إشعار آخر؟!
هل انتزاع “القرار المالي” من يد “القوات” يعطل أو يحد من دورها السياسي الذي كان يقدم “الدويلة” في الشرقية بوصفها عنواناً لمشروع سياسي تقسيمي قد يجد له من يسانده خارج لبنان؟!
ثم أين دور البطريرك الماروني من اتفاق تقاسم النفوذ، الذي تم أثناء غيابه في الكويت؟!
هل يقبله ويقره محاولاً مرة أخرى استيعاب طرفيه بوصفهما جناحين لصاحب القرار والرأي الأخير المعتصم في مقر المرجعية المارونية في بكركي؟!
بمعنى آخر، هل يتولى البطريرك الماروني تحجيم ما تم التوصل إليه بين العسكرين المتنافسين، بحصره في الشأن الأمني، والتصرف وكأن الموقف السياسي للطائفة العظمى هو ما عبر عنه غبطته في الكويت؟!
فالعائدون من الكويت يتحدثون بدهشة من اكتشف إن الأرض كروية، عن تصلب البطريرك صفير، وعن امتناعه على كل محاولات الإقناع، وعن استعصائه على مختلف المساعي الحميدة التي بذلها معه بعض دهاقنة الدبلوماسية العربية وبعض المشاهير في مجال ابتداع الحلول الوسط الشهيرة، تلك التي لا تقتل الذيب ولا تفني الغنم!!.
يقول هؤلاء بلهجة من استقر على يقين: في الكويت تحققنا من إن زعيم التطرف الماروني في لبنان هو بطريرك أنطاكية وسائر المشرق.
ويقول هؤلاء إن المفاجأة شملت شيوخ المسلمين وبطاركة الطوائف المسيحية الأخرى بالإضافة إلى اللجنة العربية للاتصال والمساعي الحميدة برئيسها الكويتي واللبناني الهوى وأعضائها وبينهم حفيد الفينيقيين الآتي من قرطاجنة (تونس) الأمين العام الشاذلي القليبي.
أما من بيروت فيتساءلون: هل أثر موقف البطريرك بالسلب على حركة العماد عون وحاصرها في إطار حدود “الدويلة”، ثم هل تراه سيضغط الآن عليها أكثر بموقفه في الكويت، الذي على قاعدته سيتم استنفار النواب المسيحيين ليساعدوا غبطته على الاحتفاظ بالقرار بعيداً عن “طرفي الاقتتال المسيحي”؟!
إن مثل هذا الموقف، لو تم، سيكون في مصلحة سمير جعجع و”القوات”، وسيعقد أكثر فأكثر حركة العماد عون في اتجاه طموحه المعروف إلى الرئاسة الأولى،
وطالما إن صورة الدولة متداخلة كلية مع صورة العماد في الرئاسة، فإن ارتباك حركته سيؤذي فكرة الدولة بقدر ما سيخدم واقع “الدويلة”.
وقد يستفز موقف البطريرك الجنرال فيحاول أن يتحداه بتخطيه، لكن تلك قد تكون خطوة في الفراغ، أو هي على الأقل ستكون مهددة بافتقاد التغطية المسيحية المطلوبة لها.. خصوصاً إذا ما نجح صاحب الغبطة في عقد حلف مؤقت مع النواب يتسع بالضرورة لـ “قوات” سمير جعجع، بل هو قد يستند إليها.
وقد تتبدل المعادلات أو تهتز خالقة أوضاعاً جديدة من شأنها أن تؤثر على صورة الوضع العام في لبنان، وبالتحديد على صورة الوضع في الغربية الطري الآن كالعجين يتوقع أو يتهيأ لإعادة تشكيله بما يتناسب مع التحولات في الشرقية.
إن البطريرك يقول علناً إنه مع الدولة، لكن موقفه العملي لا يسهل “قيامتها” العتيدة،
فهو، أولاً، لا يخفي برودته (حتى لا نقول معارضته) لدولة ميشال عون،
وهو يرى إن “السان ميشال”، كما يسميه، مستعجل لتحقيق طموح بحيث قد لا يتوقف طويلاً أمام الثمن: طواش همه هو طالما إن الطايفة هي التي ستدفع”.
ثم إنه يعترف إن قيام دولة أخرى ، غير دولة ميشال عون، أمر صعب،
… ويعترف إن قيام دولة من دون ميشال عون أمر يكاد يكون مستحيلاً،
فما هو المخرج إذن؟!
والبطريرن، ثانياً، ضد ربط الاصلاح السياسي بالانتخاب الرئاسي، مع معرفته بأن هذا الاصلاح المطلوب – الذي قزمته الأحداث حتى بات شكلياً وفي أضيق نطاق – شرط لا بد منه لقيامة دولة لا تنهار عند أول هزة،
فأما النواب الذين من مصلحتهم المباشرة “عودة” الدولة فإنهم يلتقون مع البطريرك في محاولة إزاحة ميشال عون من طريق طموحهم.. ولما كان هو القوي بجيش يحاول أن يجعل بينه وبين الطائفة مسافة كافية لجعله جيش الدولة التي سيصير رئيسها، فإن النواب يحاولون الاستقواء بموقف البطريرك المتصلب الذي قد يفتح الطريق أمام مرشحين آخرين غير عون، ولكنه يسد الطريق إلى … الدولة!
تبقى “القوات”، وقائدها الذي يصل في الحديث عن الاصلاح والتغيير إلى حد القول بنسف صيغة 1943 واجتثاثها من جذورها، متحالف – موضوعياً – مع الأبناء الشرعيين لهذه الصيغة (النواب) ومع حامي حمى وجهها البشع المستعصي على أي إصلاح ينقذ الصيغة وأهلها ودولتهم الموعودة.
إنهم حلفاء الاضطرار في وجه مرشح الحاجة،
لكن تحالفه لا يمكن أن يقوم إلا على تطرف يستحيل معه الحوار مع الطرف الآخر، وفي الغربية، ناهيك بدمشق التي تقول مختلف العواصم الكبرى وتعيد كل يوم على مسامعنا إنها عاصمة الحل في لبنان حكماً.
في ظل هذا الوضع يتنفس المنتفعون بغياب الدولة، في الغربية، الصعداء، لأن الخلافات في الشرقية تخدمهم فتبعد عنهم “هذه الكأس”.
وهكذا تشكل ملامح أولية لحلفاء آخرين بالاضطرار أو بالفائدة المشتركة فيهم “شرقيون” و”غربيون”،
وهذا بين ما يعقد مهمة اللجنة العربية في دور انعقادها الثالث الذي تربكها شكلياته قبل مضمونه، والذي قد ينهي أمرها بتقرير ترفعه إلى مجلس الجامعة لينتفع به القادر على إحداث تبدل نوعي في الوضع الراهن.
ولقد ظهرت في الغربية بوادر حركة سياسية محدودة شعارها: مع عون ضد جعجع ضمن الدويلة، ومع جعجع ضد عون إذا ما حاول الجنرال التقدم في اتجاه الدولة…
فالتقدم في هذا الاتجاه يهدد بإلغاء قوى الأمر الواقع في الغربية أيضاً.
ومع إن الأكثرية الساحقة، في الغربية كما في الشرقية، تساند قيام الدولة وتنتظر بفارغ الصبر انبلاج صبحها، إلا إن المناورات السياسية التي قد تتكامل أو قد تتقاطع من فوق الرؤوس ، قد تلغي التأثير أو الفعل المرتجى لإرادة هذه الأكثرية التي ما تزال معزولة عن بعضها البعض بالبرازخ المسلحة لقوى الأمر الواقع،
… كل ذلك في انتظار أن يبدأ الحوار الجدي حول مشروع الحل العتيد للمشكلة اللبنانية.
فما تم حتى الآن سواء في تونس أو في الكويت، وما سوف يتم في الجولة الثالثة المفترض انعقادها خلال الأسبوعين المقبلين، يظل في خانة التمهيد وتحضير الملفات وكتابة المسودات.
أما الحوار الحقيقي فلن يبدأ إلا بعد أن تنهي اللجنة العربية مهمة الاستماع، واستيعاب دروس التجربة اللبنانية، والاصلاح من قرب على طبيعة النظام الفريد وصيغة الحكم العجيبة فيه،
… وإلا بعد أن تبدأ جولة المفاوضات السياسية بين “الكبار”،
فمهمة اللجنة الأكبر من أن تكون عربية، كما قال أمير الكويت، أن تيسر أمر الحوار بين “الكبار” في ضوء الوقائع الصغيرة للقوى الصغيرة في البلد الصغير،
وربما كان البطريرك يحتفظ بقراره لكي يبيعه للكبار مباشرة،
وكذلك ميشال عون،
وكذلك قوى الأمر الواقع في الشرقية كما في الغربية،
فالكل يريد ضمانات لغده، إن على مستوى الطوائف ومؤسساتها أو على مستوى الأفراد من قيادات الحرب والسلام وما بينهما، رجال كل الفصول الصالحين لكل مكان وزمان.
… والسؤال: هل تبقى ضمانات كافية لقيام الدولة ولاستمرارها، إذا ما نال كل أولئك الضمانات التي يطلبون؟!
ومن يوفر للدولة مثل هذه الضمانات؟!
وهل يمكن أو يجوز توفير ضمانات للدولة من الخارج ضد المستقوين عليها في الداخل؟!
وهل ينتهي الطموح بإقامة تحالف هش بين مجموعة من الدويلات في إطار دولة ما كل مهمتها التنسيق بين دويلات الطوائف أو مؤسساتها أو رجالاتها الأفذاذ؟!
وهل يرعب ممثلون التصلب الطائفي اللجنة العربية، والجامعة العربية، والكبار الآخرين، كما أرهبوا الجنرال، وهل يشلونهم جميعاً كما شلوا، حتى اليوم، الأكثرية الساحقة من اللبنانيين؟!
أم هو إرهاب مدروس ومخطط له للتحكم بشكل الدولة العتيدة وبمضمونها حتى تجيء منتمية إلى الأمس، والأمس هو الحرب، بدل أن تنتمي إلى الغد، غد العدالة والمساواة والتحرر ونقاء الهوية القومية وكلها شروط للسلام المرتجى؟!
والجواب المطلوب عربي،
وربما “أكبر من أن يكون عربياً”، على حد حد تعبير أمير الكويت، المقتر حتى في كلامه ، والذي لا يقول عادة إلا ما يعرف إنه سيكون مسموعاً، لأنه ناقل الرسالة وليس كاتبها،
والأمر من قبل ومن بعد للذين يوجهون الرسائل وليس للذين ينقلونها أو يسمعونها فلا يعونها.

Exit mobile version