طلال سلمان

على الطريق في انتظار الهجوم المضاد الإسرائيلي: المؤتمر ليس هو السلام…

بالبيان الصادر عن القمة الأميركية – السوفياتية في موسكو، أمس، تحوّل “مؤتمر السلام” لتسوية “أزمة الشرق الأوسط”، من فكرة مقبولة أو إعلان نوايا طيبة إلى احتمال جدي ومشروع سياسي خطير تدعمه أقوى القوى الدولية وتمنحه فرصة التحققز
لقد اكتسبت الفكرة باللحم والعظم، ونفخت فيها الروح فصارت جنيناً يملك – من حيث المبدأ – مقومات النمو والخروج إلى … الحياة.
لكن، لا بد فوراً من قليل من الاستدراك:
فإذا كان من الخطأ الفاضح بناء السياسات، بعد، على افتراض أن المؤتمر العتيد لن يعقد أبداً، فإن من الخطايا المميتة أن تبنى سياسات أخرى على افتراض إن هذا المؤتمر سيعقد غداً.
وأكثر بؤساً تلك السياسة التي قد تبنى على افتراض إن المؤتمر يحقق أهدافه الصعبة بمجرد انعقاده. والحكيم من يفترض إن “مجرد الانعقاد” قد يكون هو البديل (الإسرائيلي في أي حال، وربما الأميركي أيضاً) عن المؤتمر ومداولاته وبالتالي عن النتائج المتوخاة منه.
فالمؤتمر هو غير “السلام”. والمؤتمر قد ينعقد في المدى المنظور، لكن “السلام”، وبأي مفهوم غير إسرائيلي، قد لا يتحقق خلال هذا القرن.
المؤتمر مسيرة طويلة جداً ومعقدة جداً على أرض مليئة بالألغام والأفخاخ والكمائن والمصالح المتضاربة.
وهي عملية قد تستغرق جيلاً أو جيلين، وربما أكثر، إنها تستهدف “تسوية” صراع لا يسوى، من حيث المبدأ، إلا بزوال أحد طرفيه اللذين يجهر (أو كان يجهر) كل منهما برغبته في إلغاء الطرف الآخر. وبالرجوع إلى الحرب الصليبية أو إلى تاريخ “دولة إسرائيل” التي قامت في بعض مراحل التاريخ القديم في هذه المنطقة، ثم اندثرت، يتبين كم هو صعب “الصلح” على قاعدة الاعتراف بالأمر الواقع المفروض بالقوة، بل إنه أصعب من الحرب ذاتها، وفي الغالب الأعم أبهظ بكلفته وأعظم بويلاته التي ترسخ آثارها في الوجدان فلا تزول.
إن ارتداء جورج بوش قميصاً يختزل خريطة الكون بمقاسه الشخصي لا ينصبه سيداً للكون بالمطلق، و”لمدى الأزمان” وفي جميع الأمكنة، وإزاء جميع الأزمات والمشكلات والمنازعات الدولية… لاسيما حيث يتصارع الماضي والحاضر على أرض المستقبل، وحيث تتناقض الأحلام مع الوقائع الباردة، وحيث ترتطم الإرادات بالمصالح، وحيث تخوض الأديان والقوميات والعناصر حرب إثبات الذات أو توكيد جدارتها بالحياة، ودائماً على حساب بعضها البعض.
كذلك فإن التفاهم الأميركي – السوفياتي لا يلغي قوة تأثير، أو بتعبير أدق: قوة تعطيل الأطراف الأخرى، ومهما كانت صغيرة، ولو عن طريق المماطلة والتذرع بعوامل الخلاف المحلي التي لا يحلها الاتفاق الدولي، أو بغياب الوحدة الداخلية التي يحتاجها الاتفاق الدولي.
وقبل أربع عشرة سنة، لمن لا يملك ذاكرة قوية، صدر في نيويورك وعلى هامش أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة، بيان أميركي – سوفياتي شهير حول “التسوية في الشرق الأوسط”، واعتبر ذلك البيان فتحاً وخطوة واسعة على طريق المؤتمر الدولي للسلام، لكنه مع الأسف لم يعمر إلا أياماً سقط بعدها بكل جلال التواقيع عليه… ثم نسف السادات مضمونه نهائياً حين توجه في زيارة الاستلام الشهيرة إلى تل أبيب.
بعد الاستدراكات يمكن تسجيل بعض الملاحظات السريعة والأولية ومنها:
1 – إن البيان المقتضب الذي صدر معلناً اتفاق الرئيسين بوش وغورباتشوف على الدعوة إلى “مؤتمر السلام” الدولي بطبيعته وإن لم يكن بتسميته، خلال شهر تشرين الأول (أكتوبر) المقبل، خلا من تحديد المكان، والزمان بالدقة، وبعض “التفاصيل” الأخرى المهمة، معلقاً ذلك كله على الجواب الإسرائيلي المنتظر، بعد، والذي لا توحي مقدماته “بالايجابية” المطلوبة لتأمين انعقاد – مجرد انعقاد – المؤتمر.
وللمناسبة فقد تتركز المناورة الإسرائيلية، الآن، على استنزاف العرب، والفلسطينيين منهم بالذات، وربما بعض الأطراف الدولية، في “حرب” الجواب الايجابي بقبول المشاركة في المؤتمر، حتى إذا انعقد وملأت صورته شاشات التلفزيون وعممتها الأقمار الصناعية على العالم، وقضى كل طرف منه وطره، أنهته إسرائيل بالضربة القاضية وسط ضجيج فرح المعنيين بأنهم قاموا بواجبهم كاملاً وليست مهمتهم ضمان النتائج!
2 – إن كلا من الدولتين العظميين (ولو رمزياً بالنسبة للسوفيات) قدم رشوته الخاصة لإسرائيل، بأمل أن تمن عليهما بالجواب الايجابي المرتجى.
فوزير الخارجية الأميركي سيجيء اليوم في جولته السادسة بالمنطقة بمهمتين متكاملتين:
*الأولى – “إقناع” حكومة شامير بالموافقة على الموعد والمكان وجدول الأعمال، لقاء ما لا يعلم إلا الله من “ضمانات” و”تقديمات” و”تعهدات”، لا بد أن تتم على حساب العرب جميعاً والفلسطينيين منهم على وجه الخصوص.
** الثانية – المساعدة على تذليل “عقبة” التمثيل الفلسطيني، ومن هنا إن جولته الجديدة ستشمل:
أ – تونس حيث تستقر منظمة التحرير الفلسطينية كضيف ثقيل وغير مرغوب فيه ولكن الضرورات فرضت إيواءه…
ب – المغرب حيث الملك الحسن الثاني مستعد دائماً لاستخدام ذكائه ونفوذه وعلاقاته الشخصية من أجل “تليين” الموقف الفلسطيني،
ج – الأردن، حيث الملك حسين يكاد ينجز خطته البطيئة والمتقنة الأعداد لتطويع “الفلسطيني” بحيث يجيء الوفد المشترك مؤدباً ومنضبطاً وملبياً للشروط الإسرائيلية كما لضمانات استمرار العرش الهاشمي، وهو الوجه الآخر للصورة.
وإذا كان ملفتاً أن تسقط دمشق والقاهرة من جولة بيكر “الحاسمة” في الإعداد للمؤتمر، فإن التدقيق في المواقف المعلنة يؤكد طبيعة المهمة الإسرائيلية لوزير خارجية بوش الآن، بخلاف جولاته السابقة، والتي كان يراعي فيها التوازن – في الشكل على الأقل – بين طرفي الصراع العربي – الإسرائيلي.
أما الوزير السوفياتي فيعلن عن رشوته حتى من قبل أن يجيء : عودة الاتحاد السوفياتي نهائياً إلى بيت الطاعة الغربي، معلناً توبته، معتذراً عما تقدم من ذنبه إزاء إسرائيل وما تأخر.
3 – إن البيان باقتضابه، والتكتم الذي رافق إصداره، والصمت البليغ لجيمس بيكر، والتراجع الأميركي العلني الذيب رافقه بالاعلان عن عودة بيكر إلى المنطقة، وفاقا لما كانت أصرت عليه إسرائيل وخلافاً لما كان أعلنه الرئيس الأميركي شخصياً،
كل ذلك مضافاً إليه التسليفات التي قدمها العرب من إعلان دول مجلس التعاون الخليجي استعدادها للمشاركة ولو كمراقب (!!) في المؤتمر، إلى التبرع بإعلان الاستعداد لإنهاء المقاطعة العربية مقابل وقف بناء المزيد من المستوطنات (!!) وانتهاء بالتوصيف الأردني للمشاركة الفلسطينية،
إن كل هذه التقديمات والرشاوى والتسليفات لا تلغي إمكان لجوء الإسرائيليين إلى ورقتهم الأقوى (وليس الأخيرة) وهي التذرع بالخلافات الداخلية وبانقسام (جدي أو مفتعل) في الحكومة، ثم بين الحكومة والمعارضة، مما الناخب الإسرائيلي، لكي يختار حكومة أغلبية مؤهلة لاتخاذ قرارات مصيرية كهذه،
وهذا معناه تجميد الوضع لمدة لا تقل عن ستة أشهر طويلة وكافية لاستيلاد مجموعة من التطورات اللاغية أو المعطلة لمضمون البيان الأميركي – السوفياتي الجديد.
فإذا كان ما يهم الإدارة الأميركية أن تظهر “صداقتها” للعرب، و”وفاءها” لدورهم معها في حرب الخليج، عبر إظهار جديتها في العمل على عقد المؤتمر، فإن هذا الهدف قد تحقق فعلاً ببيان الأمس،
وإذا كان الاتحاد السوفياتي يريد إظهار توازنه الجديد في علاقاته مع طرفي الصراع وعدم انحيازه لأصدقائه القدامى من العرب، وفي الوقت ذاته عدم تخليه عن شعاره الأثير، السلام، فإن هذا الهدف قد تحقق أيضاً ببيان قمة الأمس في موسكو.
إذا كان الهدف هو “المؤتمر” وليس السلام، فما تحقق يفوق التوقع، وقد يكون بنظر الساعين إليه كافياً.
أما السلام فليس هو بعد صدور بيان قمة موسكو بأقرب كثيراً مما كان قبل صدوره.
باللغة الدبلوماسية يمكن القول إن العرب قد سجلوا “نقطة” لصالحهم في الحرب الطويلة والمريرة، وعلى المستوى الدولي، مع عدوهم الإسرائيلي.
وإذا كان لا بد من التنويه بالدور السوري البارع والنشط في تحقيق مثل هذه النتيجة، فلا بد أيضاً من التنبيه إلى أن الهجوم المضاد الإسرائيلي لم يقع بعد، وهو قيد التجهيز، وهو يملك من القدرات ما يتجاوز أفق الوضع العربي الراهن وقدرته على التأثير.
لقد أحبطت حكمة القيادة السورية وحسن قراءتها للتحولات الدولية واستيعابها لنتائج حرب الخليج، الخطة الإسرائيلية الخبيثة التي حاولت أن تصوّر العرب، في ضوء نتائج تلك الحرب، وكأنهم مجرد قطيع خلف صدام حسين الذي قادهم عبر مغامرته البائسة في الكويت إلى حرب ضد العالم كله… وبالتالي فهم مهزومون معه، وعليهم أن يتقبلوا شروط المنتصر (الأميركي) وحلفائه وفي مقدمتهم الحليف الإسرائيلي الأهم (الإسرائيلي).
وكان الرد الإسرائيلي على الجواب السوري الايجابي على مبادرة بوش حملة إعلامية وسياسية شرسة حاولت عبرها أن تصوّر الرئيس السوري حافظ الأسد وكأنه صدام حسين آخر، لتشويه صورته دولياً، أما على المستوى العربي فحاولت تشبيهه بأنور السادات لتستعدي عليه العرب عموماً والفلسطينيين منهم على وجه الخصوص.
على إن هذا الرد الأرعن قد أعطى نتيجة عكسية: فصورة حافظ الأسد عربياً ودولياً أفضل مما كانت عليه قبل حرب الخليج بما لا يقاس.
أما اليوم فإسرائيل مطالبة من العالم أجمع بموقف غير ما تعودت تسويقه ببساطة: إنها دولة ضعيفة، مطوقة ومهددة بسيوف القبائل العربية المتوحشة والمتخلفة والمعادية للحضارة الإنسانية ولمنطق العصر.
إن إسرائيل القوية، بذاتها كما بتحالفاتها، هي المطالبة بجواب.
والمؤتمر الدولي معلق على هذا الجوب، وعلى جواب آخر يكاد يشكل الوجه الثاني للعملة المعدنية: أي الجواب الفلسطيني الذي لا تكفي تصريحات ياسر عرفات المتسرعة والمتلهفة والمتنازلة لتشكيل مضمونه.
إن رحلة الألف ميل التي تبدأ بخطوة، قد بدأـ…
بقي تحديد السرعة والوجهة وقوة احتمال السائرين ووضوح الهدف.
فالسلام هو الهدف لا المؤتمر، والصراع العربي – الإسرائيلي هو الموضوع وليست بضعة أميال من الأراضي العربية الشاسعة يضن العرب بها على أبناء عمومتهم من اليهود.
السلام هو الهدف، لا المؤتمر.
وليس القادر على عقد المؤتمر قادراً بالضرورة على صنع السلام للآخرين، خصوصاً إذا كانوا أضعف من أن يستطيعوا تحقيقه بشروطهم وبقواهم الذاتية.

Exit mobile version