وفي اليوم العشرين جاءت “إجازة الأمير” لتعطي البرلمانيين اللبنانيين فرصة للتنفس وإعادة تقييم ما أنجزوه من مهمتهم التاريخية التي كادت تنوء بثقلها أكتاف الرئاسة والمؤتمرين وشهود الحال،
هدأت دوامة المناقشات والمناكفاتن بالمزايدة والمناقصة، والمماحكات المضنية حول السيادة والانسحاب ومستقبل العلاقات اللبنانية – السورية، وموقعها جميعاً على خريطة اهتمامات الطوائف، كل بحسب ولائها للكيان الخالد الذي رفع أخيراً إلى رتبة “وطن نهائي”!!
وسط الهدوءشبه الشامل، والبطالة، وفي ظل جو كئيب في الخارج، حيث الضباب يغلف معالم الطرقات والأبنية، وحيث الغيم المثقل بالمطر، تسللت الأسئلة والتساؤلات تباعاً ولكنها تنطلق من المصدر ذاته:
-ماذا بعد عودة الأمير سعود الفيصل من دمشق بالكلمة الفصل؟!
إن النجاح هنا يعني اقتراب موعد المواجهة المباشرة مع المتضررين من وقف الحرب وإنهاء الأوضاع الشاذة في لبنان، وفي مقدمهم “الجنرال” الذي أشاعت أوساطه، أمس، إنه طالب النواب بالانسحاب من المؤتمر… ومن مشروع الحل.
فهل النواب في أحسن حالاتهم استعداداً للمواجهة؟!
هل تصارحوا وتعاتبوا وتقاربوا واستعادوا جو علاقات الزمالة والصداقة، والأهم الثقة والاقتناع المشترك بمشروع الحل المطروح، ليس بوصفه الخيار الأمثل ولكن بوصفه الخيار العملي الوحيد المتاح في هذه اللحظة السياسية بالذات؟
هل سحبت من التداول كل تلك الذرائع التي كانت “تكبر” الجنرال وتحاول أن تحجز له دوراً في المستقبل من خلال تعظيم حجم الخوف منه؟!
هل انتهى أوان المزايدات بادعاء الحرص على السيادة، وكان غلاة المزايدين لم يتراكضوا إلى ثكنة الفياضية لانتخاب بشير الجميل وهو في ذروة تحالفه مع قوات الغزو الإسرائيلي، ولم يتراكضوا ثانية لانتخاب شقيقه أمين بحماية الدبابات الإسرائيلية ذاتها، ولم يقروا اتفاق 17 ايار السيء الذكر وكأنه الضمانة الأكيدة للعنفوان وللاستقلال ولبسط السيادة على التراب الوطني بالكامل؟!
ما علينا لنمد البصر إلى المستقبل، فهو موضع الاهتمام ومصدر الرجاء،
هنا تلخيص سريع لحوارات متعددة مع بعض النواب، وبالذات ممن عرفوا أو عرّفوا بالمتشنجين والمتطرفين.
يقول هؤلاء، بلسان واحد من أذكاهم وأنشطهم حركة في مناقشة بند السيادة:
-إن الضمانة الأهم للمستقبل ما توافقنا عليه من إصلاح لوجوه الخلل في النظام السياسي.
في “العهد الجديد” لن يكون هناك “مهيمن” فرد، ولن تكون هناك هيمنة لطائفة بالذات،
وهذه ليست ضمانة للمواطن في لبنان فحسب، بل هي ضمانة لعدم انحراف الحكم، كائناً من كان الحاكم، ولعدم التفريط بانتماء لبنان القومي ودوره العربي…
وبهذا المعنى فإن لبنان “العهد الجديد” لا يمكن أن يشكل مصدر خطر على سوريا أو مصدر تهديد لأمنها الوطني، إذ لا يمكن – مثلاص – أن تتكرر تجربة أمين الجميل واتفاق 17 ايار.
*ويقول هؤلاء النواب:
-ليس مهماً أن تكون ارتفعت بعض الأصوات بالمزايدة. هذا متوقع ويمكن أن يحدث في أي مكان أو زمان. المهم أن هذه الأصوات لم تؤثر، جوهرياً، على السياق العام للنقاش. لعلها عطلت بعض الوقت، لعلها شوشت، ولكن ما استقر عليه الرأي لا يعكس أبداً ما كانت تنادي به. لقد تم استيعابها وانتهى الأمر بأصحابها إلى ترك الرأي لأصحاب الرأي…
*يضيف بعضهم ممن اشتهر عنهم قيادة موجة المزايدة:
-لقد كان ضرورياً أن نواكبهم، أن نمشي معهم إلى نهاية الطريق، ليمكننا من بعد أن نعيدهم إلى حظيرة التوافق الوطني. لو تركناهم لعطلوا المؤتمر، بل لربما كانوا نسفوه، ولعل بعضهم كان مكلفاً، أو ربما كان مأجوراً لهذه الغاية.
*ويقول هؤلاء:
-لقد وقعت حالات ظلم فاضحة.
ظلم المسيحيون حين صوروا وكأنهم أعداء للاصلاح، اضطروا إلى التسليم به صاغرين،
وظلم الميسلمون حين صوروا وكأن السيادة لا تعنيهم من قريب أو بعيد، وإنهم تركوا شأنها للمسيحيين، فإن نجحوا شاركوهم وإن هم فشلوا تنصلوا منهم.
ظلم المسيحيون حين اعتبر البعض مهمتهم وكأنها محاولة لإنقاذ ميشال عون، في حين إنهم تضرروا منه أكثر مما تضرر المسلمون.
وظلم المسلمون حين أراد البعض إظهارهم وكأنهم بلا رأي ولا موقف.
لقد كنا أمام معضلة، وكان علينا أن نعالجها بكثير من الصبر والحكمة. وكان علينا، بداية، أن نرمم العلاقات في ما بيننا، كان كل منا يعيش أسير معاناته في البيئة التي فرضت عليه ظروف الانقسام أن يكون فيها وبالتالي فلم تكن لنا الرؤية نفسها، لأن كلا منا كان يرى الخصم في المتحكم بحياته وبدوره حيث يهيمن، بينما لا مشكلة جدية له مع المهيمن في الجهة الأخرى.
ويقول هؤلاء:
-في ما عدا بعض الحالات الشاذة فإن الأكثرية الساحقة من النواب متفقة حول توصيف الأزمة وتوصيف الحل.
لا أحد منا ضد العلاقة الممتازة، أو “المميزة”، مع سوريا، برغم إن هذه الكلمة تنفر كل أولئك الذين يعيشون أسرى تجارب الماضي، وبالتحديد تجربة “الاتفاق الثلاثي”.
ولا أحد منا يريد انسحاباً فورياً للقوات المسلحة السورية من مناطق تواجدها في لبنان، بل لعل بيننا من يقدر إن مهلة السنتين غير كافية لأن تتمكن الدولة اللبنانية من بسط سيادتها وبقواها الذاتية عبر مختلف المناطق، وبالتالي فلا بد من الطلب إلى الحكومة السورية أن تبقي قواتها لفترة أطول،
ولا أحد منا يعترض، من حيث المبدأ، على استمرار الدور الأمني للقوات السورية، في المدى المنظور، خصوصاً وإن “حلم” حل الميليشيات قد يستغرق زمناً أطول من فترة الشهور الستة الملحوظة في وثيقة الوفاق الوطني،
على إننا نريد وضوحاً قاطعاً في استخدام التعابير والكلمات، منعاً لأي إشكال أو التباس أو سوء فهم يخلخل علاقتنا مستقبلاً بالأخوان السوريين.
مفهوم إن المنطق قد اختلف في اليوم العشرين عنه في اليوم الأول للمؤتمر،
ومفهوم أن تكون حسابات ما بعد الطائف قد غلبت الآن على حسابات ما قبلها،
ومفهوم أن تكون المعطيات السياسية الجديدة قد عكست نفسها مباشرة على تفكير النواب، ومصالحهم، ومن ثم مواقفهم.
فالأغلبية الغالبة من نواب “الشرقية” قد تخلصت من عقدة الرعب من “الجنرال”،
لقد رافقته وهو يخسر مواقعه واحداً تلو الآخر في الداخل والخارج، فلما وصلت إلى الطائف تحققت من إنه صار أثراً من الماضي.
لم يعد “الجنرال” شبحاً مخيفاً يملأ الأفق، ويقتحم غرف النوم والطموحات والأحلام ومشاريع المستقبل،
لم يعد “قائداً”، ولم يعد وعداً بغد أفضل (هذا إن كانه في أي يوم)،
لم يعد صورة شوهاء لحلم ليلة صيف، فبشير الجميل نفسه قد مات وبطريقة ترسم مصير من يتبع الطريق ذاتها، فكيف بمقلدي بشير من دون الظروف السياسية التي أبرزته وفرضته على اللبنانيين والعرب في لحظة هزيمة قومية؟!
لقد تهاوت صورة “الجنرال” فعادت إلى الحجم الطبيعي، بل إلى ما دونه، فمن يقبل اليوم بميشال عون قائداً للجيش أو شاغلاً لأي موقع أو مكلفاً بأية مسؤولية في “العهد الجديد”؟!
قبل مؤتمر الطائف كان ميشال عون قد انتهى،
وعلى حد تعبير أحد “نواب المزايدة” فإن أبرز دليل على سقوط أسطورة ميشال عون هو انعقاد مؤتمر الطائف وقدوم النواب إليه بأكثريتهم الساحقة الماحقة.
ثم إن مؤتمر الطائف كان فرصة لبلورة “موقف ماروني” جديد كان جنينا بعد في الأسابيع السابقة عليه.
“الموقف الماروني” الجديد يضم تحت لوائه البطريرك صفير والنادي السياسي ممثلاً بالنواب (والشخصيات إجمالاً) وكذلك “القوات اللبنانية” التي لم تجهر برأيها صريحاً بعد، ولكنها تحاول تمييز نفسها بكل وسيلة ممكنة عن “جنرال التحرير” إن لم تكن تحرص على إظهارتناقضها معه.
و”الموقف الماروني” الجديد حاول أن يقايض بالاصلاح تحقيق بعض مقولاته حول السيادة، لكنه لما جوبه بالمعطيات السياسية القائمة، محلياً وعربياً ودولياً، اضطر إلى التراجع، وصار مستعداً للاكتفاء بجائزة ترضية وبسلاح ما لمواجهة “الشارع” الذي أهابه “الجنرال” ودفعه وحشاً بلا رأس يخوّن “منافسيه” والمخولين بابتداع بديله الشرعي عبر تجديد هيكلية الدولة ومؤسساتها.
لا أحد مع “الجنرال” باستثناء منتفعين يعدون على أصابع اليد الواحدة.
هناك بعض المهووسين، لكن هؤلاء لم يلبثوا أن عادوات إلى عقلهم بعدما أنار النقاش، لاسيما مع اللجنة العربية الثلاثية، الطريق أمامهم.
ومن الإنصاف أن يذكر للجنة العربية، بشخص الأمير سعود الفيصل، ثم بشخص الأخضر الإبراهيمي، من دون أن ننسى الآخرين، إنها لعبت دوراً قومياً ينضح بالحرص على لبنان، وعلى المسيحيين فيه بشكل خاص، قدر ما هو حريص على سوريا وأمنها ودورها الحيوي في هذه المرحلة الدقيقة.
لم تجامل اللجنة، ولم تدار، ولا هي عمدت إلىذلك الأسلوب الممجوج من النفاق السياسي بحجة إظهار التسامح مع “الأقليات”، درءاً لتهمة التعصب أو لشبهة الانحياز.
وعبر المناقشات الصريحة والحجج القاطعة استطاعت اللجنة العربية دحض منطق المزايدة الطائفية (سواء أصدرت عن مسيحيين أم عن مسلمين) ورشدت الحوار وجعلته صحياً، ولو كان بين مختلفين سياسياً.
وفي انتظار فرصة تقييم شامل لدور اللجنة العربية، بأعضائها جميعاً، فإن ما يمكن الاشارة إليه هنا هو إن اللجنة كانت “لبنانية” بين العرب، بأكثر مما يقول غلاة “اللبنانيين”.
وباختصار فقد حقق مؤتمر الطائف، حتى “إجازة الأميرط في اليوم العشرين من أيامه التي قد تمتد أسبوعاً آخر، القسط الأوفر من شروط نجاحه.
وفي انتظار كلمة دمشق الفاصلة حيث تكتمل هذه الشروط، لا بد من تركيز الجهد وتوجيهه إلى المرحلة التالية والأخطر من مراحل الخطة العربية لتحقيق الوفاق الوطني في لبنان، بالتمكين لقيام “العهد الجديد”،
لقد سقط “الشبح” في الطائف، وسقطت معه مقولات وطروحات قديمة تختلط فيها الأساطير بالأكاذيب بالوقائع التاريخية المزيفة،
لكن كل هذا الذي تم ليس أكثر من خطوةأولى على طريق طويلة طويلة أين منها الألف ميل!
فما تم في الطائف هو، في أحسن الحالات، إعلان نوايا،
والامتحان الحقيقي في بيروت، وليس إلا فيها،
فبقدر ما يتحول التوافق المبدئي هنا إلى موقف صلب في بيروت، نكون قد اقتربنا من بداية النهاية لعصر الحرب،
لقد تلاقى اللبنانيون فاتفقوا، فعلاً، على شروط حياتهم في أفياء السلام الموعود،
وليس بالمصادفة إن “الضحية الأولى” لتوافقهم كانت ذلك “الجنرال” الذي جاء ثمرة فجة لترسبات عصر هيمنة الطائفة العظمى وسيادة مقولاتها الانعزالية و”نجاحات” سياستها القائمة على استنفار التعصب الطائفي واستثماره.
فالحرب الأهلية هي أعظم منجزات ذلك العصر “الكتائبي”، عصر دولة الطائفة الواحدة، التي زورت هوية لبنان وألغت إنسانه فكادت تنهيه وتشطبه عن الخارطة تماماً،
ولنأمل أن يكون اللبنانيون المشبعون، الآن، بدروس الحرب وعبرها المريرة، قد بلغوا المستوى اللازم لكسب معركة “الحرب على الحرب” ورموزها جميعاً في بيروت.. أميرة الحزن العربية التي تنتظر من زمان فجر فرحها الموعود!