طلال سلمان

على الطريق في انتظار الدولة و… الاستقلال

لا نحب أن ننغص فرحة الاحتفال بالذكرى الخمسين للاستقلال، ولكننا لا نستطيع اصطحاب عقولنا معنا إلى احتفال فولكلوري، بينما هم المستقبل والمصير يضغط على الأعصاب ولا يبقي للفرح في الصدر مكان.
ولقد تأخرنا في التعرف إلى الاستقلال حتى إذا جاء يوبيله الذهبي كانت دول العالم بمعظمها، الأكبر مساحة وعدداً والأخطر شأناً، قد هجرت الاستقلال أو هُجرت منه ملتحقة بالنظام العالمي الجديد!
ومن الصعب الحديث عن استقلال، في منطقتنا، بينما العصر الإسرائيلي يمد ظلاله ويفرض منطقه بقوة احتلاله أصلاً، ثم بقوة الاتفاقات المنفردة التي تشرع ذلك الاحتلال بقدر ما تلغي “دول” من يوقعها من العرب.
واستقلال لبنان كان على الدوام مرتبطاً بدوره، ودوره كان نابعاً من التضامن العربي، فعلى قاعدة ذلك التضامن قام الكيان السياسي اللبناني واستمر… والآن لا تضامن ولا دور بالتالي، وقد سقط التضامن لحساب العدو الإسرائيلي مسقطاً معه دور لبنان، فأي استقلال يتبقى؟!
وفي زمن الاستعمار الآتي عبر البحار، والمتمثل في الاحتلال العسكري المباشر، كان النضال أسهل، وكانت المقاومة مشروعة وممكنة وفعالة، أما في زمن الاجتياح من الداخل فإن مجرد الحديث عن الصمود وعن التصدي للغزو الثقافي أو الاقتصادي وعن الحرص على الشخصية الوطنية يبدو مستهجناً وينسب إلى الماضي وإلى التحجر العقائدي!
ربما كان آل الصلح على حق في اعتبارهم الاستقلال إرثاً أو إبداعاً عائلياً أو وقفاً ذرياً، إذ لا يتهم غيرهم من الساسة اللبنانيين بهذه المناسبة إلا من باب الحفاظ على صورة ترضي العامة وتحفظ ماء الوجه وتعزز الوجاهة.
وكان ملفتاً ومثيراً للأسى أن يُلغي الاحتفال بذكرى جلاء الجيوش الأجنبية (والفرنسية تحديداً) عن لبنان بعد الاستقلال بثلاث سنوات،
ربما ذلك لا يعرف أطفالنا عمن استقل لبنان،
وربما لذلك أيضاً كان للاستقلال في الماضي معنى مضمر في أنه استقلال عن العرب أكثر منه عن الغرب.
فتاريخ الانتداب الفرنسي ليس أسود، كما كنا نتعلمه، وليس مسيئاً إلى كرامتنا الوطنية بدليل أن الشوارع الأساسية وبعض الساحات في عاصمتنا تحمل أسماء جنرالات المستعمر وفي الطليعة منهم مبتدع الكيان السياسي لدولة لبنان الكبير، الجنرال غورو، وهي قد صارت بعد عقدين من الزمن جمهورية أولى ثم بعد نصف قرن إلا قليلاً جمهورية ثانية والخير لقدام!
دار الفلك دورة كاملة، في نصف قرن، وها هي فرنسا التي كانت إمبراطورية ولبنان واحدة من أصغر مستعمراتها، تعيش وكأنها تحت الانتداب الأميركي، لا تملك أن تقرر ليس فقط في ما يخص الآخرين بل أيضاً في ما يخص مستوى المعيشة فيها وطموح الفرنسيين على دور، أي دور.
كانت الحرب العالمية الثانية التي أسقطت الإمبراطوريات القديمة (بريطانيا وفرنسا وإيطاليا واليابان وهولندا…) معبراً للشعوب إلى استقلالها، إذ هي أفادت من الصراع الدولي للخروج من فلك النفوذ الاستعماري لهذه الدولة الكبرى أو تلك إلى رحاب الاستقلال.
وفي ظل الحرب الباردة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية واستمرت حتى سقوط الاتحاد السوفياتي (عملياً) في آخر السبعينات، أمكن لهذه الشعوب ودولها الحديثة الاستقلال، أن تعيش عصرها الذهبي، فبدا وكأنها تمسك بزمام القرار الدولي من خلال أصواتها في الأمم المتحدة، وقوتها السياسية ممثلة بكتلة عدم الانحياز والقيادات التاريخية التي كانت لها في قارات العالم الثالث الذي لعب لفترة طويلة دور “الصوت المرجح”.
اليوم وفي ظل هيمنة القطب الأوحد تبدو كلمة الاستقلال وكأنها تنتمي إلى الماضي السحيق.
ولقد سحبت من التداول كلمات أخرى مثل الثورة، التحرر، الشعوب، السيادة، لتحل محلها كلمات وتعابير تجعل الفرد أهم من وطنه وحرية السوق أهم من الاقتصاد الوطني، والشركة، لاسيما المتعددة الجنسية، أهم من الدولة.
ليس فقط أن العالم قد بات قرية صغيرة، بل إن زمام هذه القرية ملك لدولة واحدة، لها الفضاء وأقماره الطبيعية والصناعية والأرض ومَن عليها وما تحتها على وجه الخصوص.
فهل تبقى من الاستقلال أكثر من الفولكلور؟
قبل خمس وثلاثين سنة طور الصلحيون الشعارات الاستقلالية، فبدلاً من الحديث عن “استقلال الدولة” بلسان بشارة الخوري تحدثوا عن “دولة الاستقلال” بلسان فؤاد شهاب.
اليوم وبعد خمسين سنة من إعلان الجمهورية اللبنانية كدولة مستقلة يفتش الناس فلا يكادون يجدون أثراً لاستقلال الدولة ولا خاصة لدولة الاستقلال.
وليس مؤكداً أن يكون الجيل السابق على جيلنا قد عرف “الدولة”، وإن كنا جميعاً نعرف أسماء عشرات ممن يعتبرون أنفسهم “أصحاب الدولة” بالمعنى الفعلي وليس كلقب شرفي.
لذا لا بد من الدولة، أولاً، لكي يمكن الحديث بعد ذلك عن الاستقلال.
لا بد من الدولة وإلا تهاوى هذا الكيان السياسي الذي استولدته ظروف دولية وعربية محددة، واندثر، خصوصاً وإن ولاء الفرد فيه لنفسه ولمصالحه (وربما لطائفته) أقوى بكثير من ولائه للتراب الوطني أو للهوية القومية.
وما من شك في أن لبنانية اللبنانيين قد تعمقت خلال المحنة، وفي أن ارتباطهم بهذه الأرض قد ترسخ، برغم دهر الحرب الأهلية أو ربما بسببها.
وما من شك في أنهم قد “استقروا” فيه أكثر من الماضي، وحتى إذا غابوا عنه فهو لا يغيب عنهم ويظل حلم العودة إليه ثابتاً في الوجدان.
لكن لبنان اللبنانيين لا يقوم فوق أرض محددة. إنه شعور عاطفي، وربما عصبية أكثر منه ارتباطاً بالأرض والثقافة والاقتصاد والإنتاج.
وما ينقص هذه العصبية لكي تتحول إلى انتماء وطني وإلى التزام بقضية البلاد أن تكون للبنانيين دولة،
فالدولة هي الناظم للعلاقات الاجتماعية – الاقتصادية – السياسية، وهي الضامن للمساواة وتكافؤ الفرص، والراعي للحد الأدنى من العدالة.
الدولة بما هي حقوق الكل، بلا ميزة أو امتياز، بلا غبن أو إجحاف، بلا تفرقة تعطي بعض الناس فوق ما يستحقون وتحرم الآخرين من أبسط حقوقهم… حقوق الإنسان!
ليس الوطن قصيدة وأغنية،
وليس الوطن جبالاً وسهولاً وفقش الموج عند الشاطئ اللازوردي،
الوطن بإنسانه أولاً،
والوطن مزيج من القمح والشعر وهمسات الحب الأول، من الموارد ووسائل الإنتاج والأحلام السنية، من العواطف والتاريخ، من الدور والرسالة والمشاعر النبيلة.
ولا يعيش وطن يحرم مواطنيه حق أن يحلموا بغد أفضل، على المستوى الفردي كما على مستوى الشعب ككل.
على أن الذكرى تظل عزيزة، حتى لو بهت مضمونها،
وسنظل ننتظر الاستقلال عبر تحرير الجنوب من الاحتلال الإسرائيلي، وعبر تحرير الإرادة الوطنية (والعربية) من الهيمنة الأجنبية،
ولقد يطول الانتظار، خصوصاً إذا ما ساد مناخ الاستسلام لقوة الأمر الواقع،
وعلينا أن نجيل النظر حولنا وأن نستوعب الدروس القاسية: فثمة من ضحى بالاستقلال من أجل الهوية، وثمة من ضحى بالاستقلال والهوية من أجل لقمة الخبز، وثمة من ضحى بذلك كله من أجل الأمان، مجرد الأمان.
كذلك فلا بد أن نبحث لاستقلالنا، كما للاستقلالات العربية، عن مكان في ظل “الأمميات” التي تفرض منطقها على العالم عشية القرن الحادي والعشرين،
فثمة “أممية” الهيمنة الأميركية شبه المطلقة على الكون،
وثمة “أممية” المشروع الأمبراطوري الصهيوني المستظل رايات النظام العالمي الجديدة بالقيادة الأميركية،
وثمة مشروع متعثر لأممية إسلامية لا تعرف موقعها بالضبط بين الأمميتين الأميركية والصهيونية خصوصاً وإن قياداته تحاول تجنب الصدام فتفقد مبررات وجودها.
هي الذكرى الخمسون لاستقلال غاب معظم صناعه وبهتت مضامينه بفعل التطورات الخطيرة التي بدلت معالم الكون والتي نالت منها هذه المنطقة نصيباً وافراً كاد يقطع بين ماضيها وبين حاضرها والأخطر: بين حاضرها ومستقبلها.
والمهم أن نحمي هويتنا، أسماء أطفالنا، علاقتنا بالقمح والشعر لتكون لنا دولة ويكون لدولتنا استقلال.
وكل عام وأنتم ولبنان بخير،

Exit mobile version