طلال سلمان

على الطريق في الطائف يستولدون “دولة لكل الطوائف” بعد سقوط “دولة الطائفة والواحدة”

المشكلة هي المشكلة، والحل هو الحل، ولا رابط بينهما ولا لقاء، حتى الساعة، إلا بقدر نجاح اللجنة العربية الثلاثية في بناء جسر من الثقة بين الراغبين في تجديد التسوية الطائفية عبر صيغة معدلة للتوافق السياسي على الدولة – الأم.
فالمحاولة التي يشهد قصر المؤتمرات بالطائف فصولها، الآن، إنما تستهدف أساساً تحقيق انتقال سلمي من “دولة الطائفة الواحدة” إلى “دولة كل الطوائف”.
والمعضلة تكمن في كيفية التوفيق بين الدولة وبين الطوائف، وخصوصاً بعد النتائج المأساوية لتجربة الدولة – الطائفة أو دولة الطائفة التي كادت تنهي لبنان واللبنانيين في حرب أهلية بلا نهاية.
لا مفاجأة حتى الآن ولا جديد يذكر، لاسيما لكل من عايش او شهد التجارب المماثلة السابقة من “هيئة الحوار الوطني” في سراي الحكومة ببيروت، إلى مؤتمري الحوار الوطني في جنيف ثم في لوزان، وانتهاء بالحصيلة البائسة لتجربة “حكومة الوحدة الوطنية” التي اعتبرت – لحظة قيامتها – هيئة دائمة للحوار بقدر ما هي أداة نموذجية للحكم باسم كل الطوائف في دولة الطائفة الواحدة.
المكان غير المكان، والزمان غير الزمان، والمتحاورون اليوم هم “غير” المتحاورين بالأمس، لكن الحوار يكاد يستعاد بحرفيته مما يزيد من حجم التخوف في أن ينتهي إلى اكتشاف العجز الذاتي عن إنهاء الحرب، وكذلك العجز عن قبول مساعدة الآخرين وتوسلها إطاراً أو مدخلاً للسلام المنشود.
بعيدة هي الطائف عن لوزان، وأقرب منها بما لا يقاس إلى بيروت… لكن تاثير المكان يظل أقل من التوقع في قدرته على تغيير المواقف المتكلسة والممنوع تحويرها أو تطويرها، كائنة ما كانت الحجج، لأنها مثقلة بمصالح الطوائف ومنافعها وموقعها في النظام، ومن ثم في الدولة، أكثر مما هي التعبير المباشر عن آراء أصحابها والمكلفين بعرضها.
وزمان مؤتمر الطائف غير زمان مؤتمري جنيف ولوزان، فبينهما أكثر من عشر حروب أو يزيد كانت كل منها تبدأ من حيث انتهت سابقاتها حتى بلغت الذروة على يدي “جنرال التحرير”.
… لكن الطوائف تعيش أو يراد لها أن تعيش خارج الزمان، فتلك هي الوسيلة الوحيدة، لإبقاء رعاياها أسرى الغرائز ورهائن للمنتفعين بالتطرف والتشنج والمتاجرين بأوهام الخائفين أو المغبونين ممن يخدعون فيعتقدون بأن لا ضمانة ولا حماية ولا تقدم في اتجاه العدالة والكرامة (كبشر وكمواطنين) إلا عبر الطائفية وفي ظل قيادة الأكثر تعصباً والأعلى صوتاً في المناداة بإلغاء الطائفية السياسية!
كانوا تسعة في جنيف ثم في لوزان، كلهم من العيار الثقيل، يكاد واحدهم يلخص بشخصه طائفة كاملة،
وهم الآن في الطائف، وبعد خمس سنوات، اثمان وستون برلمانياً، قل بينهم الأقطاب والزعماء، فأكثريتهم أقرب إلى الحجم الطبيعي منهم إلى “السوبر كنج سايز”،
والصوت هنا، أو النبرة، أقل حدة، وأوضح في توصيل المعاني والأفكار (!!).
لكن الحوار بسياقه العام هو هو: منطلقه إنشائي جزل العبارة فخم الكلمات، ينضح وطنية وحرصاً على الوحدة والديموقراطية، العدالة والمساواة، العروبة والسيادة، الكرامة والاستقلال، ثم ضرورة استيعاب روح العصر.
أما المتن فيختلف جداً. فبعد المقدمات والمجاملات التي لا بد منها، تتهاوى تلك الكلمات ذات الرنين مخلية المكان لكلمات مختلفة تماماً: يختفي الوطن لتحل محله الطائفة، وتستبدل المساواة بحقوق الطائفةن ويتماهى الاستقلال مع الضمانات (وهي أجنبية، أصلاً).
باختصار، يمكنك أن تحل كلمة الطائفة حيثما ترد كلمة الدولة،
فدولة الطائفة هي المقصودة لا دولة كل الناس،
ودولة الطائفة هي الهدف، فإن لم تكن لها فلا كانت الدولة ولا كان “الشعب”.
وكما يبتذل ويشوه معنى “الدولة” يعهر معنى “الشعب”، فتسمع من يتحدث عن “الشعب الماروني” وعن “الشعب السني” و”الشعب الشيعي” و”الشعب الدرزي” الخ.
بل إنك تسمع ما هو أوقح، فثمة من يحدثك عن “الأمة المارونية” أو “الأمة المسيحية”، فضلاً عن “الأمة اللبنانية” التي لا تحمل في نظره إلا المعنى ذاته.
المشكلة هي المشكلة، والحل هو الحل، ولا رابط بينهما ولا لقاء حتى الساعة،
وفي قصر المؤتمرات بالطائف يدورون منذ أحد عشر يوماً، حول أنفسهم وحول الموضوع، حول المشكلة وحول الحل، ولا يتقدمون.
يدورون ويدورون حتى ليكاد الجميع، في الداخل والخارج، يصابون بادلوار، ولكنهم يواصلون الدوران في الحلقة المفرغة، ويطلقون التصريحات المتفائلة بقرب الوصول إلى الحل المنشود!
يدورون حول الأزمة التي يعرفون تماماً أسبابها والنتائج، ويظهرون التخوف من تجدد الحرب.
يدورون حول تصور الحل، حول الوثيقة العربية للوفاق الوطني، ويظهرون الخشية من مغبة عدم إقرارها وعدم النجاح في الإجماع على تعديلها، إذ ستكون الطامة الكبرى، وسيكونون بنسبة أو بأخرى من يتحمل المسؤولية عن الانفجار المدمر والشامل الجديد (لا سمح الله).
لكنهم يراوحون داخل مواقفهم المتكلسة، داخل قواقعهم، ولا يتقدمون،
يدورون حول الوثيقة بمجملها، حول بنودها واحداً واحداً، حول الجمل والتعابير، حول الكلمات، حول النقاط والفواصل. يدورون ويدورون ولا يتقدمون، يفتحون بطن الكلمات، كلمة كلمة، يفتشون فيها باسترابة وتشكك. يحاولون أن يزرعوا فيها معنى غير الذي تدل عليه، يحاولون استيلادها معنى آخر غير ما تعنيه. يحذفون حرفاً من هنا، يلغون فتحة أو يجعلونها كسرة، أو يسكنونها، فإذا الكل غارق في بحر من الكلمات البلا معنى، أو في فيضان من الحروف تفتقد الرابطة واكتمال المعنى.
وتسأل فيجيبك الخبراء من بينهم: – لا بأس، هذا أمر طيب، فكلما غمض المعنى اقترب الحل، ذلك إن التوافق يستلزم أقل ما يمكن من الموضوح.
تطالعه الدهشة في عينيك فيستطرد قائلاً: – دع كل طرف يفسر المقصود على هواه، ألم تكن تلك عبقرية رياض الصلح في ابتداع “الصيغة اللبنانية الفريدة” التي عمرت أربعين عاماً أو يزيد، والتي نعجز الآن عن ابتداع ما هو أرقى وأكمل منها؟!
المشكلة هي المشكلة، والحل هو الحل،
المشكلة إن الطوائف حاضرة بكل ثقلها، وإن الناس غائبون،
فكلما تعاظم حضور الطوائف تناقص حضور الناس، المواطنين، الشعب، ومن ثم الدولة، فكيف من دون شعب تقوم دولة؟!
والطوائف مراجع ومراكز قوى وقيادات ميليشيات وزعامات تاريخية، ثم الدهماء، أو العامة أو “الرعاع”، التي يرمز إليها عادة باسم الشعب،
والطوائف “دول” ايضاً، دول بسفارات وسفراء وقناصل واتصالات وضمانات وحمايات موروثة لم يسقطها مرور الزمن، لأن الطوائف قاهرة للزمن وقدرته على الفعل.
والطوائف جهات ومناطق ومطالب شعبية، تكتسب في غياب المؤسسات السياسية القادرة والمؤهلة للقيادة (الأحزاب والتنظيمات والهيئات ذات البرامج والحاملة لوعد بغد أفضل)، “شرعية” لا تستحقها.
والطوائف نافية للدولة، ولكنها لا تستطيع ممارسة وجودها (ونفوذها) إلا عبر شكل من أشكال الدولة، برئاساتها والمؤسسات ومواقع السلطة الدالة على حجم النفوذ والفاعلية والقدرة على تأمين المصالح والمنافع… “العامة”،
والطوائف حروب مصالح، وحروب مناطق نفوذ، أين منها حروب الدول،
وداخل اللقاء البرلماني في الطائف تبدو “الحدود” واضحة تماماً، حدود السلم والحرب بين الطوائف، وبين كل طائفة على حدة وبين فكرة الدولة.
كل يقول بدولته ويرفض دولة الطوائف الأخرى، وهكذا فحين تستحضر – في الأحاديث والمحاورات – الدولة، تجيء محملة التشوهات العاكسة لحدود التلاقي والافتراق بين الطوائف في حضن “دولتهم” المشتركة.
… والجنرال في دويلته،
وهو “يغازل” أمراء الدويلات الأخرى، ويحرض النواب هنا على إبقاء الحال على ما هو عليه، فالمس بالدويلة إنهاء لحقوق الطائفة وامتيازاتها وضمانات وجودها ذاته.
… فإذا ما زالت دويلته زالت الدويلات الطائفية الأخرى،
ولذا فهو ينادي: يا طائفيي لبنان اتحدوا، لحماية الدويلات، ولتكن لكل طائفة دولتها ولو على شكل دويلة.
أما في الطائف فيستمر السعي حثيثاً، ويصل البرلمانيون الليل بالنهار للوصول إلى قرار باعتماد الوثيقة العربية للوفاق الوطني في لبنان والتي تقدم ضمانة عربية – دولية بقيام “دولة كل الطوائف” خلفاً صالحاً ومتطوراً للسلف الصالح الذي انهار بسبب القصور الذاتي: دولة الطائفة العظمى.
من دولة الطائفة الواحدة إلى دولة كل الطوائف.
هذا أقصى ما يمكن أن ينتهي إليه الحوار “المطيف” في الطائف، إذا ما نجح، في الوصول إلى هذه النقطة المتقدمة،
أما في بيروت فستكون حروب بين الطوائف لكي يمكن إدخالها في “اتحاد” ينجب – بعد الدعاء – دولة كل الطوائف العتيدة.

Exit mobile version