طلال سلمان

على الطريق في الذكرى 39 للاستقلال العيد الأول للوطن – الحقيقة

كل عام وأنتم بخير: إنه عيدكم أيها اللبنانيون!
في ظروف أخرى، كان يفترض إعلان الحداد وإلغاء أية مظاهر للعيد والامتناع عن تبادل الطيبات من الأماني، لأن الوطن في المحنة بعد، ولأن أرضه ما تزال محتلة ، ولأن مصيره لما يزل قيد البحث في السوق الدولية.
ولكن اللبنانيين يستقبلون عيدهم الوطني هذا العام باستبشار وحرارة، وبأمل ندر أن استقبلوه به في السنوات الخوالي، حتى حين لم تكن الحرب قد أحرقت ما أ؛رقت من رموزه وقيمه وعلامات السيادة.
ذلك إن اللبنانيين يرون في العيد اليوم ما لم يكن متوفراً للذكرى فيما مضى : فـ 22 تشرين الثاني 1982 هو إعلان رفض للاحتلال والمحتل، وهو تأكيد للشعور بالعزة، وهو تعبير مباشر عن إرادة الحياة والاستمرار التي لم ولن تقهر في صدر بنيه.
إن لبنان باق والاحتلال إلى زوال.
إن اللبنانيين إلى تلاق وإرادة الأجنبي إلى اندثار.
هذا هو معنى الاحتفال: نعم للوحدة والسيادة والاستقلال والإجماع حول أهداف الوطن، و”لا” كبيرة للمحتل الغاصب الطامع، ومعه للفرقة والفتنة ومحاولات التقاسم والتقسيم.
فعبر الدمار والموت والغزوة الهمجية التي كادت نيرانها تحرق كل ومن وما في لبنان على امتداد شهور الصيف، برز الوطن كنجمة صبح ندية.
إن لبنان الوطن أقوى من الأخطار، وهو يلتفت اليوم بالحب والتصميم الأكيد على إنهاء الوضع الأليم في الجنوب الصابر الذي كان يسقط من ذاكرة الدنيا، وعلى وقف النزيف المفجع في الجبل، حيث تحاول أصابع الفتنة زلزلته لتدمير حجر الأساس في بناء الوطن، وعلى حسم الوضع المعلق للبقاع والشمال بما يعزز وحدة الوطن ومنعته وحق أبنائه جميعاً فيه.
أما بيروت الأكبر من كل العواصم، والأعظم من كل المدن، فإنها تستكمل علاجها وتكاد تدخل طور النقاهة مستعيدة دورها المجيد كقوة جذب هائلة التأثير، ومنارة فكر وحرية للبنانيين كما لأخوانهم العرب، وللناس في مشارق الأرض ومغاربها.
إن ليل الأحزان يقارب نهايته مفسحاً الطريق أمام أيام العمل الشاق من أجل بناء الأجمل والأبهى من مطامح الإنسان في كل زمان ومكان: الوطن.
واللبنانيون على أتم الاستعداد لعمل دؤوب ومتصل لتحقيق هذه الغاية المجيدة التي تعوضهم ما عانوه طوال دهر القتل والاقتتال والخطف والتهجير وافتراق الطرق بين شركاء المصير.
وهكذا وقف اللبنانيون اليوم وبعد أربعين سنة من إعلان “استقلال الدولة” وقيام “دولة الاستقلال”، على عتبة الحلم مبهورين وهم يشهدون ما قد تؤرخ به بداية مستقبلهم : لحظة ولادة الوطن.
برغم كل ما كان ، وربما بسبب كل ما كان، ها هو الوطن ينبثق كالفجر قاني الحمرة بلون الشهادة، نابضاً كالأمل، مرتعشاً بفرحة ندية: لقد اخترق ظلمات الاحتلال جميعاً، وأطل قوياً بإرادة أبنائه، على أن يكونوه كافة، وعلى أن يكونهم كافة، وعلى أن يكون لهم بغير تمييز، سياجه وحدتهم وسيفه الحرية، كلمة ورأياً وعقيدة وفكراً لا يشكله قيد العسف أو القهر أو عصبيات دهور التخلف.
لقد انقضى الماضي وها هي الاختلافات حول الوطن، بمن ولمن، تكاد تتوارى كلية بعدما استهلكت جيلاً من أجيالنا، وزهرة شباب الجيل الآخر الذي يتصدى الآن لهذه المهمة الصعبة والجليلة إلى حد القداسة.
39 سنة طويلة ضاعت قبل أن نكتشف تلك الحقيقة البسيطة والمذهلة: إن الوطن هو نحن، وإننا حين نحذف بعض أبنائه – لخلاف في الاجتهاد – فإنما نلغي الوطن ذاته، إذ يكون بنا جميعاً، وينتفي بغياب أو إسقاط أي منا.
ومثلما اكتشف الرئيس أمين الجميل إن الانتماء خيار بالإرادة لا مكان فيه للفرض أو الفارضين، اكتشف من كانوا في موقع الخصوم، إن العروبة تبدأ في وطنهم ولا تجيئه من خارجه.
ولقد عكست كلمات أمين الجميل منذ اليوم الأول لتسنمه سدة الرئاسة عمق الأسى الذي يستشعره اللبنانيون جميعاً لما أصابهم نتيجة تباغضهم وتباعدهم بحيث لم يعد أحدهم يسمع الآخر، فكيف إذن يحس معه ويفهمه ويشاركه الحلم الأغر؟!
وهكذا فقد تجرعوا ، كلاً على حدة، مرارات المحن التي المت بهم، وغاصوا في لجة الألم القاتل حتى غفلوا عن شروط حياتهم ووجودهم، وهو أن يعترف كل منهم بالآخر، وأن يبدأوا معاً مرحلة بناء الوطن الواحد الذي يتسع لهم جميعاً، ويذيبهم فيه جميعاً، وينصرهم قيامه على المحتل الطامع.
لم تنجح عملية تخطي “الآخر” واستبداله بأي كان، ولا الاستعانة عليه بأي كان ، وثبت إن إلغاء الآخر هو إلغاء للذات، وقبل إلغاء الوطن، حقيقة كان أم حلماً أم مشروعاً قابلاً للحياة.
والوطن ليس حاصل جمع اثنين… إنه أكبر كثيراً وأعظم كثيراً. الوطن هو الأرض لا الشجرة، القمح لا السنبلة البحر لا الشراع، الخبز لا الرمل، ومعها جميعاً تلك المساحة المنداحة بين البيت والأغنية، بين الساعد المفتول والفكرة القادرة على توليد الغد الأفضل.
وحول هذا الغد الأفضل علينا أن نتفق، بالرغبة والإرادة والاقتناع والاتعاظ بما لاقينا في الماضي من تعاسات، وما قاسينا من عذابات سنجد آثارها في مآفي الأجنة الذين لم يأتوا بعد.
حسناً، لقد أخطأنا الطريق جميعاً، فتهنا جميعاً حتى انتهينا إلى ما نحن فيه جميعاً.
لن ينفعنا أن نعود إلى الدفاتر العتيقة نستخرج منها المحاكمات والإدانات ننثرها على الآخرين مبرئين أنفسنا ومسبغين على ذواتنا صفات الملائكة والقديسين.
إن تلك الدفاتر أثقل وطأة من أن يتحملها صدر الوطن، فكيف بضميره، وتبادل الرجم لن يفيد إلا في إطالة عمر الاحتلال والتسبب في تأخير استكمال الوطن لشروط سيادته واستقلاله ووحدة أبنائه واراضيه.
لقد خطونا الخطوة الأولى في تجاوز الخصومات والخلافات بالإجماع على شخص الرئيس، وبهذا الإجماع الاستثنائي عادت الروح إلى الوطن، وبقي أن نفك قيود الاسر التي ما تزال تكبله وتحاول طمس حقيقته بإذكاء الفتنة حيثما أمكن إيقاظها.
لقد كانت تزكية أمين الجميل إعلان مصالحة مع الذات بقدر ما كانت إعلان مصالحة مع المحيط، وكان منطقياً من ثم أن يحاول المحتل الإسرائيلي تخريب ما تم باستعداء المواطنين بعضهم ضد البعض الآخر، ليمكنه بعد ذلك الادعاء بأنه إنما يبقى ليحمينا من أنفسنا، وليستمر في إشغغالنا بمشكلة الأمن اليومي عن قضية الوطن ومصيره.
وليس مقبولاً، لأي عذر أو ذريعة، أن تضيع هذه اللحظة الخالدة: لحظة ولادة الوطن الذي به وحده يصبح للاستقلال (وللدولة ومن ثم للنظام) قيمة ومعنى.
ولن تكتمل اللحظة فتصير بداية تاريخ إلا إذا عملنا لاستقلال الوطن وإجلاء المحتل عن أرضه وإرادته، إذ لا حرية لأي منا طالما ظل شبر واحد من الوطن مثقلاً بقيود الاحتلال.
وليكن هذا العيد الرسمي التاسع والثلاثون، العيد الأول لاستحقاقنا – كشعب – الوطن الذي آن الأوان لكي يصبح حقيقة، فلا يظل نقطة ضائعة بين التمني وأحلام اليقظة والتعلق بأوهام الضمانات التي تيجء من البعيد.
نحن الضمانة لا الغير. اجماعنا الضمانة، وتمسكنا بالديموقراطية ضمانة، وضوح أهدافنا ضمانة وإرادة الحياة ضمانة، واستعادة الدور المفتقد للبنان المتقدم والمستنير بين العرب ضمانة.
وبغير هذه الضمانات لا يستطيع الغير أن يساعدنا حتى لو رغب في مد يد المساعدة، ولن تنفعنا نواياه، هذا إن حسنت، في إنجاز المهام العادية فكيف بمهمة صعبة كإنهاء الاحتلال الإسرائيلي وما نتج عنه أو ارتبط به.
من قبل ومن بعد لا يبني الوطن إلا أبناؤه، ولا يحميه إلا هم، وبغيرهم لا يكون، وكل عام وأنتم بخير.
… والوطن هو الخير، والبشارة في الغد الأفضل.

Exit mobile version