طلال سلمان

على الطريق في الذكرى العاشرة لـ 13 نيسان: فلنسقط منطق الحرب الأهلية!

بعد تسع سنوات كاملة من تفجير الحرب الأهلية في لبنان تعمل بعض القوى في الداخل والخارج للتمديد لهذه الحرب التي التهمت حتى الآن وطناً وقضية وألقت ظل الفاجعة على مساحة واسعة من دنيا العرب وصورة مستقبلهم الأفضل.
وإلا فماذا يعني ذلك المنطق المرذول الذي يصر على القفز من فوق العوامل الموضوعية المحلية ليلصق الحرب، بكل أسبابها ونتائجها، بالآخرين.. فهي ساعة حرب عربية – عربية لا ناقة للبنان فيها ولا جمل، وهي في ساعة أخرى حرب فلسطينية – إسرائيلية زجتنا فيها المقاومة الفلسطينية زجاً سعياً إلى التوطين، وهي في ساعة ثالثة حرب الهيمنة السورية على لبنان، بل هي في بعض الساعات حرب الشيوعية الدولية ومنظمات الإرهاب الدولي على أرضنا، وحتى إذا ما تم التسليم بعلاقة هذه الحرب بالصراع بين القوى العظمى فمن أجل أن يقال إن العالم كله متآمر على لبنان لأنه فريد عصره وأوانه، والفرادة محسودة ونحن قصرنا في تحصينه بالخرز الأزرق فكان إن أصابتنا عين والعياذ بالله!!!
وهذا المنطق مرذول ومرفوض ومضلل لأسباب عدة بينها:
1 – إنه يبرئ أول ما يبرئ المفجر المباشرن أو الأداة التي باشرت بيديها تفجير الحرب الأهلية في عين الرمانة، في مثل هذا اليوم من العام 1975.
2 – إنه يبرئ العدو الإسرائيلي من تهمة التسبب أو المساهمة أو الاشتراك في هذه الحرب، برغم إنه كان ولفترة طويلة المستفيد الأول منها والعامل الأساسي في إدامتها وإعادة تفجيرها كلما اقتربت من نهاية منطقية ما،
3 – يتصل بذلك إن هذا المنطق يبرئ الأطراف والقوى المتعاملة مع العدو الإسرائيلي ولاسيما أنور السادات ومن سانده في سياسته المفرطة والمنحرفة وواكبه في زيارته العار إلى القدس المحتلة، ثم وقف يبرر له ويحميه حتى كان الصلح المنفرد واتفاقات كمب ديفيد.
4 – إنه يسقط الجنوب تماماً من ذاكرة الحرب ويعتبر إن ما جرى له وفيه منذ 1976، ثم بشكل خاص في العام 1978، مجرد “حوادث” معني بها الفلسطيني لا أهل الجنوب الذين دفعوا وما زالوا يدفعون أفدح ضريبة لهذه الحرب، والتي يعمل مفجرو الحرب الأهلية، حتى الآن، على إهدار دمائهم وأراضيهم لمصلحة العدو الإسرائيلي ومصلحة مشاريع الكانتونات والفيدرالية والتقسيم بعدما فرط مشروع الهيمنة على البلاد بكاملها.
5 – إن هذا المنطق يقتل شهداءنا مرة ثانية، إذ يصورهم جميعاً وكأنهم ضحايا المصادفات وحوادث السير، لا قضية لهم ولا هدف، فالمق4اتل من بينهم مرتزق وأجير وغير المقاتل قليل الحظ، أما مفجرو الحرب الأهلية والمنتفعون بها والواصلون إلى الحكم بفضل الجانب الأبشع من تطوراتها أبرياء بل ومنقذون لمن تبقى من الأحياء وجميعهم على الرأس والعين!
6 – إن هذا المنطق يلغي اللبنانيين وطموحاتهم، ويمكن للطائفية ونظامها والامتيازات، ويسقط سلفاً حق الناس في المطالبة بالاصلاح والسعي إليه. فالاصلاحي متآمر على مصالح البلاد العليا، وعميل لأعداء العالم الحر، والقائل بإنهاء الامتيازات الطائفية أو التخفيف منها طائفي ومتعصب ذميم يريد أن يفرض على المسيحيين وضعية أهل الذمة ويهددهم بالإبادة!
7 – إنه يسلخ لبنان كلية عن بيئته ومحيطه، فيصبح القول بهوية لبنان العربية “خيانة”، وتصير “العروبة” مجرد متهم: فالضرر من العرب والنفع من الأميركان أو من إسرائيل، أما التعويض على لبنان والممتازين أو المتميزين من اللبنانيين فيجب أن يدفعه أغنياء العرب بغير نقاش أو سؤال عن مدى العلاقة مع العدو الإسرائيلي والاستعداد لقطعها، وإلا رفع سيف التهديد بتعدي الصلح إلى التحالف الاستراتيجي الكامل بين الكيانيين الأقلويين والطائفيين في المنطقة،
8 – إنه ينفي وجود أحد في لبنان إلا الشيخ بيار الجميل ومن معه… فالحرب من صنع غيره ولكن السلم لا يكون إلا به وبحزبه و”القوات اللبنانية”. وهكذا فإن هذا الحزب الذي لم يكن مع بداية الحرب الأهلية الأقوى أو الأعظم شعبية بين الأحزاب اللبنانية، استطاع أن يفيد من أخطاء كثيرة ليطلق استنفاراً طائفياً مسلحاً حصر به حق تمثيل المسيحيين في لبنان، بما في ذلك مواقعهم المؤثرة في السلطة، ومن ثم فرض نفسه محاوراً وحيداً على العرب خارج لبنان باعتبار إن لا قوى سياسية (أو مسلمة) فيه تستحق شرف الحوار معه!! وكرر اللعبة مع الفلسطينيين ومع السوري غير مرة، فهو يتوجه إليهم – متى توجه – باعتبارهم “المحاور” المفتقد في لبنان، أو في أحسن الحالات “الوصي” على “جماعتهم” في لبنان.
ولعل محاولة الضغط لأن تستقبل دمشق أمين الجميل يوم 13 نيسان بالذات تجسد هذا “الاستغباء” المفرط للعرب، حتى بالخيار العربي لأنه الوحيد المتاح، بقدر ما تجسد هذا الإصرار على تجاوز الأطراف الوطنيين حتى حين تكون قوتهم التمثيلية لأكثرية اللبنانيين ومعظم المناطق واضحة، ومؤكدة بقوة السلاح.
وغني عن البيان إن مثل هذه السياسة القصيرة النظر والمعبرة عن لوثة “التشاطر” وادعاء احتكار الفهم والقدرة على “بلف” الجميع، تشكل إهانة لسوريا بقدر أو ربما أكثر مما تشكل إهانة للقوى السياسية المعارضة في لبنان التي تحاشت حتى اليوم أن تحرج دمشق أو تسدرجها لتزج بها في المعركة الداخلية التي تتخذ من الاصلاح وتطوير النظام وإلغاء طائفيته شعاراً لها.
ولقد كان مؤتمر لوزان مناسبة خارقة لتأكيد موقف المعارضة وكشف موقف “الجبهة اللبنانية” المساندة للحكم من دمشق وتصور العلاقة المستقبلية معها،
ففي حين طوت المعارضة شعاراتها التغييرية، مؤجلة معركة الاصلاح إلى بيروت، حتى لا تحرج دمشق أو تتسبب في اتهامها بالتحيز لها (وهي منها في موقع الحليف على أي حال)، ومن ثم في اتهامها بالسعي للهيمنة على لبنان، فإن جماعة “الجبهة” والحكم عملوا كل ما بوسعهم لاستغلال دقة الموقف السوري وإحراجه وتوظيفه من أجل إضعاف المعارضة وتسفيه شعاراتها.
وهكذا سكت نبيه بري ووليد جنبلاط عن مطالبتهما بإسقاط الحكم ومحاسبته، بل ووصلا في الابتعاد عن إحراج الموقف السوري إلى حد التسليم بهذا الحكم رئيساً للجنة السياسية – الأمنية العليا ، متحملين كل النتائج السلبية على صعيد جمهور المعارضة وضحايا الحكم وسياسته المدمرة في الضاحية وبيروت، ومن قبلهما في الجبل، وفي الجنوب من قبل ومن بعد وحتى إشعار آخر.
أما فريق “الجبهة” و”القوات” فقد اعتمد سياسة التصعيد العسكري لابتزاز المعارضة المزيد من التنازلات، في ضوء واقعة إن رئيس الجمهورية يعد لزيارة دمشق، ولمحاصرة دمشق ذاتها في زاوية المطالبة بوقف التدهور الأمني، وكأنها المسؤولة عنه، والمساعدة في تشكيل حكومة وكأن دمشق خصم شخصي لشفيق الوزان!
والأخطر إن هذه اللعبة تكشف استمرار المنطق الذي فجر الحرب الأهلية، وأدامها طوال هذه الفترة: فمرة أخرى تصور سوريا وكأنها القيمة على المسلمين في لبنان، وليست دولة صمود وتصد وحاملة مسؤولية قومية متميزة في الصراع العربي الإسرائيلي، ومرة أخرى يصور “المسلمون” (وأي معارض مسلم حتى لو كان اسمه جورج حاوي أو إنعام رعد أو ألبير منصور أو نجاح واكيم أو حتى ريمون اده)، وكأنهم ناقصو الجدارة بلبنان لأنهم “تحت السن” ومرتبطون بالخارج، ومن ثم فهم ليسوا بالمحاور الصالح فكيف بالشريك في الوطن ناهيك بالمشارك في سلطته؟!
وبمنطق الساعي إلى “صفقة” مع الطرف الأقوى يصور رياض الصلح وكأنه كان كتائبي 1943 الذي باع أخوانه في لبنان إلى السوريين ثم باع السوريين إلى الموارنة فكان الكيان الخالد والنظام الفريد،
بعد تسع سنوات كاملة من تفجير الحرب الأهلية يبدو وكأن على الناس أن تختار بين أمرين أحلاهما مر: أما الانخراط في أتون هذه الحرب بكل ما ملكت إيمانهم وقد رفعوا راياتهم وشعاراتهم الصحيحة، أي تحرير الوطن وتوفير العدالة والكرامة والمساواة لأبنائه كافة، وأما الخروج من لبنان كله وتسليمه إلى من يهددنا يومياً بالتسليم بهيمنته وتحالفه مع العدو الإسرائيلي وإلا فلتكن الحرب ولينتصر الأقوى.
وبمنطق هذه السياسة فلا بد من تعريض الناس يومياً لقذائف القصف العشوائي حتى يصبح “أمنهم” أهم من الوطن وحقوقهم فيه، وحتى يصبح “الرغيف” الذي يعز أكثر فأكثر سبباً لانفجار لا يبقي ولا يذر، فالمهيمن الذي أكمل مهمة الاحتلال الإسرائيلي بتدمير لبنان اجتماعياً واقتصادياً وثقافياً وعسكرياً وسياسياً هو ذاته مبتكر تلك السياسة الشيطانية الشهيرة: أنا أو الطوفان!!
في 13 نيسان 1984 فلتكن الدعوة: احتراماً للشهداء ودمائهم فلنحرص على بناء وطن حقيقي، حتى لو كلف المزيد من الدم والدمار وقسوة الحياة، وإلا خسرنا من وما سبق وسنخسر من وما سيلحق بغير أن نربح الوطن.
فلنثبت جدارتنا بوطن حر مستقل سيد، وشرط ذلك كله العروبة والديمقراطية والبرنامج الوطني الشامل.. الشامل كل لبنان وكل اللبنانيين، والمخاطب طموحاتهم ومصالحهم وإرادة الحياة والتحرر والغد الأفضل فيهم، وليس غرائزهم الطائفية أو ولاءات العشائر الجاهلية.
ولتكن البداية بالجنوب ومنه وبه وبالمسير إليه،
فمن يموه نفسه في بيروت (أو على باب دمشق) تكشفه حقيقة مواقعه ومواقفه في الجنوب… فإذا وعده “لحد” ليس إلا، وهو “لحد” يعد للبنانيين جميعاً وليس للجنوبيين وحدهم.

Exit mobile version