طلال سلمان

على الطريق “فوش” أم “فهد”؟!

تنفرد بيروت، بين عواصم الدنيا، بأنها المدينة الوحيدة التي يكرم فيها جلادوها،
فلقد حُمّلت شوارع بيروت، وفي سياق التغريب وتزوير الهوية والنفاق السياسي، اسماء محتليها والقادة الاستعماريين الذين قدموا – هم أيضاً! – باسم “التحرير” بينما لم يفعلوا إلا وراثة السلطنة العثمانية مع تقسيم الأرض العربية وتقاسم النفوذ فيها، بما يبقي أهل هذا الشرق العربي شعوباً وقبائل متناحرة تقتتل داخل كيانات مصطنعة تافهة وضعيفة بحيث لا يمكن أن تستغني عن “عونهم” أو تتحرر من ذلك حاجتها إليهم.
فوش، اللنبي، كليمنصو، غورو و.. جورج بيكو (المهندس الثاني لمعاهدة سايكس – بيكو الشهيرة التي رسمت الحدود الوهمية بين الكيانات المستحدثة)!!
هؤلاء وغيرهم كثير ممن يفترض أن نحفظ أسماءهم كأعداء قهروا إرادتنا ودمروا مستقبلنا المرتجى، مع نهاية الحرب العالمية الأولى، يشكلون – حتى الساعة – أبرز ملامح بيروت، أميرة الحزن العربية،
إنهم “يحتلون” أهم الشوارع والجادات، و”يحتلون” بالتالي، مكاناً إليفاً في الحديث اليومي، فهم بعض “سمات” المدينة التي تطالع الناس بوجه مزور… ثم إنك، وأنت فيها، إنما تذهب منهم إليهم!
ما علينا، فهذا ترف “حضاري” غير مبرر، فماذا تهم الأسماء إذا كانت الشوارع بل المدينة ذاتها قد اندثرت وصارت أثراً بعد عين؟!
ما يعنينا إن الأرض قد هانت على أهلها وها هم المحتلون القدامى يعودون، الآن، بالطلب، وربما مع الاعتذار عما بدر من السفهاء منا أيام الطيش والمراهقة السياسية والحلم بالحرية والسيادة والاستقلال والكرامة القومية!
ما يعنينا أن الأسطول الفرنسي بقيادة حاملة الطائرات “فوش” يقترب الآن من شواطئ بيروت وذريعته إنه إنما يحمل إلينا… اللجنة العربية الثلاثية!
لكأنما يقود “فوش”، كرة أخرى، حملة جديدة، لكنها هذه المرة تتكون من ملوك ورؤساء عرب مفوضين من القمة العربية بإيجاد حل للمعضلة اللبنانية!
فقعقعة السلاح الفرنسي، الآن تطرب آذان العديد من العرب، ولا تخدش كرامة جيوشهم،
والتبريرات السخيفة التي يطلقها بعض السياسيين الفرنسيين للتهوين من شأن “عراضتهم” البحرية لا تكفي للتغطية على حقيقة أن هذه المهة القذرة مطلوبة عربياً، أو إنها – في أقل تعديل – ليست موضع اعتراض جدي من أكثرية المسؤولين والحكام العرب.
إن فرنسا أكبر من حكامها بكثير، ودورها هنا أو في أي مكان آخر محفوظ طالما عرف حكامها حجمها الحقيقي في هذا العصر، فلم يحملوها أحلامهم الإمبراطورية ولم يكرهوها على ما لا تطيق.
والخفة التي يتحدث بها أو يتصرف بعض كبار المسؤولين الفرنسيين تؤذي فرنسا، أولاً وأخيراً… فالأساطيل لم تعد تخيف أحداً لأن أبسط الناس في أعظم بقاع الأرض تخلفاً يدرك إن حركتها محكومة بتوازن قوى عالمي دقيق لا يسمح لأحد بخرقه بالرعونة أو بالبهورة أو تحت ضغط حمى الطموحات البونابرتية.
على إن هذا كله يظل أخف وقعاً على النفس العربية من مسلك السادة أعضاء اللجنة الثلاثية الذين “استقالوا” قبل أن يباشروا مهامهم فعلياً، ثم قبعوا في قصورهم ينتظرون أن تشتد عليهم المطالبات بالعودة عن الاستقالة وقبول استئناف المهمة الجليلة بمباركة من “الدول” العظمى التي أولها الولايات المتحدة وآخرها فرنسا.
هل يريد أعضاء اللجنة العربية الثلاثية أن “يؤدبوا” سوريا واللبنانيين بقوة الأسطول الفرنسي المتجه نحو شواطئ بيروت بحراسة الأسطول السادس الأميركي؟!
هل “يستعيرون” قوة “الدول” ليعودوا وقد اكتسبوا القدرة على الفعل: يأمرون بانسحاب السوري فينسحب صاغراً، وينصبون ميشال عون رئيساً فيخضع العصاة من اللبنانيين فإن أبى بعضهم أو استكبر ترك للجلاوزة الفرنسيين أن يلزموه حدود الطاعة لأولي الأمر ممن استخلفوا في الأرض!
أتحتاج اللجنة العربية فعلاً، أن تأتينا مجدداً يتقدمها أسطول ويواكبها أسطول لكي تنجح في وقف إطلاق النار في لبنان؟!
أم ترى بالأساطيل سيتحقق مشروعها العتيد للاصلاح الساسي؟
إن اللجنة الملكية – الرئاسية أقوى، مبدئياً، من أساطيل الأرض مجتمعة، والأساطيل تأخذ منها ولا تعطيها، بل هي سُبة في جبينها ومصدر شبهة وارتياب في مدى حرصها على طبيعة المهمة القومية التي انتدبت لها.
إن أحلام الساسة الفرنسيين الإمبراطورية، أو أوهامهم تحتاج إلى الأساطيل فعلاً لتأكيد افتراقها عن الواقع وتناقضها معه،
أما الحسن الثاني بن محمد الخامس، وأما فهد بن عبد العزيز آل سعود، وأما الشاذلي بن جديد فقوتهم في “عروبتهم”، وقوتهم في مدى حرصهم على هوية هذه الأرض العربية الفسيحة التي منها لبنان،
ولسنا نقبل لأي منهم أن يقال إنه وصل لبنان بقوة مدافع “فوش” أو حتى “أيزنهاور” الذي خيّب أمل ميشال عون فلم يعش لينصره ويثبته في السلطة بعد “تحريره” من “أعدائه” السوريين،
ومؤكد إن دمنا، وهو بعض دمهم، عزيز عليهم، وإنهم حريصون على ألا يهدر المزيد منه في “الوقت الضائع” بين “حردهم” واستنكافهم وبين استئنافهم لمهمتهم الجليلة تحت ضغط أصحاب “فوش” و”ايزنهاور”،
فالأسطول الفرنسي (أو الأميركي) لا يصنع حلاً عربياً لأزمة لبنان، وهي أزمة قومية بأسبابها وبنتائجها الخطيرة،
واللجنة هي، بالافتراض ، طاردة الأساطيل الأجنبية وليست متعهدة أو مبررة أو ذريعة استقدامها،
وبيروت لا تنتظر ولا تحتاج قداسة البابا المشغول بمهام دولية أخطر بكثير مما لدينا،
بيروت كانت وما زالت تنتظر “أمير المؤمنين” و”خادم الحرمين الشريفين” والرئيس الجزائري، ليس لنصرة المسلمين في لبنان، بل لنصرة العروبة فيه والعرب في كل أرضهم وفيهم المسيحي والمسلم على حد سواء،
إن مجيء الأسطول، قد يهدد الوجود المسيحي في الشرق، وهو في كل الحالات يسيء إليه،
بينما مجيء اللجنة العربية واجب قومي يعني المسلم العربي بقدر ما يعني المسيحي العربي،
فلا المسيحيون في لبنان أو في الشرق جالية أجنبية، ولا هم رعايا غربيون، ولا هم ورثة للصليبيين القدامى أو للصليبيين الجدد، الذين يستغلون الضعف العربي العام والاقتتال الداخلي لاجتياحنا من جديد.
واللجنة مكلفة ومؤهلة لوقف الحرب، في حين إن لاأساطيل تجيء لإشعال مزيد من الحروب،
وحرام أن تنتهي اللجنة التي انتدبها العرب لإنهاء حرب محصورة في لبنان وهي متهمة بأنها تسببت في حروب أشمل وأوسع تمتد نيرانها إلى ما حول لبنان وما بعده،
أما فرنسا فقد مات ودفن فيها فوش من زمان، ولن تكتب له الحياة مرة أخرى في بيروت التي لن تحمل شوارعها في المستقبل اسمه أو أسماء أقرانه الميامين!

Exit mobile version