طلال سلمان

على الطريق غورباتشوف في العين العربية

قد يقع اختلاف على توصيف “المفاجأة” السوفياتية التي هزت العالم صبيحة أمس، الاثنين في التاسع عشر من آب (أغسطس) 1991، وهل هي “مفرحة” أم “مزعجة”، لكن أحداً من المعنيين بالتطورات الدولية لا يستطيع الادعاء بأنه لم يكن يتوقع – ومنذ أكثر من سنة، على الأقل – “انقلاباً” في موسكو ينهي عهد غورباتشوف ونهجه في “إعادة البناء”.
بل إن “أبطال” الانقلاب كانوا معروفين تماماً، وبالأسماء تقريباً وبالمواقع تحديداً، بقدر ما كانت معروفة وواضحة المبررات والأسباب الفعلية لسقوط الرجل الذي كرر مع الاتحاد السوفياتي التجربة الدراماتيكية لكمال أتاتورك في تركيا إذ “نقلها من أول دولة في الشرق إلى آخر دولة في الغرب”.
ولقد كشف التباين في ردود الفعل على الحدث الخطير عمق الاختلاف في تقييم تجربة ميخائيل غورباتشوف بين “أغنياء” العالم و”فقرائه”، ففي حين اعتبره الغرب عموماً “إعادة لعقارب الساعة إلى الوراء”، رأى فيه العالم الثالث عموماً “عودة إلى السياق المنطقي بعد خروج فظ عليه”.
على أن الاجماع انعقد حول نقطة جوهرية وهي أن مبتدع البيروسترويكا والقائف بـ “الشفافية” لم يكن “بطلاً” وطنياً في بلاده، وكان يفتقر إلى الشعبية، خصوصاً وإن ممارساته السياسية حوّلت الاتحاد السوفياتي من قوة عالمية عظمى إلى إمبراطورية عجوز متهالكة ومفلسة ترهن إرادتها وقرارها لمن يرضى بأن يقرضها فتجبه بالصد والشروط المهينة.
لقد نجح غورباتشوف في أن يكون “نجماً” عالمياً مشعاً باستمرار، وسوّقه الاعلام الغربي الهائل النفوذ تسويقاً مذهلاً، فكان وهجه الشخصي يتزايد بمقدار ما تتناقض مكانة بلاده ويتضاءل دورها، وتتفاقم مشكلاتها الداخلية الموروث منها عن “العهد القديم” والمستحدث بفعل التوجهات الجديدة التي فرضت من فوق على مجتمع جمده التقليد ولم يستسغ كل هذا القدر من التحول الذي يخرجه مما ألف ويضعه على طريق المجهول والضياع الأكيد.
وفي عودة إلى حصيلة مجموعة من اللقاءات مع مسؤولين عرب متعددي الميول السياسية كانوا يترددون على موسكو ويلتقون غورباتشوف أو بعض أعوانه وحوارييه، يمكن التوقف أمام جملة من الملاحظات التي أكد “البلاغ الرقم واحد”، أمس، دقتها وصوابها بالإجمال، ومنها:
*بعيداً عن الانبهار بكفاءة غورباتشوف كمدافع عن طروحاته وأفكاره، وعن تصديه المباشر لمنتقديها والمعترضين عليها، فإن هذا “المجدد” قد فشل في تقديم نفسه للمواطن السوفياتي في صورة المنقذ، كان السوفيات مع التغيير، لكنهم كانوا وما زالوا شديدي الحساسية تجاه دور بلادهم على الصعيد الدولي. كانوا يريدون تغييراً من أجل اتحاد سوفياتي أقوى وأعظم، وليس من أجل الحصول على الشيكلس والبيبسي كولا والهمبرغر.
*على رغم شعور السوفياتي العادي بالضيق من حجم الكلفة التي يتكبدها على دول المعسكر الاشتراكي ودول العالم الثالث الفقيرة، فإنه رأى في فك حلف وارسو وفي التخلي عن أوروبا الشرقية “صفقة” لحساب الغرب أكثر مما فيها حرص على مستواه المعيشي وثرواته القومية.
ولقد استهجن العديد من القياديين السوفيات، مثلاً، طريقة خروج السوفيات من ألمانيا الشرقية واعتبروها “عملية بيع رخيصة” غفل موقعها عن حفظ كرامة حليفه ونصيره بل حتى “عميله” والذي كان لساعات خلت رئيس أهم دولة في المعسكر الاشتراكي، وأعرق شيوعي في السلطة خارج موسكو (هونيكر).
*استفزت سياسة غورباتشوف تجاه إسرائيل، بشكل خاص، مشاعر الكرامة الوطنية لاسيما عند “الروس”، إضافة إلى الأرمن والمسلمين، ولعلهم رأوا في هذه السياسة بالذات ما وصفه “البلاغ الرقم واحد” بلغة “الإملاء” والفرض.
وكان يمكن سماع منطق سوفياتي رصين يقول ما مفاده: قد يكون مفهوماً أن نظهر ليونة مع “الجبار” الأميركي، أما أن تتحكم بنا دولة صغيرة، إسرائيل، وتفرض على بلادنا العظيمة قوانين وتدابيير استثنائية خاصة تمس بسيادتنا وبحقوق مواطنينا على أرضها فهذا فوق ما يطاق ولا يمكن أن يكون مقبولاً بأي حال.
*كانت لدى نسبة كبيرة من السوفيات (القياديين) رغبة في توثيق العلاقة مع أوروبا، وكان ثمة من تحمس لتأسيس حلف ما، ولو بنفس طويل، مع ألمانيا خاصة وربما مع فرنسا بالتالي، كعنصر توازن إضافي مع الولايات المتحدة الأميركية وسعيها للهيمنة على القرار الدولي، وكان اعتراض هؤلاء يتركز على سياسة غورباتشوف الخارجية، لاسيما أيام شيفاردنادزه في وزارة الخارجية، إذ كانوا يرون فيه “متخاذلاً” و”أميركيا أكثر من الأميركيين” وينسبون إليه التأثير سلباً على رئيسه وتزيين التنازل والتراجع… طمعاً بالمساعدات التي لم تأت.
وفي واقعة مشهودة، اضطر غورباتشوف إلى توجيه ملاحظة حادة إلى شيفاردنادزه حول فقرة في البيان المشترك مع رئيس عربي زائر، تتناول الموقف الإسرائيلي من حقوق الشعب الفلسطيني واستطراداً من مشروع التسوية العتيدة “لأزمة الشرق الأوسط”.
*على صعيد العسكر، عاد الكثير من الزوار العرب بانطباعات وربما معلومات عن تعاظم الشعوب بالغضب في أوساط الجيش الأحمر، الذي “مرّغت القيادة كرامته بالتراب، فسرّحت قسماً كبيراً من جهود لترميمهم إلى البطالة والعوز، وأوقفت نمو قدراته العسكرية وتطوير أسلحته الاستراتيجية باسم السلام، في حين كان الخصم – العقائدين والاستراتيجي والسياسي – يوالي تطوير ما لديه مهدداً أمننا هنا في موسكو”.
ويروي مسؤول عربي بارز أن عسكرياً سوفياتياً كبيراً لم يتمالك نفسه فبكى وهو يروي كيف “اقتلع” مئات الألوف من جنود الجيش الأحمر في ألمانيا الشرقية وأعيدوا إلى الاتحاد السوفياتي من دون إعداد مأوى لعائلاتهم وأطفالهم فاسكنوا في خيم أقيمت على عجل لا هي تقيهم حر الصيف ولا برد الشتاء الروسي القاسي”.
*لم يكن السوفياتي العادي ليقبل مقارنة بين غورباتشوف والرئيس الراحل نيكيتا خروشوف. كان يتحدث عن خروشوف كقائد سوفياتي عظيم ارتكب بعض الأخطاء، ولكنه يراه أفضل ممن سبقه وأفضل خصوصاً ممن خلفه (بريجنيف)… أما غورباتشوف فكان يراه “غربياً أكثر مما يجب”، وكان يتهمه بأنه ينسى في بعض الأحيان أنه سوفياتي وشيوعي.
*لم يكن السوفياتي ليناقش حاجة نظامه إلى الاصلاح الجذري، وإلى تجديد الدم في الحزب والإدارة وتطوير المجتمع. وكان الجميع يعترفون بتخلف بلادهم، ويصبون اللوم على بريجنيف خاصة، وعلى قيادات الحزب “الذي صار خارج النظرية وخارج العصر”، لكن أحداً منهم لم يكن يرى الحل في التقليد الأعمى لنمط الإنتاج الغربي أو الرأسمالي. كانوا يرون أنهم بحاجة إلى “الديمقراطية” وإلى “الحرية”، وإلى مزيد من “الحقوق”، ولكنهم كانوا يفترضون أن التغيير يجب أن يأتي عبر ثورة جديدة يقوم بها الحزب الذي له في الاتحاد السوفياتي تراث نضالي مختلف تماماً عن “تراث” الأحزاب الشيوعية في أوروبا الشرقية “فعندنا الحزب هو الذي أنشأ الجيش الأحمر، أما هناك فالأحزاب من اصطناع الجيش الأحمر، وهي لا تعيش ولا تبقى في السلطة إلا بقدر ما يبقى محتلاً لبلادها”.
على إن المسؤولين العرب يلتقون، بشكل عام، مع المحللين والخبراء والمسؤولين الغربيين، في القول إن مقتل غورباتوشف كان في فشل تجربته الاقتصادية، فلا هو نجح في معالجة أسباب الفقر ولا في استئصال أسباب التردي في مجال الإنتاج الزراعي، بل لعله قد أضاف إلى المشكلات التناقص الحاد في الإنتاج الصناعي والفوضى الشاملة التي كانت تسمح بضروب من التخريب المتعمد كادت تدمر اقتصاديات البلاد.
وهم يخلصون، وعبر مقارنة – ولو شكلية – مع تجربة أنور السادات إلى اعتبار غورباتشوف “شهيداً للغرب” وضحية كبرى من ضحاياه… “فلقد أخذ منه الغرب كل شيء ثم لم يعطه ما يدعم به سياسته وما يحمي به التحول الخطير الذي أحدثه في مختلف مجالات الإنتاج”.
وفي أي حال فإن العرب، عموماً، هم أقل الشعوب حزناً على مصير غورباتشوف، ربما لأنهم يطلبون دائماً من حليفهم أكثر مما يطيق، وربما أيضاً لأن التحولات التي قادها قد أفقدتهم السند والنصير العظيم لقضاياهم كما أن انهيار الاتحاد السوفياتي أطاح بهامش المناورة الذي كان متاحاً لهم لتحسين شروط التفاوض مع الغرب، كما أنهى المعين الذي لا ينضب من السلاح الذي كان يحميهم من أطماع إسرائيل ومن خططها التوسعية… هذا من قبل أن يخضع غورباتشوف لسياسة الابتزاز الأميركية فيسمح بتهجير مئات الألوف من اليهود السوفيات من بلادهم لكي يزيدوا من قوة المحتل لبلاد شعب آخر.
… “بالكاد انتزعنا منه الموافقة على منح هؤلاء جوازات سفر سوفياتية عادية ومفتوحة بدلاً من قسيمة الإذن بالهجرة إلى إسرائيل تحديداً، إن هذا الرجل لغم إسرائيلي في الحزب الشيوعي السوفياتي، والأيام ستكشف حقيقته”.
ويختم المسؤول العربي تحليله بالقول: “-إنه يرفض، الآن، بيعنا السلاح وقطع الغيار إلا نقداً وبالدولار. إنه يتقصد إضعافنا، لأنه يعرف أننا لا نملك من الدولارات ما يكفي لإبقاء جيوشنا في حالة جهوزية، إنه يريد إجبارنا على الصلح مع إسرائيل، وهو يتنازل أمام الإسرائيليين تنفيذاً لشروط المساعدة الغربية، لكنه متى نفذ لن يغطى، وسنرى…”.
على إن هذا يغطي جانباً فقط من تجربة غورباتشوف، فهي أغنى بكثير من أن تحصر في هذه المعالجة التي فرضها الحدث الذي ما زال مفتوحاً والذي لما تتكشف أبعاده ونتائجه.
ولعل هذا الحدث هو الإسهام السوفياتي الفعلي في قيام النظام العالمي الجديد الذي لا يمكن أن تكتمل ملامحه وإحدى القوتين العظميين تترنح بين موقعين متباعدين تماماً: أحدهما على قمة القيادة الكونية، والثاني في طابور الدول الفقيرة والمرتهنة لمن يمنحها المساعدات والقروض والهبات الغذائية.
وسيكون على العالم أن ينتظر لبعض الوقت حتى تحدد القدرات الموقع النهائي للاتحاد السوفياتي قبل أن يصبح مشروعاً أي حديث عن “نظام عالمي جديد”.

Exit mobile version