طلال سلمان

على الطريق غورباتشوف “العربي” ينادي “عرب الأميركان”!

“إن الاتحاد السوفياتي لا يتسطيع أن يقرر نيابة عن العرب كيفية اشتراك الفلسطينيين في المؤتمر الدولي. فلندعهم يقررون بأنفسهم. دع العرب يقررون، وما علينا القيام به، نحن الأميركيين والسوفيات، هو أن نحترم قرارهم. إنه عالم عربي واسع، وعلينا أن نعترف بحق إسرائيل، في الأمن…”
لكم هي صريحة وواضحة ومثقلة بالمعاني والايماءات، هذه الكلمات التي جاءت على لسان ميخائيل غورباتشوف خلال مؤتمره الصحافي، عشية انتهاء لقاء قمة موسكو.
لقد قال فيها كل شيء، لضيفه الرئيس الأميركي، للعالم كله، وبشكل خاص للعرب ومن بينهم للفلسطينيين، من دون أن ينسى الإسرائيليين.
ولنجرب أن نقوم برحلة استكشافية داخل هذه الكلمات، الجديدة على مسامع العالم، والعرب بشكل خاص، والتي تحدد مسار التوجه السوفياتي في عهد “البرسترويكا” إزاء ما يسمى “أزمة الشرق الأوسط”.
*قد يرى البعض في هذا المنطق (العلني الآن) استقالة سوفياتية من وظيفة أو مهمة “الممثل العربي” على المستوى الدولي، المواجه بالضرورة لنظيره “الأميركي” الذي كان وما زال وسيبقى حتى إشعار آخر “الممثل الإسرائيلي” أو “وكيل إسرائيل” ومتعهد حمايتها وتأمين سلامتها وهي تخوض غمار الصراع العربي – الصهيوني.
*ولقد يذهب بعض آخر إلى ما هو أبعد فيرى في هذا الموقف “خيانة” سوفياتية للأصدقاء العرب، واقتراباً من الأميركيين (والإسرائيليين) على حساب الحق العربي في فلسطينز
*كذلك فقد يرى آخرون في هذا الموقف “تحريضاً” سوفياتياً للأميركيين مفاده ومعناه: دع العرب يبيعون أخوانهم الفلسطينيين…
لماذا نحمل أنفسنا الوزر طالما إن أصحاب الشأن “متطوعون” للقيام بهذه المهمة القذرة!
*وقد يحمل سوء الظن المتطرفين في عدائهم للاتحاد السوفياتي والشيوعية، في عصر غورباتشوف وانفتاحه كما في عصر ستالين وستاره الحديدي، على الاعتقاد بأن صاحب الثورة الجديدة في عالم الماركسية – اللينينية يومئ إلى “توطين الفلسطينيين” حيث هم في العالم العربي الواسع، باعتبار إن ذلك يؤدي إلى تأمين حق إسرائيل في الأمن.
باختصار: فليس أسهل من الاستنتاج، على محبذي السهولة، من القول بشيء من الزهو: – أرأيتم إننا كنا على حق في تشككنا الدائم بإخلاص الاتحاد السوفياتي للعرب وقضاياهم؟! أترى كيثف يعرض بيعهم في صفقة مكشوفة للأميركيين.
*وباختصار أيضاً، فما أسهل أن يضيف هؤلاء فيقولون: أرأيتم إننا كنا على حق حين نصحنا بإسقاط السوفيات من الحساب والاعتماد على الأميركيين وحدهم، ليس فقط لأنهم زعامة “العالم الحر” وقيادة جبهة الدفاع عن حقوق الإنسان، بل كذلك لأنهم يمسكون بتسعة وتسعين بالمائة من أوراق اللعة، وهم… على كل شيء قدير!!
بعض هذا الكلام قيل من قبل أن يصل غورباتشوف إلى قمة السلطة في الاتحاد السوفياتي،
وبعضه قيل بعد وصوله، ثم أعيد تأكيده في مناصبات عدة، فلما جاءت القمم الأميركية – السوفياتية، أعيد طرحه لإثبات صحة الاستنتاج المسبق وبعد النظر التاريخي!
وبعضه يقال اليوم وسيقال غداً حتى يحسم من ما زال يتردد، بين العرب، فيصر على الاحتفاظ بصداقة أو بعلاقة طيبة مع الاتحاد السوفياتي.. معطلاً بذلك تفويض الأميركيين بإحقاق الحق العربي في فلسطين وسائر الأراضي العربية المحتلة…وصولاً إلى الأندلس!
على إن أية قراءة متأنية وغير مغرضة لكلام القائد السوفياتي الذي يملأ دنيانا المعاصرة ويشغل الناس، توصل إلى استنتاجات مختلفة تماماً، بل ومناقضة في بعض الحالات، وإن كانت موجعة في الحالات جميعاً وأبرزها الآتية:
1 – إن الاتحاد السوفياتي يتصرف ويتحدث بلسان زعيمه بلغة “الدولة العظمى” ويحدد، على هذا الأساس، موقفه القديم – الجديد من مسألة تمس أمن العالم ، وتعني بشكل مباشر شريكه الأميركي في قمة الجبارين.
لعل الأسلوب قد اختلف، لعل المجاملة المعتادة للعرب قد اختفت. لعل حدة العداء للجبار الأميركي قد نقصت، ومن ثم فقد شحبت سياسة الرفض المطلق للسلوك الإسرائيلي إزاء الفلسطينيين والعرب عموماً.
لكن الموقف في جوهره لم يختلف إلا بمقدار ما اختلف كل شيء في العالم سنة 1988 عما كان عليه في مثل هذه الأيام من العام 1967.
… وهذا يشمل، بطبيعة الحال، مقدار اختلاف الموقف العربي اليوم (إذا وجد!) ومن ضمنه الموقف الفلسطيني (إذا أمكن تحديده بدقة) عنه قبل عشرين سنة أو أقل قليلاً (إذا اعتبرنا سنة 1970 هيسنة الأساس وليس سنة 1967).
2 – إن الاتحاد السوفياتي قد مثل، ولفترة طويلة، لاسيما في السنوات الأخيرة، دور”الأكثر عروبة” في العالم.
كان موقفه متقدماً، وبشكل نافر وغير جائز لدولة عاديةفكيف بدولة عظمى، عن مجمل الموقف العربي، أو محصلة “المواقف العربية” المختلفة ومن ضمنها “المواقف الفلسطينية المختلفة” حتى وهي تصدر عن القيادة ذاتها.
كان العرب والفلسطينيون يخوضون غمار مناقصة مهينة في حقوقهم، تاركين للاتحاد السوفياتي مهمة التشدد، وفي الغالب من أجل أن يتكئوا على تشدده لكي تفتح واشنطن (وربما تل أبيب) باب التفاوض!
بل إن ثمة بين حكام العرب من كان يحلو له أن يجعل التشدد السوفياتي و”التعرب” السوفياتي، و”التصرف” السوفياتي مادة للتندر!
3 – إن الاتحاد السوفياتي قد أعطى العرب، بمجملهم، مالاً يوازيه إلا ما أعطاه العرب “لعدوه” العقائدي والفعلي: الولايات المتحدة الأميركية!
كانوا يأخذون منه ديناً وعلى الحساب، ثم يتأخرون في السداد، ثم يماحكون في أصل المبلغ، ثم يطلبون “الجدولة” فتعطى لهم، ثم يطالبون بمنح هبات كالتي تعطيها الولايات المتحدة لإسرائيل، ثم ينتظرون أن يسقط الدين بمرور الزمن!
هذا في حين كانوا يمنحون الولايات المتحدة، وما زالوا، ثروات أرضهم، وأرصدة هذه الثروات الموظفة بالأصل لديهم، ومعها الهدايات الخرافية والتوظيفات والمشتريات الفلكية،
… ومن “عطاياهم” هذه، وليس إلا منها، كانت تقتطع المنح والهبات الأميركية لإسرائيل، واثمان الأسلحة الحديثة التي تزود بها فور خروجها من المصانع لكي يهدأ روعها وتطمئن فلا تموت خوفاً من العرب الذين ينوون القضاءعليها بأسلحة الكفر السوفياتي الهدامة!!
ثم إن العرب، بمجملهم ومع استثناء قد لا يشمل إلا سوريا والجماهيرية العربية الليبية (ولأسباب أخرى جنوب اليمن)، كانوا يمنحون الولايات المتحدة قبل عطاياهم ومعها وبعدها ولاءهم المطلق وتسليمهم بقياداتها (بغض النظر عن مصدر سلاحهم المجاني!!)، بذريعة إنها ضمانتهم لإحقاق الحق في فلسطين، وإنها – بالتالي – مصدر حمايتهم من ذراع إسرائيل الذي يطالهم حيثما كانوا في مشارق الأرض العربية الواسعة أو في مغاربها!
4 – إن الاتحاد السوفياتي قد أدرك، بعد محاولات لا حصر لها، إن الوصول إلى موقف عربي موحد، ولو على قاعدة الحد الأدنى، من المستحيلات، فكيف بحشد الطاقات العربية وتوظيفها من أجل معركة المصير؟!
كان يجد نفسه موضع انتقاد إذا قال بـ “السلم” و”التسوية السلمية”، فمعظم العرب يرد بكلمات تلبس لبوس الحرب، فإذا جد الجد وجدهم على أبواب واشنطن يلحون عليها بالرجاء أن تمنع عنهم خطر”الكريهة” وترد عنهم الغول الإسرائيلي ولتأخذ فتعطيه ما يريد: الأرض والسلام والمياه ومصادر الثروة… فالروح عزيزة، والحياة حلوة ولذيذة طالما إنك تسبح في بحر من الذهب الخالص!!
وكانوا يعتذرون له بالفرقة إذا طالبهم بالذهاب إلى الحرب، والفرقة مجلبة للعجز، يا طويل العمر،
وكانوا يسعدون إذا سمعوا منه النصح بالاعتدال، فكعبة الاعتدال واشنطن والابتعاد عنها تطرف والتطرف عورة أو ضلالة وكل طلالة في النار!
على إنك تستطيع أن تقرأ معاني أخطر فيهذا النص السوفياتي الدقيق، بينها:
إن واشنطن، في نظرنفسها، هي مرجع إسرائيل ومصدر أسباب حياتها،
وواشنطن، في نظرنفسها وفي نظر الأكثرية الساحقة من العرب الحاكمين، هي مرجع “العرب” ومالكة أسباب السلام والحرب، الحياة والموت،
ربما لهذا ترى واشنطن إن المؤتمر الدولي قائم فعلاً، تحت مظلتها وحدها، وإنها لا تحتاج إلى أي شريك أو مشاركة، وإن الوضع القائم لا يستلزم أكثر من مؤتمرشكلي يمنح الراغبين في الخيانة أن يفعلوها من وراءبرقع طفكل شيء بالمخفي حلال”!
ولأن الاتحاد السوفياتي رأياً آخر، يستند إلى قراءة واعية للتاريخ ودروسه، وهي قراءة تتجاوز بالضرورة “الواقع” المخزي الذي يعيشه العرب،
ولأن الاتحاد السوفياتي يؤمن، عبر تجربته المباشرة كما عبر الفلسفة والعقيدة التي يرتكز إليها حكمه، بدور الشعوب التي قد تغلب على أمرها فترة، ودائماً لأسباب تتصل بواقعها الاقتصادي – الاجتماعي – الثقافي، ولكنها لا تنتهي ولا تزول ولا يسقط حقها في مستقبل أفضل،
ولأن الاتحاد السوفياتي يعرف، ياليقين، إن الولايات المتحدة التي تفوقه تقدماً وغنى ونفوذاً في العالم، ليست سيدة الكون ومقررةمصائر الأمم والشعوب والأفراد في أربع رياح الأرض.
ولأن الاتحاد السوفياتي يقرأ، مثلاً، في انتفاضة الحجارة في فلسطين المحتلة، ما لا يمكن للولايات المتحدة – بحكم تكوينها كما بحكم الفلسفة التي يستند إليها نظامها – أن تقرأه وأن تستوعب نتائجه.
لهذا كله فالاتحاد السوفياتي يخاطب الولايات المتحدة مباشرة إذن فلنتفق نحن على أسس الحل، فإذا ما اتفقنا ساعدنا الأطراف جميعاً: العرب، ومن بينهم الفلسطينيون والإسرائيليون، على الوصول إلى التسوية المقبولة، في هذه اللحظة السياسية، تحت مظلة المؤتمر الدولي.
بتعبير آخر، كأنه يقول: ليس الاتحاد السوفياتي عدواً “قومياً” لإسرائيل، بل هو حريص على وجودها وعلى أمنها، فلماذا تتصرف الولايات المتحدة وكأنها العدو القومي “لأصدقائها” العرب، نيابة عن إسرائيل؟!
لقد حدد الاتحاد السوفياتي المسافة التي تفصله عن “أصدقائه” العرب، وبقي أن تحدد الولايات المتحدة المسافة التي تفصلها عن صديقيها اللدودين، العرب والإسرائيليين، مفترضاً إن التسوية تولد في هذه المسافة بالتحديد.
والمهم أن يستوعب العرب هذا المنطق السوفياتي وابعاده، وبعد ذلك يكون الحديث عن مدى الاستيعاب الأميركي، ومن ثم الإسرائيلي!
على العرب أن “يكونوا”، أن يوجدوا أنفسهم، أن يؤكدوا حضورهم، ولو على قاعدة الحد الأدنى ، كعرب،
ولعل القمة الطارئة، الفلسطينية العنوان، تكون فرصة لمثل هذا الاستيعاب،
لعل المناقصة لا تحولها، هي الأخرى، إلى فرصة ضائعة إضافية.
فالسؤال أولاً وأخيراً هو عن موقف العرب، عن العرب، وليس عن الأمم والدول الأخرى، عظمى في العالم، أو عظمى عليهم فقط كإسرائيل!
ولعل غورباتشوف قد قرر أن يتحدث إلى العرب بلغة أميركية لعلهم يفهمونه!

Exit mobile version