طلال سلمان

على الطريق غسان – الجبل

الجمعة، الأول من تشرين الأول 1976، والوقت بعد الظهر بقليل.
عاليه تحترق، ومعها القماطية وامتداداً كيفون – بيصور – قبرشمون، ومن فوقها بحمدون والقرى المنبثة على أدراجها لجهة المتن الجنوبي: الشبانية، قبيع، شويت، امتداداً إلى رأس المتن.
… وغسان برو يطل بوجهه الطفل عبر اللهب ويبتسم: كنت أنوي السفر فعلاً، لكن احتدام المعركة جعلني أقرر البقاء والتصدي. أنا ابن الجبل وهذه معركتي…
القذائف تحصد المنازل. الهواء صار هدفاً عسكرياً تصوب إليه مدافع الميدان، وراجمات الصواريخ تضرب الشمس فتبيدها شعاعاً أثر شعاع.
… وفي ريفون كان سليمان فرنجية قد فرغ لتوه من تناول غداء دمس إلى مائدة “باش قبضايات” مثله يدعى هنري صفير. وكان بصحبة فخامته عدد من شيوخ القبائل الحليفة على رأسهم كميل شمعون.
كان شمعون قادماً لتوه من وزارة الدفاع، وهكذا استطاع أن يطمئن الجميع إلى أن “غزوة عاليه” تسيسر في طريقها وفق الخطة الموضوعة، وإن “التنسيق مع الأخوان السوريين مذهل”.
وهكذا انصرف فرنجية إلى لعب دق طاولة مع كاظم الخليل، ترسيخاً للوحدة الوطنية وتمكيناً لها، في حين كان الشيخ محمد يعقوب يتصور مع قافلة العائدين على حوش بردى القريبة من بعلبك، وممثل الكتائب يخطب مفاخراً بالتلاحم العضوي بين الكتائب والأحرار والمحرومين والطلائع والجيش السوري.
… وكان غسان برو يقول عبر ابتسامته العذبة: اشتقت للضيعة، والله. صارت عين الغوابة (لاسا) في أعالي بلاد جبيل أبعد من القارة الأميركية. أخي علي وصل إلى كندا بأسرع مما أستطيع معه الوصول إلى عين الغوابة.
يصمت لحظات ثم يتابع متأففاً:
-لولا الاجتياح السوري لكنت الآن في طريقيغلى أي مكان في الدنيا. لكن كرامتي الوطنية اضطرتني إلى البقاء. ثم إنها معركة الجبل. وبأي منطق يدعون الجبل لأنفسهم وينكرونه علينا. نحن الجبل، والجبل لنا بقدر ما هو لهم.
… وفي ثكنة الفياضية كان بشيرالجميل قد فرغ من تنظيم الهجوم ووقف يبلغ الرأي العام: “إن القوات اللبنانية والجيش اللبناني باشراً مع الفجر استكمال تحرير الجبل فنقلا معركتهما إلى منطقة عاليه لتطهيرها”.
أما كميل شمعون فكان قد “أطلع من كبار الضباط في وزارة الدفاع على تطورات المعركة، وأعطى تعليماته بضرورة تأمين المزيد من الذخيرة وغيرها من ضرورات الحرب”، على ما قالت بعض صحفه، مؤكداً “إن الهدف من المعركة هو التحرير، التحرير”.
… وهجمت الجيوش جميعاً على غسان برو: جيش الأسد. جيش لبنان – بركات. جيش لبنان – مالك. جيش لبنان – الطحان. جيش لبنان – حنا سعيد، بالاشتراك مع طلائع الجيش اللبناني العربي – فهيم الحاج.
هجمت الجيوش جميعاً لتحرر الجبل، ولتطهره أرضاً وهواء وشمساً.
ونجحت الخطة الموضوعة، فسقط غسان برو في الجبل، وغاص فيه عميقاً عميقاً حتى بلغ جدار القلب فدخل لينزرع فيه شجرة سنديان جذورها حمراء ريانة، أصلها في الأرض وفرعها في السماء.
وهكذا استحق غسان برو الجبل بالموت كما استحقه بالحياة.
لكن إذاعة دمشق لا تزال ترى في غسان برو عنصراً فوضوياً، والرئيس الأسد يقول إنه أرسل جيشه لتنظيف الجبل من العناصر الفوضوية.
… وغسان يبتسم بعد،
هو الجبل الآن، وهم بعض تجار دمشق…
هو الجبل الآن. هو الجبل دائماً. وهم لا أحد غداً. لا أحد هنا ولا أحد هناك ولا أحد في أي مكان..
والتاريخ هو الحكم، وهو الديان، للذين في بيروت كما للذين في دمشق، ولاسيما للذين في دمشق.

Exit mobile version