طلال سلمان

على الطريق عيِّنهم… وأنت تضحك!

اللوحة كاريكاتورية تماماً مع ميل إلى السوريالية، لكن فيها أيضاً صورة الواقع بملامحه المأساوية التي صارت عادية جداً!
فهناك “مرشحون” ولا انتخاب،
وهناك برامج مطرزة بالوعود الخطيرة ولا ناخبون يقرأون فيختارون ويقررون (ثم يحاسبون؟!) وتكون أصواتهم الفيصل،
هناك “مظهر” ديموقراطي ولا ديموقراطية، وشكليات برلمانية من دون مضمون، بل لعلها مناقضة تماماً للبرلمانية بأصولها والفروع.
فاللجنة الفاحصة، حتى لا نقول “الهيئة الانتخابية” محددة ومحدودة ومعروفة الموقف والرأي والقرار، ولن تتأثر مقدار شعرة “بفصاحة” القادمين على عجل لخدمة الشعب، أو المستفيقين من غيبوبة طويلة ليستعيدوا حضوراً بات من الذكريات الباهتة.
المرشح لا يتوجه إلى الناخب، بل إلى اللجنة العليا – لسبب ما – تعيد النظر في أحد أصحاب الحظ، أو لعل الحظ يتدخل في اللحظة لاأخيرة فيموت “معين” فتكون فرصة لمن بعده، والأعمار بيد الله وهو مقسم الأرزاق.
والناخب لا يلتفت إلى المرشح بوصفه “نائباً” ولو بالاحتمال، ويدخر عواطفه وآراءه فلا يتحمس بالتأييد أو بالاعتراض، وهو إن غمغم أو تمتم أو همهم فإنما موضوعه “اللجنة” لا المرشح و”الموضوع” لا الكاتب أو الخطيب،
اللعبة مكشوفة تماماً، والمسرحية تعرض في ميدان مفتوح، لا كواليس ولا خشبة ولا ديكور، والكل يمكن أن يكون فوق الخشبة ويمكن أن يكون أيضاً في صفوف المتفرجين، و”المخرج” يتسلى بالحركة التي أحدثها الاعلان، لكنه لا يتدخل حتى لا يفسد متعة التوهم بأن الكل يتصرف على السجية!
والدخولية رخيصة جداً: بثلاثة دولارات يدخل اسمك التاريخ في سجلات وزارة الداخلية، وفي سجلات وزارة المالية، ويطرح على الطاولة الممطوطة لمجلس الوزراء (حتى تتسع للثلاثين)،
ومع التاريخ تخيئك الفرصة للنجاح سينمائياً، مثلاً، أو تلفزيونياً،
فمن خلال الشاشة الصغيرة التي تتيح لك عرض شبوبيتك وبرنامجك (وأهم فقرة فيه دينك، بل مذهبك، ومنطقتك)، تصل إلى “الجمهور” وإلى “النخبة” من الذواقة والنقاد والمنتجين ومكتشفي المواهب الجديدة التي سرعان ما تحلق إلى السماء السابعة بوصفها من النجوم الزاهرة،
وما تقصر به الشاشة الصغيرة تعوضه الإذاعة إذ تؤكد مثلاً رخامة صوتك ووضوح نبرتك،
ثم تكمل الصحف الخدمة فتنشر التفاصيل الدقيقة عن إخراج قيدك العائلي والفردي ومعه سجلك العدلي وربما نواياك وأحلامك.
إنه أكثر المسلسلات الشعبية في تاريخ التلفزيون. لقد ضرب “دالاس” و”داينستي” وضرب كذلك “ليالي الحلمية” و”ابله حكمت”… بل وحتى “رأفت الهجان”،
ثم إنه أكثر تشويقاً من “فوازير رمضان” بنسختيها: تلك التي تلعبها شيريهان القديرة أو التي تلعبها نيللي المهضومة.
وبالتأكيد لم يخطر ببال عبقري من قبل أن يبلغك الحل – كقرار – ثم يطرح عليك “الفزورة” أو “الحزورة” مداراة لمشاعر اللبنانيين المتمسكين بالسيادة والاستقلال!
… وبالمقابل لم يتخابث أحد قدر ما يتخابث هذا الجمهور فيتخذ صورة المهموم والشارد لعمق تفكيره بالحل “وهل على راس شفافه”!
على هامش المسلسل الميلودرامي، تحاشياً لتوصيفه بالكوميدين يمكن تسجيل بعض الملاحظات الجدية:
*الأولى: إن تظاهرة التزاحم على الترشيح ولا انتخاب تعكس في جانب منها مدى تشوق اللبنانيين إلى أي قدر وحتى إلى أي مظهر من مظاهر الديموقراطية.
*الثانية: إن الحرب قد قضت على عادات كثيرة لكنها لم تنقص ابداً حب الظهور، بل لعلها قد أججت نيرانه في الصدور، وهكذا مع الفرصة الأولى اندفع الراغبون المكبوتة رغباتهم إلى الاعلان عن أنفسهم بأكثر الوسائل عمومية.
*الثالثة: إن المسلسل قد كشف كم فعلت فينا الحرب، فهي قد ردتنا من “الأممية” و”القومية” و”الوطنية” ليس فقط إلى “الطائفية” و”الجهوية” ، بل إلى “القبيلة”،
ولقد ظهر اللبنانيون، بالطوائف الفيرست كلاس (الراقية) والترسو (الدرجة الثالثة) قبائل وعشائر تتناحر أفخاذها وسيقانها على مقعد طائر… وإن كان من نعم الله أن الصراع هنا غير مسلح (حتى إشعار آخر)، وبتعابير “ديموقراطية” تدعي الانتماء إلى “الشعب” وإرادته الغلابة!
فالميليشيا الطائفية تقلصت إلى حجم القبيلة، رأسها صار في عداد المافيات (وهي قبيلة أخرى) أما قاعدتها فتتنافس – ديموقراطياً – على حق تمثيل “فقراء” القبيلة!
*الرابعة: إن الحرب بنتائجها، قد دمرت أفضل ما في النظام وأبقت لنا مساوئه،
قبل الحرب كان “بعض” الصراع سياسياً، له جوانبه العقائدية والفكرية، وله عمقه الطبقي أي الاجتماعي – الاقتصادي بهذه النسبة أو بتلك،
أما لايوم فقد ألغي الهامش العقائدي – الطبقي – الاجتماعي من الصراع،
شطب كل من هو خارج الطوائف – الميليشيات – القبائل.
وهكذا فلن يجد جورج حاوي الشيوعي مقعداً “يناضل” من أجل الوصول إليه بالسبل الديموقراطية للصراع السياسي،
كذلك لن يجد رئيس الاتحاد العمالي العام أو أي نقابي آخر حيزاً للفئات الاجتماعية الواسعة التي يمثلها.
جورج حاوي، في هذه اللحظة، مجرد أرثوذكسي من بتغرين وأنطوان بشارة مجرد ماروني من كسروان،
ومع استعداد الرجلين – النموذجين للخضوع لقانون اللعبة، بحيث تخلى الأول عن شيوعيته لحساب أرثوذكسية (التي كانت بالافتراض قد ألغت دلالة انتمائه الديني)، وتخلى الثاني عن هويته الطبقية (وهي الأقوى ، بالافتراض، من دلالة انتمائه الديني).
ومع الاستعداد والتنازل وهجر المبدئيات يبدو متعذراً تغيير “المقدّر”، فما كتب قد كتب ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم!
لا مكان لغير الطائفي، اللهم إلا للمذهبي،
فليس الموقف السياسي هو المحك، ولا الانتماء العقائدي، ولا الجدارة بتمثيل هذه الفئة أو تلك من الفئات الشعبية.
هي عودة إلى أرذل ما في النظام، وأسوأ ما في مجتمع ما بعد الحرب، بالتشوهات الخطيرة التي أصابته.
مع ذلك فالمسلسل الانتخابي ما زال يصنف بين المضحكات… ولكنه على حد رأي المتنبي “ضحك كالبكا”،
فاضحك تضحك لك الدنيا واللجنة الفاحصة، وإلا ضحكت منك!

Exit mobile version