طلال سلمان

على الطريق عينوه طائفياً، ثم عينوه فئة أولى!

… ومن الحريات إلى التعيينات: حكم واحد لا حكمان!
الوطني مرفوض ومرذول ويساق إلى المحاكمة مطعوناً في إيمانه بوطنه وأمته،
والطائفي معزز مكرم تنهال عليه المكافآت بأكثر من قدرته على جمعها!
ومن لم يكن طائفياً من قبل، أو كان مشكوكاً في ولائه للزعيم الأوحد للطائفة، سارع إلى إشهار مذهبيته “ناصعة” كالفضيحة، فصدر القرار بتعيينه “ابناً شرعياً” للطائفة ممثلة “بابيها”، ثم اعترف به “أبوه” على طريقة شداد مع عنترة، وقال له: كر يا عنترة فأنت حر!
وكر “عنترة” فإذا هو مدير عام!
.. مع الاعتذار الشديد لعنترة وشيبوب وشداد وآل عبس أجمعين!
إذن، فكثير ممن شملتهم “بركة” التعيينات في مراكز الفئة الأولى إنما تم تعيينه مرتين: عينوا فلاناً مارونياً ثم عينوه مديراً عاماً، وعينوا فلاناً سنياً ثم عينوه أميناً عاماً، وعينوا فلاناً شيعياً ثم عينوه رئيس مجلس إدارة!
وقد يكون الذين شملتهم بركات الثلاثة أقانيم في حكم واحد، جديرين من حيث المبدأ بأن يكونوا حيث تمت تسميتهم،
بل إن بينهم بالقطع خبرات وكفاءات إدارية لا ريب فيها، خصوصاً وإنهم بمجملهم أبناء الإدارة،
لكن الأمر يتصل بالمسوغات الفعلية للتعيين، وبالملابسات السياسية لهذا التعيين منظوراً إليها في ضوء معطيات اللحظة السياسية القائمة والمهمات التي ستناط بالإدارة في عصر النهوض الاقصتادي العتيد، وليس بأشخاص الامعينين وبينهم من يحفظ الناس لهم تقديراً على مواقفهم والتزامهم “بالدولة” حتى عندما تهاوت تحت سنابك المسلحين التقسيميين بالهوى كما بالمصلحة.
بل إن الأمر أعمق من ذلك بكثير،
فالتعيينات بصورتها الفجة كما صدرت في ليل التوافق الثلاثي تكشف أبعاداً عميقة لازمة العلاقة بين الحكم وبين عباد الله المحكومين.
وأول ما تكشفه أن “الطائفية”، وبالتحديد استغلال الطائفة لأغراض سياسية، هي “فوق” أكثر مما هي “تحت”،
فالجمهور، الناس ، الشعب، مستعد لتجاوز الطائفية والانطلاق إلى الأفق الوطني المفتوح، إذا ما ترك لإرادته الحرة ولوعيه بمصالحه من داخل إحساسه بمواطنيته.
ولقد دلت معركة حماية الحريات العامة، وحرية الصحافة تحديداً عبر مقاومة القرار الجائر بتعطيل “السفير” على أن الناس تحرروا فعلاً وعرفوا طريقهم إلى الشمس والهواء والنقي عندما استطاعوا مغادرة المستنقع الطائفي الذي اسقطتهم فيه الحرب،
لكن “الذين فوق” لا يريدون ولا يتحملون أن تفلس تلك التجارة وأن تقفل دكاكينها أبوابها، وأن تسحب من التداول تلك اللغة الممجوجة التي تعيد تقسيم الناس بعدما اكتشفوا بفرح طريقهم إلى التوحد تحت راية الوطن والانتماء القومي.
بصيغة أخرى، وانطلاقاً من موضوع التعيينات، يمكن القول ببساطة:
كلما حاول الناس أن يتطهروا من الطائفية والانعزالية والانقسامية، وأن يشدوا أيديهم على ما يوحدهم وينبذوا ما يفرق بينهم، تولى الحكم دفعهم – من جديد – إلى المستنقع الطائفي، وكأنه متضرر من “تجفيفه” بالوطنية،
ممنوع عليك الخروج من أسر طائفيتك، أو مذهبيتك،
إن عقابك، لو خرجت ، سيكون شديداً،
ممنوع عليك توكيد انتمائك الوطني على حساب مذهبيتك، والارتقاء إلى الأفق القومي المفتوح، متحرراً من تعصبك، من غريزتك ومن كل ما يجعلك صغيراً وضئيلاً تخاف من كل قيمة معنوية عظمى.
الطائفية باب دخول إلى جنة السلطة ومغانم الحكم ونعيم الصفقات.
والوطنية، كما القومية، باب خروج إلى.. المعارضة، وبالتالي إلى اللامكان!
ومن قبل كانت محاسبة الحاكم تتم على أساس سياسي، فيجتهد لتزوير حقيقة الأمر ويصور الأمر محاسبة لطائفته وللدين كله، فتطمس القضية تحت وطأة مخاطر الفتنة، ويتحول الالتحاق بالأجنبي تعلقاً بالدين، ويصير الارتكاب بالرشوة أو بسوء استخدام السلطة وباستغلال نفوذ الموقع الرسمي تحصيناً لحقوق الطائفة أو تأميناً للخائفين أو تعويضاً للمحرومين عن حرمانهم.
الآن صارت لحكامنا المزيد من الحصانات الطائفية التي يمكن أن تعصمهم من النقد مهما بلغت انحرافات أي منهم السياسية، إذا ما هو انحراف او طغى فاستبد وأفسد.
وثمة محاولة جدية لتكريس رموز الطوائف من الحكام كآلهة، وإضفاء نوع من العصمة على أشخاصهم وذريتهم الصالحة بحيث يصبح المس بمرافق أي منهم خروجاً على النظام العام وخرقاً للدستور وإيقاظاً للفتنة النائمة يستحق عليهم الآثم اللعنات والرجم.
وهذا شأن خطير ولا يجوز السكوت عليه، لأنه – لو تم – يحول الناس إلى قطعان، أو.. في أحسن الحالات إلى مجموعة من “الملائكة” مهمتها أن تسبح بحمد حكامها إناء الليل وأطراف النهار.
وفي ظل الحكام – الآلهة تصبح المعارضة، على الفور، خروجاً على الدين، وإذكاء لنار الفتنة وتهديداً لسلامة اتفاق الطائف وجمهوريته الثانية التي تكاد تجعلنا نترحم على الأولى، حتى مع عدم معرفتنا – بالدقة – للحدود بين هاتين “المزرعتين” أو “التكيتين”، وكلاهما فريد في بابه!
والمعارضة ليست، في أي نظام ديموقراطي، شرفاً، وليست مجرد حق بديهي: إنها عنوان الإنسان وشرفه.
ما فضل “الموالي” الجاهز لتأييد أي حاكم والسير في ركابه؟!
… وحتى إذا كان هذا “الموالي” محقاً في ولائه، واستبعدنا عنه شبهة النفاق أو الارتزاق، فكيف يمكنه إثبات وجاهة رأيه في غياب المعارضة والصراع الديموقراطي من أجل توسيع دائرة الرؤية وانبلاج حقيقة المواقف والمسائل المطروحة، كاملة غير منقوصة.
في غياب المعارضة يتحول الموالون إلى أزلام وأتباع مأجورين، ويصبحون عبئاً حتى على “سيدهم” الذي – بدوره – سيتورط أكثر فأكثر (نتيجة تحريض “الموافقين دائماً” أو “اليس مان” كما بالإنكليزية)، ويستوغل في الخطأ حتى يصعب إخراجه منه أو إخراج الحكم سليماً.
في حضور المعارضة تكتسب الموالاة قيمتها وحقها في أن تدافع عن وجهة نظرها، باعتبارها موقفاً والتزاماً وليست توجيهاً بالأمر “من فوق” وتنفيذاً أعمى وحرفياً “تحت”، ويثور النقاش ويخصب الجدل مدللاً على حيوية الشعب والتزام الحاكم بالدستور والأصول الديموقراطية.
وفي ظل مثل هذا الصراع الديموقراطي يشيع في البلاد مناخ صحي يحصن الحكم والشعب والبلاد عموماًز
ويكبر الحاكم بقدر ما يستحضر شعبه.
وباختصار:
فليست المعارضة ترفاً، إنها جذر للديموقراطية وللكرامة الإنسانية، وليس الشرطي هو صاحب الصلاحية، وليس من حقه بأي حال أن يحدد من هو المخطئ ومن المصيب في المسائل الفكرية التي تطرح نفسها وفي القضايا السياسية التي تتصل – أحياناً – بالشؤون المصيرية وبمستقبل البلاد والعباد.
وفي الشأن السياسي يعجز حتى القاضي عن إصدار حكم في أي من الآراء هو الأصوب والأسلم، وأي من التوجهات هي التي تفيد البلاد وتخرجها من أزماتها.
وفي عودة إلى التعيينات وما أثير من اعتراض على تمثيل بعض الميليشيات فيها، يمكن القول وبمنتهى الموضوعية:
ليس من حق أحد أن يدين كل من انتسب إلى ميليشيا فقاتل ضمن صفوفها وحمل راياتها. ولو طائفية ومذهبية، في بعض مراحل هذه الحرب التي فرضت على جمهور اللبنانيين عامة الاقتتال تحت رايات طائفية.
ليس كل من انتسب إلى هذه الميليشيات أو تلك مرتكباً أو جزاراً أو قاتلاً، بل ثمة من استنقذ وطنيته وحافظ على شرفه ونظافة يده، حتى وهو يخوض معركة قذرة فرضت عليه في زمانه ومكانها وشعاراتها الخطأ،
وبالمقابل فليس كل أولئك الملايين من اللبنايين البذين لم ينخرطوا في صفوف الميليشيات، والذين صمدوا فلم يهاجروا ولم يتاجروا بدماء الشهداء أو برغيف المحاضرين، والذين تصدوا للظلم والقهر بصدورهم العارية، وأحياناً بسلاحهم ومن دون الالتحاق بهذه الميليشيا أو تلك،
ليس هؤلاء “خونة” وليسوا “ساقطين من الحقوق المدنية”، وليسوا أبناء جارية، ولا يجوز أن تمنع عليهم حقوقهم في وطنهم لأنهم ظلوا على وطنيتهم لم يغادروها إلى الطائفية والمذهبية وبقصد الانتفاع وليس “التحرير”.
وإذا كان من حق عناصر الميليشيات أن تدخل إلى حرم الدولة وقد كانت خارجها، فإن ذلك لا يجوز أن يصبح امتيازاً لها، ولا يجوز أن تعطي بطاقة الميليشيا حاملها الحق في “الاحتكار الحصري” للوظائف والمواقع الأساسية في الإدارة، بفئتها الأولى أو بالفئات الأخرى.
فالذي أفنى نور عينيه في الدراسة، والذي حمل الوطن دائماً في قلبه ولم يسقط رايته أبداً، صاحب حق مشروع في أن يتصدر الصفوف في بناء أو إعادة بناء الدولة…
لاسيما وإن بعض الذين جيء بهم من “المغتربات” أمس، وبذريعة الكفاءة والعلم والاختصاص، قد تخلوا عن جنسية البلاد والتحقوا ببلاد أخرى، وخدموا مصالح شركات واحتكارات في الخارج وللخارج، وربما على حساب لبنان ذاته.

Exit mobile version