طلال سلمان

على الطريق عود على بدء…

ليس اختفاء الاتحاد السوفيايت خبراً سعيداً لشعوب الأرض، بل إنه حدث مفجع سيكون بين نتائجه تفاقم الأحوال السيئة سوءاً في البلاد الفقيرة والمتخلفة والتي كانت تطمح إلى تسريع خطاها للالتحاق بالعصر بالاستناد إلى “بلاد الثورة الاشتراكية العظمى”.
وليس سقوط النظام الشيوعي – على تحجره ومجافاته لمنطق التطور وافتراقه عن أهداف العقيدة التي حكم باسمها لاسيما ما يتصل منها بالإنسان وحقه في الحياة الكريمة – مصدراً للفرح، خصوصاً وإن نقيضه، أي النظام الرأسمالي، سيزداد شراسة واستهانة بالإنسان عبر زهوه بانتصاره المجاني الذي جاءه على غير انتظار.
فليس التاريخ بلا ذاكرة، وأحداثه لا تستبطن صفحاته الصماء وتموت بالتلاشي والتقادم، بل إن فعلها يستمر يسري كتيار كهربائي في أفكار الناس وأحلامهم وتمنياتهم في اختراق المستحيل وصولاً إلى ما يليق بأدميتهم التي كرمها الخالق ولم يصنها المخلوق دائماً.
والشيوعية ليست نبتاً شيطانياً جاء به الجن من كوكب آخر، بل هي بعض نتاج النظام الرأسمالي ذاته الذي يقدم للعالم كله الآن وكأنه طريق الخلاص بل والخلاص ذاته.
فكل نظام يخلق نقيضه، وإذا كان النظام الشيوعي الذي عاش حوالى ثلاثة أرباح القرن لم يقدم النقيض الأرقى فلا يعني ذلك أبداً إن النظام الرأسمالي هو غاية المنى وذروة الطموح الإنساني بدليل بسيط إن الإنسان في ظله ما زال يحلم بالتغيير، وما زال يحاول التغيير، سلماً حيثما أمكنه وبالثورة المسلحة حيث لا تجدي أشكال الاعتراض والرفض “الديموقراطية”.
بل إن هذا النظام، الذي غيبت آخر رموزه أمس بغير وداع يليق بها ويليق بالمليار بني آدم الذين احترموها وأجلوها إلى حد التقديس، لم يكن فاشلاً إلى هذا الحد، بدليل إنه ساد نصف الكون عقوداً من الزمان، وحقق انتصارات مذهلة على النظام – النقيض، فأجلاه عن معظم آسيا وعن نصف أوروبا وعن بعض أفريقفيا وهاجمه في الباحة الخلفية لعاصمته الذي طالما ارتج بيتها الأبيض بفعل الهزائم التي مُني بها “الأميركي القبيح” في أربح رياح الأرض.
إن عالماً بلا الاتحاد السوفياتي ليس مكاناً أفضل للإنسان، تماماً كما إن سيادة النظام الرأسمالي بالهيمنة الأميركية المطلقة، ليست خطوة واسعة في اتجاه “المدينة الفاضلة” أو نحو مجتمع السعادة والعدل والخبز مع الكرامة.

إن عالم اللون الواحد هو مستحيل قاس وكريه، هو حكم ضد الإنسان، لكأنه إلغاء للعقل والفكر وإمكان المفاضلة والحق بالاختيار.
إن عالم “السيد” المهيمن الواحد هو أعلى درجات الدكتاتورية واضطهاد الشعوب.
ومع كل التحفظات المعلنة أو المضمرة على النظام الشيوعي (البائد) فمن التعسف واحتقار إنسانية الإنسان اعتبار النظام الرأسمالي هو مصدر الأمل ومعقد الرجاء.
وملفت أن يكون “الحكام” لاسيما في العالم القديم، وفيهم أعتى رموز التخلف والدكتاتورية والظلامية والقمع، هم أشد المرحبين وأعظم المتحمسين للنظام الجديد الذي أعطى نفسه شعار حامي حقوق الفإنسان.
وفي أي حال فليس من حق العرب خصوصاً وشعوب العالم الثالث عموماً أن تظهر كل هذا الكم من الانشراح البائس في لحظة تحققها من أنها قد حظيت برعاية “السيد” الفرد وحمايته.. فلقد كانت من قبل تحت وصايته أو احتلاله المباشر، ثم تحولت إلى الخضوع لهيمنته، ولم يمد عليها الظلال الوارفة لنعمة الديموقراطية التي يتغنى بها ويطلقها سراباً جديداً في صحراء اليأس من الأنظمة المتخلفة القائمة (وهي بمجملها غير شيوعية بل ومعادية للشيوعية).
وها هي المقدمات توحي بالنتائج.
فلولا انهيار الاتحاد السوفياتي ما كانت لتقع المغامرة الحمقاء لصدام حسين في الكويت، وما كانت لتقع بالتالي لتهب “عاصفة الصحراء” فتذرو المستقبل العربي مع الريح، وما كان العرب من ثم في مثل الوضع الذي يفرض عليهم مفاوضات الاختيار بين سلامتهم وأرضهم، وكائناً ما كان “خيارهم” القسري الكريه فلن يستعيدوا أرضاً ولن يجيئهم سلام ولن تكتب لهم سلامة، ناهيك بالتقدم والديموقراطية والازدهار الاقتصادي الموعود.
هذا الكلام ليس دفاعاً متأخراً عن نظام لم يعد يملك ما يبرر به نفسه فسقط من دون مقاومة، وهو الذي كان إلى ما قبل فترة بسيطة يرعب المعسكر الرأسمالي بكليته ويهزه هزاً عنيفاً ويطارده فيهزمه ويجبره على تغيير نفسه وتطوير مفاهيمه الموروثة.
إنما هي محاولة للتحريض على التأمل والتفكير في الغد من خارج المنطق الغوغائي السائد الآن والقائل بتبسيطه للتطورات، إذ يصورها وكأنها مجرد خطوات متسقة في اتجاه جنة تجري من تحتها أنهار الذهب والفضة وتتحقق فيها إنسانية الإنسان وكرامته.
فليس النظام الرأسمالي جديداً على روسيا (والجمهوريات الأخرى التي كانت تشكل تحت لوائها الاتحاد السوفياتي)… وما زال بقايا “الروس البيض” ينفقون أموالهم السائلة و”المجمدة” وكلها منهوبة، وقد هربوا من جحيم الشيوعية إلى النعيم الأوروبي للرأسمالية فأنشأوا بها المتاجر والكباريهات أو عاشوا بفوائدها أمراء وأصحاب ألقاب فخمة حتى لو اضطرتهم الأيام السوداء إلى العمل كمهذبين وبطانة لمحدثي النعمة الهاربين بأموالهم من شعوبهم الجائعة خوفاً من ثورتهم المقبلة..
وليست هذه أول مرة يولد فيها السيد المسيح في “الروسيا المقدسة”، فالمسيحية كانت هناك منذ ألف عام، وفي ظل القيصر كانت الكنيسة هي أقوى مركز للقرار وأغنى رأسماليي البلاد التي يموت أهلها جوعاً كل يوم،
ومخطئ من يفترض إن سقوط النظام الشيوعي هو الحل الآلي لمشكلات شعوب ذلك “العالم الأحمر” الذي كان يغطي مساحة اليابسة… فالنظام الشيوعي ما قام على أنقاش النظام القيصري – الرأسمالي في جوهره – الذي فشل في حل المشكلات ذاتها، بل وأقل منها بما لا يقاس.
ولم يكن الالحاد هو سبب التخلف، فرموز الرأسمالية – وبعيداً عن المظاهر الاستهلاكية المكرسة لنفاق المتدينين – ليسوا أكثر إيماناً من غلاة الشيوعيين في داخل الاتحاد السوفياتي أو خارجه.
لقد سقط نظام لم يكن يستحق أن يعيش أكثر،
لكن معركة الإنسان من أجل حقه في الخبز والحرية والكرامة ما تزال مريرة وطويلة ومكلفة، بل لعلها الآن أكثر قسوة وأشد صعوبة.
وإذا كان الصراع بين نظامين يفتقران إلى احترام إنسانية الإنسان قد أنهكا بشر القرن العشرين، فليس زوال أحدهما بشارة بل لعله أقرب لأن يكون وعداً بامتهان الإنسان أكثر واضطهاده في أرضه وحقوقه على حد سواء،
… أو هذه على الأقل صورة الحدث التاريخي في انعكاسها الأول على الواقع العربي المرتهن الآن لإرادة المحتل الإسرائيلي المتحصن في واشنطن كعبة النظام العالمي الجديد،
عالم بلا اتحاد سوفياتي؟!
إنه عالم فاقد للتوازن. إنه عالم مختل، إنه عالم السيد الواحد ومليارات العبيد، السعداء بكونهم قد تخلصوا من الخطر المحتمل ليموتوا في ظل الخطر الداهم الأكيد الذي طالما ناضلوا ضده ثم تعبوا فاستكانوا!
وعالم اللون الواحد هو – بالنتيجة – عالم المستحيل.
ومرة أخرى علينا أن ننتظر أن ينجب النظام الرأسمالي نقيضه المتضمن وعداً جديداً للإنسان في غد أفضل.
لقد رحل “النبي الكذاب”، ميخائيل غورباتشوف، وعلى البشرية أن تنتظر نبيهاً الجديد.

Exit mobile version