طلال سلمان

على الطريق عن يبروت وقضيتها (5) على باب دمشق!

تنظر بيروت بشيء من القلق إلى زيارة الرئيس أمين الجميل لدمشق التي يفترض أن تتم مع نهاية هذا الأسبوع، مسجلة بداية مرحلة جديدة في العلاقات التاريخية بين البلدين التوأمين لبنان وسوريا.
ومبعث القلق إن بيروت تشعر وكأن الزيارة تتم من خلف ظهرها وعلى حسابها، بسبب موقف أمين الجميل منها وموقفها منه.
فأمين الجميل سيكون أول رئيس لبناني يذهب إلى سوريا وبيروت ليست معه، بل هو مضطر إلى تجنب المرور فيها في الذهاب وفي الاياب، تماماً كما هو مضطر إلى تجنب المرور على الطريق الطبيعي عبر الجبل فالبقاع وصولاً على بوابات الحدود التي جعلت من الوهم تخماً جغرافياً.
وأي رئيس يذهب بلا بيروت سيبدأ حديثه ويختمه بالشكوى من بيروت والتحريض عليها والمطالبة بتأديبها من خلال محاولة تصوير خروجها عليه – هو الذاهب إلى دمشق والمسلم بقيادتها – وكأنه خروج على دمشق والقيادة فيها.
وبين دمشق وبيروت أواصر من العلاقات الحميمة والمتشابكة والمتداخلة والفريدة تجعل القرب والقربى بينهما أدق وأرق من أن يتحملا شكاية أو اتهاماً بالمروق أو العقوق والوقوع في خطيئة ظلم ذوي القربى.
إن بيروت ودمشق تعانيان، منذ زمن بعيد، مرضاً خطيراً يكاد ينغص عليهما الحياة فهما محكومتان باستحالتين معاً: لا تقدران على الوحدة لا تعيشان بالانفصال، وهكذا تتذبذب العلاقات في ما بينهما صعوداً وهبوطاً مدموغة بمجموعة من “العقد” المزمنة بينها الخجل بالماضي وما وقع فيه، بالرغم منهما أو بقصورهما، وبينها الضيق بالحاضر والعجز عن صياغته بما يتناسب والتصور الأحب للمستقبل.
وغالباً ما جنى الحاضر على المستقبل والتهم الكثير من ملامح ما يسمى “العلاقات المميزة” بين لبنان وسوريا،
بل إن بيروت بالذات تحس إن “لبنان” قد حرمها بعض حقوقها على دمشق وبعض حقوق سوريا فيها، وإنها تطالب دائماً (ومعها طرابلس وصيدا) بأن تدفع هي ومن تاريخها ومشاعرها ومصالحها وهويتها ثمن تلك العلاقات المميزة بين “الدولتين”.
أي إنها مطالبة بأن تنقص ما عندها ليزيد رصيد العلاقات التي توصف بأنها “مميزة” كتعويض أو تعزية عما كان يجب أن تكونه أصلاً،
فالعلاقات المميزة هي البديل عن الوحدة، أي عن الأكثر، وهي التمويه للواقع الانفصالي، أي للأقل،
والعلاقات المميزة هي “سياسة حكومية” تخفي أو تغطي قمع أو إلغاء أو طمس وقائع الحياة والجغرافيا وتتيح أمام الحاكم فرصة اتهام من قال غير قوله في هذا الأمر بنقص الولاء للبنان وافتقاره إلى مواصفات المواطن الصالح وسقوط حقه – بالتالي – في حقوق هذا المواطن.
فالقول بعروبة لبنان كان، وما يزال على صعيد “الدولة” وقوانينها، تمرداً خطراً على “الكيان الأزلي السرمدي”، الذي أنبتته زيجة بين البحر والسماء،.. فلا ماضي له إلا في كيانات أخرى تنتمي إلى الأسرة الكريمة ذاتها، إذ أن فينيقياً هي الأخرى أنبتتها زيجة بين البحر والسماء! ثم ينقطع التاريخ تماماً إلى حين ظهور الأمراء وإقطاعيات العصر العثماني فيعود “الكيان المقدس” من غيبته لتتم إعادة صياغته عبر فتنة 1860 مرة ثم على اليد الوحيدة للجنرال غورو مرة أخرى مع نهاية الحرب العالمية الأولى، ليستقر على صورته النهائية التي عرفناها بعد 1943 والتي نسجتها الأيدي الماهرة للجنرالات ديغول وكاترو وسبيرز.
أي إن تاريخ الكيان هو دائماً تاريخ الخروج على البيئة والمحيط والانتماء القومي، ودائماً هو فضل لأجنبي يغطيه ويبرره تفريط عربي،
وربما لهذا كانت الطائفة هي الأساس في المواطنة لا الوطنية، وكان الولاء للكيان شرطاً لاكتساب “اللبنانية”، لأن التذكير بحقيقة الانتماء القومي يهدد الكيان بالزوال ويفضح الزور والتزوير ودور الإرادة الأجنبية في صنعه أو اصطناعه.
العروبة، إذنن نقص في الولاء للبنان وخروج عليه وهي جريمة تعادل الخيانة العظمى، وهكذا تصبح لبنانياً صميماً بقدر ما تبتعد عن العروبة والعرب (إلا عن ثرواتهم ونفطهم ومصادر الرزق لديهم ومصادر الانتفاع من نزوات الحاكم ومجون محدث النعمة المقهور بالتخلف).
ولقد أدى هذا المنطق الأشوه إلى اعتبار القرب من العدو الإسرائيلي والارتباط به والتعامل معه إيغالاً في اللبنانية وحماية للكرامة والسيادة وشرف الاستقلال… عن العرب وليس إلا عنهم!
صارت العروبة “الخارج”، وصار الإيمان بها خروجاً على الكيان وتهديداً للنظام وعملاً انقلابياً معادياً للحكم والحكومة والعالم الحر!!
وبات من حق الشيخ بيار أن يطارد “العروبيين” وأن يدينهم وأن يمن على “التائب” منهم بصكوك الغفران، أما المكابرون والمعاندون فمرتزقة وعملاء للأجنبي لا يعمر صدورهم الإيمان بالصنم اللبناني المقدس ولا يستحقون بالتالي أن ينعموا بشرف حمل هويته المكللة بالأرزة الخضراء.
وتيسر للشيخ بيار أن يفيد من زمن التراجع العربي، فيمارس الابتزاز على جبهتين: يبتز “عرب الخارج” الضعفاء والمهزومين والهاربين من القتال والنضال ومواجهة عدوهم الصهيوني، فينتزع منهم الإقرار بغربة لبنان عنهم و”تفرده” بقدر من “الغربية” والصلة الحميمة والمشروعة بالغرب تجعله – في أحسن الحالات – في موقع الوسيط أو المترجم بينهم وبينه، ويبتز “عرب الداخل” المستضعفين بتخلي أخوانهم عنهم وبرداءة النماذج الرسمية للعروبة أي تلك الأنظمة البائسة المتسمة بمختلف سمات التخلف والقمع والانحطاط والاقتتال على السلطة والتفريط بمصالح الوطن أو حتى ترابه والاستعداد للاستسلام أمام الغاصب والطامع والدخيل فينتزع منهم قبول الواقع الانفصالي كحقيقة نهائية وبالتالي الاقتراب أكثر فأكثر من النموذج الإسرائيلي واعتباره المطمح والقدوة وجار الرضا والنصير على جيرة السوء الطامعين بلبنان والحاسدين له!
ومؤلمة هي المفارقة هنا: أن يتمكن مثل هذا الرجل القادم والده من المنصورة بمصر، لأجداد يعرف عنهم إنهم من أهل القدس بفلسطين، ويقول آخرون إنهم يعودون بنسبهم إلى قبيلة يمنية، من تحقيق مثل هذا النجاح الباهر في إنكار هوية لبنان واللبنانيين العربية، وأن ينتزع من عرب زمن الهزيمة إقراراً بهذا الهراء، في حين ادعاء النقص في عروبة اللبنانيين هو اتهام لسائر العرب بنقص في عروبتهم حتى لو كانوا عدنانيين أو قحطانيين!
فالعروبة هي الانتماء الحضاري والثقافي والتاريخي لهذه الأرض ولهذه الأمة، وهي الثورة وحلم التغيير والطموح المشروع إلى غد أفضل لا يمكن أن يبني بغير أن تلحق الهزيمة بأعداء هؤلاء جميعاً كائنة ما كانت أسماؤهم والصفات.
هل شردنا مع الايديولوجيا؟!
لنعد إذن إلى أرض الواقع، وإلى حقائق السياسة والحياة اليومية،
*وأولى تلك الحقائق أن تراجع العروبة في لبنان يعني تقدم الصهيونية أو التصهين فيه، وإن التوكيد على هويته العربية ليس ترفاً، كما في اليمن مثلاً، بل هو تحديد ضروري ونهائي لموقعه في خريطة الصراع العربي – الإسرائيلي.. فهو يكون من العرب ومعهم ولهم وبهم أو يتحول إلى محمية أو محميات إسرائيلية تحل الطوائف والمذاهب والعناصر والعشائر محل الوطن والأمة والانتماء القومي الواحد، وتشكل جسر عبور لسرطان الفتنة والاقتتال الأهلي إلى كل أرض عربية.
وبرغم القرار اليتيم للمؤتمر الأول للحوار الوطني في جنيف بالنص على هوية لبنان العربية، فإن تلك الهوية لم تعتمد بعد من قبل الحاكم اللبناني ولا فعلت فعلها الضروري والحاسم في النظام السياسي السائد “وفي المجالات كافة” من الثقافة إلى التربية والتعليم فإلى الاقتصاد وصولاً إلى المؤسسات وفي طليعتها الجيش والقوات المسلحة.
وحين يكون لبنان عربي الهوية، كما هي حقيقته، لا يكون تفضلاً من حاكمه أن يلغي اتفاقاً مع العدو الإسرائيلي، بل يكون الالغاء – في أحسن الحالات – رجوعاً إلى جادة الصواب وتراجعاً عن خطيئة مميتة ما كان ممكناً أن تكتب لها الحياة وافتداء للذات وللموقع الممتاز ومعه الامتيازات المشهورة!
ثم إن الالغاء لا يكفي لتوكيد الهوية، بل لا بد من توفير الضمانات لعدم انجراف هذا الحكم أو أي حكم آخر نحو مثل هذا الخطأ القاتل، والضمانات تكون من الداخل وفيه أولاً وقبل أن تكون “خارجية” فعرب الداخل، الوطنيون حتى النخاع، المقاتلون والمستشهدون من أجل لبنان الوطن، هم الضمانة الأولى والأهم، ويجب أن تتأكد صفتهم هذه، مرة وإلى الأبد، لا أن يظلوا مدانين في الداخل بتهمة الولاء للخارج، ومتهمين في الخارج بالقصور والعجز بحيث يحتاجون دائماً إلى وصي أو إلى كفيل وضامن ومؤدب، إذا ما دعت الحاجة!
*ثانية تلك الحقائق إن قوة سوريا في لبنان تكون بقوة العروبة فيه، ومهما كانت العروبة قوية في دمشق فستظل ناقصة القدرة بقدر النقص أو الضعف في عروبة بيروت فكيف إذا وصل بهم الأمر إلى إنكار عروبة هذه المدينة العريقة؟!
إن لبنان المستقل عن العرب هو لبنان المنفصل عنهم، ثم هو لبنان شبه الغربي، وأخيراً فإنه لبنان شبه الإسرائيلي، وأعظم هزائم إسرائيل الكيان العنصري القائم على التعصب الديني تكون في لبنان بالذات وعبر توكيد عروبته وقدرة هذه العروبة على استيعاب خصائص اللبنانيين باعتبارهم بعض العرب ومنهم وليسوا شعباً آخر هجين الأصل والتاريخ ومن ثم مضيع المستقبل.
*ثالثة تلك الحقائق إنه لا يجوز أن يكتفي من لبكان بالحكم فيه، كائناً من كان الحاكم.. فالحكم وحده طرف في صفقة يعقدها مع “الأقوى” مع إسرائيل إذا كانت لها الغلبة، ومع سوريا حين تتوفر لها شروط النهوض والقوة، أما الشعب، الناس في بيروت والجبل وطرابلس والشمال وبعلبك وزحلة والبقاع وصيدا وصور والنبطية والجنوب، فهو الباقي وهو الذي لا يغير موقفه وموقعه مع تقلب الريح ودوران الفلك.
وتبقى حقائق أخرى منثورة على طريق بيروت – دمشق، أقصر طريق بين عاصمتين والتي تبدو في بعض الحالات والأزمان وكأنها أطول من الطريق إلى القمر، سنعود للحديث عنها مع اقتراب موعد الزيارة التي نأمل ونريدها أن تكون بداية لمرحلة جديدة أكثر تقدماً وأكثر خيراً للبنان ولسوريا، وليس مجرد محطة تفصل بين جولتين من جولات الحرب التي لا تنتهي وبين أسبابها إننا نتوه عن الطريق أحياناً أو نتوه عن الهدف أو عن الأمرين معاً.

Exit mobile version