طلال سلمان

على الطريق عن طرابلس التي اغتيلت مرتين: وداعاً أيها الحل الشهيد!

الدم، الدم، الدم. تحس المدينة مرشومة بدم شهيدها. أنى التفت تستنشق رائحة الدم. تأتيك من البحر، من البر، من الجو ومن عرق المشيعين المثقلين بالهم.
الدم سحابة تظلل موكب الحزن والأسى والضياع وافتقاد الأمان.
الدم يضرج قرص الشمس بالحمرة، ويزرع في عيني الصورة العتيقة للرئيس الشهيد حرقة السؤال – القضية: لماذا؟!
السلاح كثير، لكنه وافد، ثم إنه صامت. ما زالت إرادة الراحل الكبير مقدسة: لا للسلاح والمسلحين، نعم للحوار، لا للعنف والتطرف والانفصال، نعم للوحدة وبالتسوية.
حتى المدافع التي حيت الشهيد في لحظة الوداع الأخير كانت طلقاتها خلباً. لم تكن موجهة ضد أحد، ولم تؤذ إنساناً أو مبنى أو شجرة.
الدم يستصرخ المدينة الثكلى فيتكاثف غضبها ويثقل عليها فإذا هي واجمة مكلومة، والعيون المفتوحة على مداها بالقلق لا تدر الدموع ولا ترمش، ربما حتى لا تفقد أثر خيط الدم الممتد جرحاً بين الفيحاء والقاعدة العسكرية في أدما، قرب جونيه، مروراً بمطار الموت في حالات.
أتبع خيط الدم يوصلك إلى المعنى المحدد للهتاف المحموم المطالب بإعلان الحقيقة وكشف الجناة ليمكن بعد ذلك البكاء على الرئيس الشهيد.
لكن طرابلس ترفع الصوت بأكثر مما اعتادت لتؤكد إنها ستبقى ما كانته، ما كانه قائدها وزعيمها، قلعة قومية تحمي بصدرها وصدور أبنائها الاتجاه الوطني والحل الوطني والحلم الوطني في لبنان.
أبداً لم تكن هذه المدينة العريقة، رجلاً واحداً فرداً كما كانت بالأمس وهي تشيع قائدها الشهيد.
وعلى امتداد أربعين سنة، تقريباً، من الزعامة وممارسة القيادة السياسية من موقع رجل الدولة، لم يكن رشيد كرامي أكبر وأقوى منه بالأمس وهو يشيع شهيداً عظيماً للجهد المستهدف إنهاء الحرب الأهلية وتهذيب طائفية النظام بحيث يتسع لمواطني “الكيان” جميعاً.
وعبر الطابع “الفولكلوري” للحشد اللجب الذي انتظم في مسيرة الوداع تحس وكأنما لبنان كله قد جاء لتشييع دولته واحتمالات الحل وطموح شعبه إلى السلام والوحدة والعدالة.
العمارات وجوه متحسرة، العمارات عيون محترقة بالقلق والأسى وهم المصير.
وأنى التفت تنتصب أمامك علامات الاستفهام عالية على طول الطريق بين الجريمة والشهيد، وباتساع المدى الذي تناثرت فيه رئتا الشهيد وقلبه الكبير.
الهتافات التياع، والتمني يغلب على المطلب.
الأحزات أشتات وشيع وجهات وطوائف وجبهات وفصائل وليست جبهة واحدة.
المدينة خارج الأحزاب. الأحزاب خارج المدينة، المدينة بحالها، والأحزاب بحالها.
العسكر كثير في الشوارع، في الساحات، فوق السطوح، في النوافذ جميعاً. البعض يرتدي المرقط، والبعض رمادي الزي، وأكثرهم الذين بالملابس المدنية. لكن العسر عساكر. لا قيادة، بلا قيادات، لا مرجع بلا مراجع عدة، والصلاحيات تتداخل وتتقاطع وتتشابك فتزيد من الفوضى والاضطراب.
الحشد لجب. لكنه أقرب إلى صورة الوضع العام في البلاد…
الناس موجات بعضهم إلى جانب البعض، لكنهم لا يشكلون وحدة متجانسة. قد يتفقون في المطالب والمطامح العامة. ولكنهم فرادى يسيرون، وفرادى يحلمون، وفرادى يتحركون وفرادى يفكرون ويصلون إلى استنتاجات مختلفة فيبقونها طي الضمائر حرصاً على جلال المناسبة وفداحة المصاب الذي يعنيهم جميعاً.
تأخذهم الموجات البشرية المتدافعة، الآتية من كل ناحية، فترصهم متلاصقين في الاتجاه ذاته، ولكنهم عند الأبواب يتدافعون ويتناكفون: الكل يريد أن يكون الأول، الكل يريد أن يدخل قبل الآخرين وأن يخرج قبلهم، الكل حريص على إعلان تمايزه عن الآخرين.
مدينة القلق واللوعة كانت طرابلس، بالأمس،
ومدينة القلق والضياع وافتقاد القائد والقيادة ستكون في الغد.
هي ثكلى والشمال يتيم. كان رشيد كرامي هو الرابط وصلة الوصل مع سائر أنحاء الوطن، مع فكرة الوطن الواحد بأرضه وشعبه والمؤسسات… فكيف الآن وقد سقط بين أيدي أهم هذه المؤسسات وأخطرها؟!
كان يتجاوز حاجز البربارة طائراً، وتقريباً فوق ذلك الحاجز قتل، وربما ليتم قطع الصلة ومن أجل أن يفك ارتباط الشمال بالمركز وبالأنحاء الأخرى حوله ومن بعده. صار الشمال بحاله. فبين البربارة والمتحف دنيا مختلفة، عالم مختلف، عصر مختلف، ولا مجال لاجتياح تلك المساحة الضوئية من الاختلاف براً، ولا مجال حتى لاجتياحها جواً أيضاً.. فالعبوات تتربص بالطائرين ومطار الموت في حالات ينتظر جثثهم لكي يستمد منها مبرر الوجود والحياة.
من بين العرب جميعاً، بدولهم الـ 22، وحدها سوريا (وإلى حد ما الآردن) تعاطت مع الحدث بمستوى أهميته وبوصفه قضية قومية وليس مجرد جريمة اغتيال سياسية.
كان المآتم سورياً بقدر ما كان لبنانياً… وكان بحدود معينة فلسطينياً أيضاً.
كان هناك نائب رئيس الجمهورية العربية السورية عبد الحليم خدام يرافقه أربعة من الوزراء وعدد ضخم من قيادات القوات المسلحة، وكانت مساحة الحزن والقلق تتخطى الحدود فتعبر “النهر الكبير” لتلقي بظلالها على مجمل القطرين الشقيقين والتي تشكل طرابلس حبل السرة الرابط بينهما.
أما سائر الدول العربية فقد تعاطت مع الحدث كحادث. كأنما مات رشيد كرامي بالسكتة القلبية أو في حادث سير. لم يثر اهتمامها كون الجريمة إسرائيلية التوقيت والغرض بغض النظر عن الأدوات المنفذة، وهي إسرائيلية الارتباط والهوى والهدف. وهكذا فقد اكتفى أصحاب الجلالة والسيادة ببرقيات العزاء التقليدية، وثمة من تكرم فكلف سفيره في بيروت أو في دمشق بتمثيله في الجنازة الرسمية!
لم يعد الحزن، وقد صار بحراً بلا حدود، عنصر توحيد بين الناس.
صار القلق هو الموحد. والقلق أخطر الآن من الحزن وأفعل وأعم.
والأسئلة الكبيرة، أيضاً، وهي تعكس القلق أساساً، تلتهم الكثير من الحزن، وتغلب هم المصير على ما عداه.
وطرابلس كانت مسرحاً فسيحاً، أمس، للأسئلة الخطيرة:
*من قتل رشيد كرامي؟ ولماذا قتلوه؟! ولماذا في هذا الوقت بالذات؟
*ما هو دور الحكم؟!
*ما هو دور “القوات اللبنانية” التي احتلت وقائدها حيزاً بارزاً في هتافات الغضب والمطالبة بالحقيقة والثأر، التي أطلقتها حشود المشاركين في مسيرة الوداع؟!
ثم ما هو دور الجيش كمؤسسة، كقيادة أو كقيادات؟
ما هو دور قائد الجيش، وما هو موقفه من الذي كان؟
ما هو دور مدير المخابرات في الجيش وهو المعني مباشرة بالذات كان؟!
ما هو دور رئيس جهاز الأمن العسكري؟!
ما هو دور قائد سلاح الجو؟!
ما هو دور قائد قاعدة أدما التي انطلقت منها الطائرة بالشحنة القاتلة؟!
ما هو دور ضابط الأمن العسكري في هذه القاعدة؟
ما هو دور الطيارين والمساعدين والفئيين؟1
*من زرع العبوة ومن تستر عليها، ومن فجرها، إذا كانت قد فجّرت من الأرض كما تشير بعض القرائن؟!
*ثم السؤال الأخطر: ما هو دور هذا الواقع المفجع المتمثل في أن هذه القيادات جميعاً من لون واحد، وتخضع لهيمنة فئة محددة؟!
وهل يتاح لمؤسسة تحكمها الاعتبارات الطائفية بهذه الصرامة أن تكون وطنية الدور والتوجه؟!
وإذا كانت قد عجزت في امتحان انتمائها على حياة رجل الدولة الأبرز والأهم والأحرص عليها، فهل يمكن – بعد – ائتمانها على مصير البلاد ناهيك بسيادتها والاستقلال؟!
وأي مشاركة تلك التي يتحدثون عنها، والتي ذهب رشيد كرامي شهيداً لإصراره على تحقيقها، إذا ما ظلت قاصرة على بعض مواقع السلطة ولم تعتمد قاعدة فعلية في بناء المؤسسات جميعاً، والجيش أساساً، وفي تحديد هويتها ودورها ومهماتها؟!
القلق أعم من الحزن وأبقى،
وحين أقفرت الشوارع من المشيعين كان القلق وما يزال يحتل شوارع المدينة الثكلى ويمتد منها إلى مختلف أنحاء لبنان، وعبر الحدود أيضاً إلى دنيا العرب الفسيحة انطلاقاً من سورياز
وإذا كان البعض قد وصف رشيد كرامي بأنه آخر رجال الدولة في لبنان، فإن ثمة من يعتبره آخر العرب في نادي رجال الحكم في لبنان.
لكأنما الجريمة تستهدف أساساً إزاحة العقبة الأخطر في طريق الحل الإسرائيلي،
لكأنما تستهدف – تفصيلاً – أن تحذف طرابلس من خريطة التأثير على القرار السياسي اللبناني، وفي هذه اللحظة بالذات من موقع التأثير على معركة رئاسة الجمهورية في العام المقبل.
فرشيد كرامي هو “الناخب اللبناني الأول” في معركة رئاسة الجمهورية،
ورشيد كرامي، رجل الدولة والعربي ابن طرابلس تحديداً والقائد السياسي المحنك والمجرب والمدرب والخبير بالتكتكات والمناورات السياسية والتحالفات والمخاصمات وسائر أصول اللعبة،
إذن لقد حذف، الآن، كرامي، وحذفت معه طرابلس، والتي لا بد أن نستذكر الآن اسمها الأصلي: طرابلس الشام.
أما بيروت فمحذوفة من قبل.
حذفت عندما شطرت شطرين، بل شطوراً عدة،
وحذفت عندما عجزت القوى الوطنية التي تسلمت زمام الأمور فيها لفترة، أن تحمي وحدة شطرها الغربي، وذلك أضعف الإيمان، فاستنزفتها حتى الرمق الأخير باشتباكات القبائل المسلحة والصراعات المذهبية المدمرة،
وأما الجنوب فمحذوف أو قليل التأثير، بسبب الاحتلال الإسرائيلي المقيم كما بالاعتداء المفتوح الذي يتمادى وتتمدد مساحته يوماً بعد يوم فتكاد تغطيه كله من نهر الأولي وحتى التخم الفلسطيني.
والبقاع محذوف أصلاً، ونادراً ما كان له دور إلا دور الملحق،
يبقى الجبل، وهو جبلان، بل ثلاثة، بل أربعة، وربما أكثر.
وهكذا لا يبقى إلا ذلك الجزء من الجبل الممنوع تواصله مع الأجزاء الأخرى، والذي صيره الاختراق الإسرائيلي للنسيج الاجتماعي فيه كما في أنحاء أخرى من لبنان، رهينة في يد العدو، يوظفه ويوظف امتيازاته وموقعه المميز في النظام وفي الكيان لمصلحة المشروع الإسرائيلي العتيد لاستعادة زمام المبادرة في المنطقة انطلاقاً من لبنان الممزق والنازفة جراحه المفتوحة وأخطرها الآن جرحه برشيد كرامي.
كل لبنان كان في المآتم بطرابلس الحزينة، يوم أمس،
لكنه جاء لبنانات وعاد من المدينة الثكلى لبنانات.
جاءت الطوائف فأكدت حضورها كطوائف. لم تغب واحدة لكنها – في حضورها – لم تكن وحدة واحدة برغم توحدها في القلق على المصير.
والمدينة دخلت ليل القلق الطويل يملأها الإحساس بأنها اغتيلت مرتين: مرة بقتل زعيمها، ومرة ثانية حين غيبت الحقيقة وطمست أسماء المجرمين، من خطط منهم ومن نفذ ومن كان أداة القتل الرخيصة أو أداة إخفاء معالم الجريمة.
ولقد قالتها طرابلس بلسان مفتيها: لن نسكت، ولن نرضى بتجهيل القتلة، ولن ننسى ونعتبر أن ما كان قد كان ولا حول ولا قوة إلا بالله.
لقد وصلت نار المشروع الإسرئايلي إلى طرابلس، الآن،
ولكن المدينة المعتزة بتاريخها النضالي وببطلها الشهيد تعيش حالة استنفار تسبق ردها على الجريمة وأهدافها البعيدة،
والأول من حزيران مرشح لأن يكون بداية تاريخ جديد وإن كان منطلقها نهاية رجل عظيم أعطى لبنان وأمته كل شيء حتى قلبه ودمه وروحه.
وطرابلس تستحضر الآن رشيد كرامي، وأكثر من أي يوم مضى، لتذهب معه إلى الحرب التي فرضت عليها، كما على سائر أنحاء لبنان، حرب تأكيد الهوية والانتماء والمصير.
وخيط الدم مرشح لأن يحفر أعمق في الأرض كما في الوجدان.

Exit mobile version