طلال سلمان

على الطريق عن بيروت وقضيتها (4) البرنامج الوطني لا الشرطة!ر

ليس في مقدر أحد، شخصاً كان أم حزباً أم جهة أم دولة حتى ولو عظمى، أن يكون “رئيس مخفر بيروت”، أو رئيس مخفر لبنان”، فكيف بأن يكون “رئيس مخفر المنطقة” المحكومة بقوانين الصراع العربي – الإسرائيلي المفتوح على مداه، والذي يشكل مركز ثقل أساسياً في سياق الحرب الأهلية التي تلتهمنا منذ تسع سنوات ونيف.
وتغليب “الأمن” على كل ما عداه، واعتباره النجاح في توفيره هو النصر والفشل هو الهزيمة منطق ساذج ومغلوط… ولا يجوز الخلط بين أمن المواطن، الأمن الشخصي المتصل بحياة الفرد وحريته في التعبير عن رأيه والبيت والمصاغ والسيارة والسجاد وبضاعة المحل التجاري، وبين “الأمن” العام، أي أمن المدينة والجهات التي تحولت “حدودها” إلى محاور وجبهات وخطوط تماس.
فالأمن الشخصي يمكن ولا بد من توفيره، بأي ثمنن ولا بد من ضرب كل يد تمتد إليه بالسوء، لكي يمكن بعد ذلك مطالبة الناس بالصمود وتحمل الضرائب الباهظة للحرب الأهلية التي لا يملك أي طرف منفرداً القرار بوقفها.
وتوفير هذا الأمن ضرورة سياسية ملحة، لكن مسؤوليته تظل أو يجب أن تظل على عاتق المكلفين أصلاً والمولجين أصلاً والموظفينه أصلاً لهذا الغرض، من قوى أمن بأشكالها كافة إلى “الجيش” المنحاز سياسياً إلى الاتجاه الوطني العام، إلى القضاء الذي لا بد من تمكينه من ممارسة مهامه ولو وفق منطق استثنائي يتناسب مع طبيعة المرحلة.
أما القوى والأحزاب السياسية التي تحمل نفسها أو يحملها الناس مسؤولية مباشرة في هذا النطاق فيجب أن ينصرف همها إلى رعاية القرار السياسي الوطني وتأمين التفاف الناس حوله وحمايته، وذلك عبر توعية الجماهير وتعبئتها وتنظيمها من خلف برنامج وطني شامل يجيب على كل أسئلتهم وتساؤلاتهم القلقة، ويجيب أيضاً على كل طموحاتهم المشروعة لغد أفضل.
فلا أحد يقاتل حباً بالقتال، ولا حباً بهذا الزعيم أو ذاك، أو هذا الحزب أو ذاك التنظيم لذاته، بل يقاتل حين يؤمن بمشروعية القتال وباتصال أهدافه بحياته وبمستقبل أجياله الآتية.
والبرنامج الوطني هو العلاج الحقيقي لقلق المواطنين، وهو الذي يربطهم بالقضية، وهو الذي يحجم همومهم الأمنية في إطارها الصحيح،
فلا يجعل الأمن اليوم وبأي ثمن بديلاً عن الوطن، وطن اليوم والغد وكل الأيام، ويعصمهم من الضياع خلف أهداف مغلوطة أو وهمية وكذلك من الغرق في لجة الياس والقنوط كلما “اكتشفوا” إن الحرب طويلة وستستهلك المزيد من أعمارهم.
ويجب أن تتحلى القيادة السياسية بالجرأة الكافية لمصارحة جمهورها بالحقائق البسيطة التالية:
1 – إنها وإن تكن مسؤولة عن ضبط العناصر المسلحة ومنع تعدياتها وارتكاباتها وتجاوزاتها وتشبيحاتها ، فليست ولا يمكن أن تكون مسؤولة عن طول مدة الحرب، وبالتالي عن ضحاياها والخسائر فيها.
-إنها مطالبة ومسؤولة عن مواصلة النضال لتحقيق برنامجها الوطني الذي يفترض أن يوفر العلاج لمختلف وجوه المعضلة، السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعسكرية والثقافية، وعدم التهاون فيما هو مبدئي، وفي الوقت ذاته عدم التطرف بما ينسف الأساس الضروري لقيام وطن.
2 – إن الحرب طويلة ومعقدة ومتشابكة ومتعددة الأطراف، وتلك طبيعة كل حرب أهلية في التاريخ، فالعالم كله كان داخل الحرب الأهلية الإسبانية، ومن قبل قاتل معظم العالم ضد الثورة البلشفية عند تفجرها في روسيا بل وشاركت القوى العالمية النافذة جميعاً في فتنة 1860 في جبل لبنان، ومن قبل في كومونة باريس.
-إن الحرب الأهلية باب مشرع لكل أنواع التدخل، بل هي لا تقوم أصلاً إلا كانفجار في التوازنات الإقليمية والدولية، متخذة بالضرورة من الأسباب الداخلية الكامنة أو الظاهرة مبررات وطنية.
3 – إن قرار وقف الحرب بالتالي يحتاج إلى تسوية دولية تعيد صياغة التوازن الإقليمي ومن ثم المحلي… وهكذا لا يستطيع أطراف اللعبة المحليون فرض الحل، إذا افترضنا تجاوزاً إنهم قادرون على الاتفاق في ما بينهم، في لحظة سحرية ما، ولا يستطيع ذلك أطراف اللعبة الإقليميون بمعزل عن القوى العالمية المتحكمة والحاكمة لقانون التوازن الدولي السائد.
والمهم أن تبقى الجبهة صامدة، وأن لا تضيع أهداف النضال، في انتظاء مجيء اللحظة المنشودة، وليس من ضمان أو صمام أمان إلا البرنامج الوطني الشامل، وإلا العمل اليومي الدؤوب لإقناع الناس به وتنظيم صفوفهم على قاعدته وبواسطته بوصفه ولادة المستقبل.
وضمن ظروفنا الحالية فإن أي قرار جدي بوقف إطلاق النار، مثلاً، يحتاج إلى موافقات تشمل في من تشملن قوى دولية عظمى كالولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفياتي، وقوى إقليمية أبرزها سوريا والعدو الإسرائيلي وبينها أيضاً الكثير من الدول العربية، ناهيك ببعض أوروبا وفرنسا على وجه الخصوص ومعها الفاتيكان.
ومثل هذه المكاشفة لا تؤذي الجماهير، حتى وإن صدمتها للوهلة الأولى.. إذ ستدفعها إلى تنظيم نفسها وإعداد العدة لمثل المهمة الشاقة والثقيلة التي لا مفر من تحملها، والتي تهون بقدر ما يرتبط النجاح في تحملها بتزايد الأمل في تحقيق النصر، أي الوصول إلى الغد الأفضل.
وليس من سلاح سحري إلا البرنامج الوطني الشامل الذي يحدد الطريق والوسائل والقوى اللازمة لتحرير الجنوب من غير أن ينسى تحديد العلاج الضروري والحاسم لمشكلة الأوضاع التموينية في بعض أحياء بيروت، أو مشكلة تشغيل ميناء طرابلس، وكذلك تصريف الإنتاج الزراعي في البقاع مثلاً.
فلا تكون القيادة قيادة إلا بقدر ما تكون قيادة للوطن كله، بكل جهاته وللمواطنين جميعاً، بكل انتماءاتهم ومعتقداتهم الفكرية والسياسية والايمانية،
قيادة الحي أو الجهة أو المدينة هي قيادة تفاصيل بالضرورة، وهي قيادة فرعية حكماً، أما قيادة الوطن فتلك التي تملك تصوراً وتصميماً على رسم صورة الغد وإثبات جدارتها بإيصالنا إليه.
وبيروت، القضية، لا تحتاج المزيد من الشرطة،
إنها تحتاج بالضبط ما يحتاجه الوطن: القيادة الكفوءة المعززة ببرنامج وطني شامل المنبثق من رؤية واقعية لحقائق الحياة والقوى السياسية وأنماط التحالفات والممكنة، والمستشرف في الوقت ذاته آفاق الفجر الجديد الموعود وعبر مثل هذا البرنامج وبه تنتهي البطالة السياسية السائدة، ويخرج الجميع، قادة وجماهير، من حماة المستنقع الطائفي، وتتولد تلك الإرادة الفولاذية التي بها يصنع التاريخ، برغم الحرب الأهلية ومآسيها المفجعة.
وعبر مثل هذا البرنامج وبه يجد كل مواطن لنفسه دوراً وتتوفر له الفرصة لأن يحس إنه طرف معني بما يجري وإنه صاحب حق في رسم صورة اليوم والغد، وتتضاءل همومه اليومية لتتخذ حجمها الحقيقي كضريبة يفرضها عليه أعداء طموحاته بالحرب.
وهذا ما ينتظره الناس من المعارضة، وسيلحون في طلبه أكثر فأكثر كلما ثبت لهم بالدليل الحسي عجز الحكم، وانفتاح هوة الضياع واليأس والموت العابث أمامهم بدلاً من انفتاح الطريق العريض إلى مستقبلهم الأفضل.
ونفترض إن هذا ما تنتظره دمشق أيضاً، ومن المعارضة بالذات، حتى والرئيس أمين الجميل يزورها، بل لعلها لهذا السبب تزداد حاجتها إلى مثل هذا البرنامج العتيد.

Exit mobile version