طلال سلمان

على الطريق عن بيروت وأزمتها عشية الزيارة الثانية لدمشق

عشية الزيارة الثانية لدمشق، لا بد من بعض الكلام الصريح عن بيروت، خصوصاً وإن “القصف العشوائي”، يهز جنباتها هزاً، ويفرض تساؤلاً مشروعاً عن أهداف هذا “التدهور” في وضع الأمن وهل هو “تمهيد” مدروس للزيارة أم “نسف” مسبق لها ولنتائجها العتيدة؟!
فمؤكد إن الحكم يستهدف أول ما يستهدف من زيارة دمشق أن تساعده على استعادة بيروت كشرط لبقائه وقاعدة لحكمه ومن ثم كمنطلق لسياسته “الجديدة” التي سترتكز إلى “التنسيق” الكامل مع الشقيقة – الجارة، بل ربما زاد فقال إنها سترتكز إلى التحالف الاستراتيجي الثابت والأبدي معها!
ومؤكد إن الحكم الذي تروج أجهزته الآن إنه إنما يذهب إلى دمشق طلباً للحل، لينفي عن نفسه مسؤولية التسبب في الأزمة الخانقة التي نعيش، سيحاول أن يلصق بالآخرين – وبينهم دمشق ذاتها – مسؤولية هذا الوضع المأساوي القائم في بيروت الممزقة والمحاصرة والمطوقة، بعد، بعيوب النهج الذي سلكه منذ وصوله إلى السلطة وحتى اليوم..
ومتى كان الحل مسؤولية غيره، أو لدى غيره، إذن فالأزمة ليست من صنع الحكم ولا هي من نتاج سياسته، ولا بد من وقف “التدخل الخارجي” ليمكن الوصول إلى “الحل الداخلي” الذي لا بد أن يتمحور حول الحكم بوصفه “رمز الإجماع” ومجسد الوفاق الوطني!!
على هذا فإن استعادة بيروت لا تعني فقط براءة الحكم مما أصاب ويصيب هذه العاصمة الصابرة والتي تكاد لتخص بما تعانيه الآن قضية الوطن وهموم أبنائه جميعاً، بل تعني أيضاً براءته مما أصاب الضاحية وقبلها الجبل، وخلو طرفه من المسؤولية، عن حالة الضياع العام والقلق على المصير في ظل تفاقم خطير للأزمة الاجتماعية – الاقتصادية، وفي ظل تعطيل شبه كامل للحياة السياسية بينما يستمر العدو الإسرائيلي في تنفيذ خطته في الجنوب الصامد والجريح والمنسي برغم بطولاته أو ربما بسببها، وفي بعض البقاع والجبل مع تركيز خاص على إقليم الخروب.
من هنا كان الشعور بالحاجة إلى بعض الكلام الصريح عن بيروت بوصفها المدخل إلى أي كلام جدي في المسألة اللبنانية، وبالذات في الجانب المتصل بالعلاقات اللبنانية – السورية.
أول ما ينبغي أن يقال هو التذكير بواقع بيروت المحاصرة،
وطالما استمرت بيروت محاصرة ومطوقة وممزقة فلا بد من توجيه الاتهام إلى الحكم بأنه المتسبب باستمرار هذا الوضع والمسؤول عن تدهوره والوصول ببيروت إلى حالتها المفجعة الراهنة ووقوفها على حافة الاستنقاع.
ذلك إن الحكم تصرف منذ البداية وكأنه أخذ بيروت قهراً بوصفه الخيار الوحيد المتاح في ظل الحصار الإسرائيلي وآثاره السياسية والعسكرية المدمرة حتى لا ننسى مجازر صبرا وشاتيلا.
ربما لهذا استمر الحكم يحاصر بيروت بالقوات التي يفترض المنطق والقانون والعرف والحد الأدنى من الحس الوطني أن تشارك في تعزيز صمودها في وجه المحتل ثم في تحريرها، أي بمؤسسات الدولة وعلى رأسها الجيش… وهكذا حلت حواجز العسكر اللبناني محل حواجز المحتل الإسرائيلي ابتداء من مثلث خلدة وحتى كنيسة مار مخايل الشهيرة، تطويقاً للضاحية وعزلاً لها ولبيروت من خلفها عن الجبل والبقاع وعن الجنوب، في حين أبقي على “الغيتو”، شرقي بيروت، مع تحسينات لمظهره استطاعت إخفاء بعض النتوءات النافرة والمنفرة لكنها ظلت أعجز من أن تحل مشاكل بسيطة بينها استمرار الهيمنة على المرفأ وما جاوره من مرافق حيوية، كالسجل العقاري، وبقاء المتاريس على حدود الشطر الشرقي من المدينة وثكنات “القوات اللبنانية” بما فيها “المجلس الحربي” وصولاً إلى “حاجز البربارة” الذي يفصل الشمال عن بيروت ويعزل ثقله عن التأثير في ما يجري فيها ولها.
ثم أضاف الحكم إلى قوى الحصار ممارساته اليومية عبر السياسة التي أطلق عليها وصف “الهيمنة” الفئوية أو الحزبية… فشن مدعوماً أو مدفوعاً من حزب الكتائب و”القوات اللبنانية” تلك الهجمة الشرسة والمتعجلة للسيطرة على المؤسسات والمرافق العامة والخاصة وصولاً على الجمعيات والنقابات العاملية.
وفي حين كان الاحتلال يكبل بالقهر الجنوب وبعض البقاع ومعظم الجبل، كانت سياسة “الهيمنة” تضيف إلى الشعور بالقهر شعوراً بالامتهان خصوصاً مع السعي لمد ظلالها إلى حيث تقدر خارج بيروت، كمثل تسمية محافظ كتائبي للبقاع.
أما بيروت، التي أخذت تتململ وتحاول التعبير عن نفسها وعن رأيها في ما يحصل، فلقد واجهها الحكم بكل ما يستطيع من أساليبالضغط والاذلال حتى كاد يلغيها تماماً… ويوماً بعد يوم تزايدت وسائل التأديب شراسة: من منع التجول، إلى قطع التيار الكهربائي، إلى فرض الرقابة على الصحافة والتضييق على الحريات العامة والخاصة، وصولاً على مراقبة خطب المفتي، فإلى تهميش مؤسسة رئاسة مجلس الوزراء، باعتبارها الوجه الأبرز للحضور السياسي لبيروت بكل ما تمثله وترمز إليه.
وفوق هذا كله وبعده التأديب بالقوة العسكرية المباشرة، كما جرى حين زج الجيش في سلسلة مواجهات دموية مع الأهالي، في بيروت والضاحية، بلغت ذروتها باستباحة العاصمة تطبيقاً للمنطق الكتائبي المعلن: لا بد أن نأخذ المناطق جميعاً، والعاصمة أساساً، بالقوة والقهر وليس بالتراضي أو بالاتفاق السياسي.
عبر هذه السياسة التي كان اتفاق 17 أيار مع العدو الإسرائيلي وجهها الآخر، نهج الحكم نهجاً ما كان يمكن أن تكون نتائجه أقل بؤساً مما حصل: انتحار الدولة وسقوطها كأداة مركزية موحدة وجامعة، وسقوط مؤسساتها بالانفكاك أو بالشلل أو بكليهما وتعطل دور المؤسسات عموماً والجيش على وجه التحديد.
وبعيداً عن التذكير بالفرص الصائعة فإن الحكم سلك مسلكاً مؤاده: أنا الإجماع، ما هم أن يعارض بعض الناس في الجبل، وما هم أن ترتفع بعض أصوات الاحتجاج في الضاحية، وما هم أن يتململ بعض الناقمين في بيروت، الست أنا الكل؟! الشعب والبلاد؟! أليس مجلس النواب معي في كل ما أفعل، وما هم أن يكون ممداً له وأن أزيد التمديد تمديداً؟! أليست الحكومة برئيسها (ابن البسطة) والوزراء معي في كل ما أريد، يتبرعون بالموافقات والتواقيع على كل ما أقرر وأطلق حتى لو لم يقرأوا، كما حصل في المراسيم الاشتراعية؟! وما هم أن يقال إن الحكومة ضعيفة وتفتقد إلى التأييد الشعبي أو إلى الدعم السياسي المطلوب؟! ألست أنا الدولة والشعب؟! إذن من غيري يمكن أن يوفر الغطاء؟
في ضوء هذه الوقائع جميعاً يمكن فهم ما حصل بعد ذلك في الجبل ثم في الضاحية وبيروت على الوجه الصحيح.
وإذا كان الحكم يستطيع إنكار دوره في ما جرى في الجبل، أو التقليل من تأثير هذا الدور على النتائج التي انتهت إليها “حرب الجبل” فإنه لا يستطيع إنكار دوره في ما جرى في الضاحية، التي دمرتها “المدافع الرسمية”، وبأوامرمباشرة ، وصولاً إلى ما حل ببيروت التي وجدت أخيراً فرصتها لتعلن خروجها عليه وعلى سياسته من دون أن تخرج لا على “الشرعية” بما هي سمة أساسية من سمات الدولة، ولا على مشروع الوطن الواحد الموحد.
فبيروت التي عصت على الحكم والحاكم والحكومة لم تذهب إلى التقسيم ولا إلى الكانتونات ولم ترفع راية الفيدرالية، بل ما زالت تعتبر نفسها عاصمة الدولة، ومقرها وأرضها وقلب الوطن من جنوبه إلى الشمال ومن بقاعه إلى الجبل الممزق الآن جبلين أو ثلاثة والحبل على الجرار.
وصحيح إن بيروت تعيش الآن أزمة خانقة، ولكن الصحيح أيضاً إن هذه الأزمة لم تبدأ اليوم، ولا في 5/6 شباط الماضي، ولا في 25 آذار، بل هي تعيشها منذ الاجتياح الإسرائيلي، وكنتيجة مباشرة للحصار الذي لم ينته مع جالاء قوات المحتل عنها بل استمر وتفاقمت مخاطره في ظل ممارسات الحكم الخاطئة، وفي ظل قصوره عن صياغة الحل الوطني المرتجى للمسألة اللبنانية.
والحكم أولى بالمحاسبة عن أزمة بيروت الخانقة من أولئك الذين يحاولون الآن معالجة وجوه هذه الأزمة، وبينها خطر الاستنفاع الذي نجم أصلاً عن سقوط الدولة أو غيابها أو تغييبها المتعمد والمقصود، كفصل آخر من فصول تأديب المدنية العاصية.
فلا يجوز أن تشغلنا مشاكل الحصار ونتائجه عن معرفة فمحاسبة المتسبب فيه والمسؤول عنه.
فكل مدينة محاصرة، معرضة لأن تتحول إلى ما يشبه المستنقع خصوصاً إذا ما كفت دولتها عن لعب دورها الطبيعي كسلطة شرعية يفترض أن تكون هي ولا أحد غيرها المرجع الصالح والنهائي والوحيد لمختلف المسائل والمشاكل في كل زمان أو مكان.
وعن بيروت المحاصرة وآثار الحصار ووسائل العلاج لا بد أن يقال المزيد من الكلام الصريح، حتى لو كلفنا الأمر “تهنئة” ثالثة ببدء العام الحادي عشر لهذه الجريدة التي تشكل مع غيرها من الزميلات أحد معالم بيروت المميزة.. فإلى غد!!

Exit mobile version