طلال سلمان

على الطريق عن الوحدة والنفط

وأحياناً “جغرافية” تبحث عبثاً عن سند تاريخي ولو في عصور ما قبل التاريخ. وكان المضمون الطبقي – الاجتماعي للانفصال يتوارى خلف مزاعم “الأوضاع الخاصة” وترسبات الحقبة الاستعمارية.
الآن صارت الإقليمية والانفصالية والكيانية والقطرية مرادفات طبيعية ومنطقية للغنى، تفح منها رائحة النفطز
فمع قيام أول دولة للوحدة عام 1958، بدأت ترسم – بالنفط – حدود الانفصاليات الجديدة، واستنثى النفطيون أنفسهم على الفور من أي توجه وحدوي. ولم تكن الغريزة، أو الضغوطات الاستعمارية، أو النوازع القبلية وحدها وراء هذا الاستثناء، بل كان معها أيضاً – ولو بلا وعي – الوضع الطبقي المتميز والخارج على أي تصنيف علمي.
وليس بالمصادفة إن الوحدة قد صورت وكأنها طموح يخص الفقراء فحسب، وإن المناداة بها استفزاز للأغنياء بالنفط من العرب الفقراء في كل ما عداه.
وكان النفط الذريعة الرئيسية، وإن لم تعلن، لابتعاد العراق عراق نوري السعيد، ثم عراق عبد الكريم قاسم، عن أي مشروع وحدوي، بل وتصديه بالحرب ضد الوحدويين من أبنائه أو خارج حدوده،
أما الكويت فقد خلقت انفصالية، وكان مولدها تكريساً لشرعية انفصال النفطيين!
وحين تصدت السعودية بالشراسة كلها لقتال حرب اليمن، والوجود المصري في اليمن، كان النفط هو الدافع وكان هو المدفوع!
وخلف انفصالية ليبيا الملكية كان النفط،
وخلف الصدام المسلح الذي عهد بالدم انفصال الجزائر عن المغرب، كان النفط،
والأمثلة أكثر من أن تعد وتحصى،
على إن النفطيين كانوا في مواقع الدفاع المستميت أمام زخم التيار الوحدوي العظيم، وكان أقصى طموحهم ألا يجرف التيار عروشهم ومشيخاتهم ومداخيلهم الهائلة التي ليس فقط لا يستحقونها بل ولا يستطيعون حتى أن ينفقوها.
أما الآن فإنهم في مواقع الهجوم، يحاربون كلمة الوحدة، ويسحلون طيفها، ويسحقون – بالرتب أو بالرواتب أو بالسجن، لا فرق – كل مناضلون في سبيلها.
إنهم يقاتلون الصوت والصدى، الحلم والأغنية، الرمز والاسم والصورة التي بقيت وتبقى في كل قلب،
يقاتلون إرادة الحياة،
في البدء كانت المظاهر الأساسية للإقليميات طائفية، وعشائرية،
يقاتلون مستقبل أطفالنا والأجنة الذين بعد في الأرحام،
ويقاتلون بضراوة لا مثيل لها. حتى الاستعمار، بكل قسوته ووحشيته، لم يبلغ مبلغهم في الحقد والتآمر. حتى إسرائيل عجزت عن فعل ما يفعلونه.
وهم يقاتلون التاريخ والجغرافيا، الوجدان والضمير، العقيدة والفكر، الدين والانتماء.
يقاتلون بالمرتزقة وبالعزيز هنري وحلوله واتفاقات فك الارتباط، فهي بالنتيجة تصب في نهر الانفصال وتعزز تياره المشبوه.
ويقاتلون بالريالات وأكياس الذهب: يعرضون أن يشتروا مصرية مصر وهي هي عروبتها، وسورية سوريا، وفلسطينية فلسطين، وكأنها مثل حصن الأباما.
ومن ضراوة قتالهم، واستحالة انتصارهم النهائي – مهما طال ليل الهزيمة التي هي لهم بمنزلة الأم – يستمد الشعب العربي أمله وإيمانه بنفسه وبأمته المجيدة.
لقد باتت صورة الحقيقة واضحة تماماً “فالبورجوازيون – والأغنياء عموماً – هم أعداء الوحدة، أما العمال والفلاحون والفقراء عموماً، فهم جنودها وأصحاب المصلحة فيها”، كما قال الرائد عبد السلام جلود في خطابه قبل يومين.
ومع هكذا أغنياء لا يحتاج المرء حتى إلى التحريض. إنهم يستفزون الحجر الصوان بتصرفاتهم الخرقاء، على المستويات كلها: شخصياً وسياسياً وخلقياًز
وهذه الأمة أعظم بكثير منهم ومن قدراتهم المالية الخرافية،
لقد هزمت أعتى الدول الاستعمارية، وهزمت المشروع الإمبراطوري الإسرائيلي، بكل ما توفر له من دعم، وهزيمة الانفصالية ذاتها، وأكثر من مرة.
وبمقدار ما يتواءم ويتطابق المعنى بين “الغني” و”الخائن” أو “الرجعي”، يتنامى الأمل في اقتراب يوم المئة مليون فقير،
وفي ذكرى أول دولة للفقراء: تحية لأولئك الأبطال الذين صنعوها والذين لا يزالون يناضلون من أجل الوحدة، وفاء منهم للأمة التي أنجبتهم ولمستقبل أطفالهم، ولذلك القائد العظيم الخالد، “أبو الغلابا” وزعيم الفقراء جمال عبد الناصر.

Exit mobile version