طلال سلمان

على الطريق عن النصاب والرئاسة والجمهورية المهددة فيلم أميركي طويل!…

على امتداد ساعات، تابع اللبنانيون بكثير من الشغف والفضول والحشرية، ومن على شاشات المحطات التلفزيونية المختلفة الأهواء والانتماءات والارتباطات، عرض فصل مسل من فصول “فيلم أميركي طويل” عن رئاسة الجمهورية.
وكان الفيلم بطيء الحركة، ناقص الإثارة، لأن نهايته معروفة سلفاً بالنسبة لأكثريتهم، وإن ظل بعضهم يتوقع “مفاجأة ما” أو يتوهمها بفعل التمني أو لمزيد من التسلية، أو بافتراض أن “المخرج” قد يعدل في السيناريو في آخر لحظة، أو يقرر بعض الممثلين الخروج على النص طلباً للمزيد من التصفيق أو الأجر على إتقان الأداء!
ولأن البطل الحقيقي للفيلم المعروض كان “شبحاً” غير مرئي، فلقد توهم عديدون إن الفرصة متاحة لأن يملأوا “الكادر” بصورتهم ويتصرفوا وكأنهم هم الأبطال واصحاب القرار، قدروا فكان ما قدروه وأرادوا فاستجاب النواب والشعب والعالم بشرفه وغربه والبين بين!
كان من هم خارج المبنى المؤقت للمجلس النيابي الممدد لنفسه يفترضون أن من اختفوا في الداخل يعرفون أكثر منهم،
وكان من تلطوا في الداخل يريدون أن يؤكدوا هذا الوهم السائد في الخارج… حفظاً لماء الوجه، ولكنهم لا يملكون من الوسائل غير الصمت أو الكلمات المبهمة حمالة الأوجه، وغير الاشارات والايماءات والايحاء الصريح أحياناً بأنهم لم يطلعوا إلا على ما يخصهم، أي دورهم، في السيناريو، أما الباقي فيخص الآخرين ولا شأن لهم به.
وكان الذين يقبعون بعيداً عن المبنى المؤقت للمجلس الممدد لنفسه يتصرفون وكأن كل شيء يسير وفق “خطتهم المرسومة”، متناسين للحظة إنهم هم – بوجودهم وبدورهم وبتحركاتهم – جزء بسيط من تلك الخطة المرسومة التي لم يطلعوا إلا على ما يعنيهم منها.
فلا كل الذين جاؤوا فدخلوا المبنى وغابوا فيه عن العيون لبعض الوقت آتون لكي ينتخبوا، فعلاً، الرئيس الجديد، ولا كل الذين تغيبوا أو غيبوا كانوا سيمتنعون أن سيعترضون،
فالكل يعرف، حاضراً كان أم غائباً، إن دوره في عملية الانتخاب شكلي، ولكن لا بد منه،
فلا الذي جاء أعطى، ولا الذي غاب حجب، وليست هي الحرب وإن كانت بين مقدماتها.
عارياً تماماً كان النظام السياسي في لبنان، يوم أمس،
عارياً، كان، والبث مباشر و”على الهوا”، وملايين العيون تبحلق في العورات وتتملاها وتستعيذ بالله مما ترى!
ما تبقى من الدولة ، بمؤسساتها جميعاً، رئاسة الجمهورية، الحكومة، المجلس النيابي، قيادة الجيش، قوى الأمن الداخلي والأجهزة الأخرى، القوى السياسية جميعاً، اليمين ويمين ويسار اليمين ويمين اليسار بكل تعبيراتها الفجة والحية، الواضحة والمستترة.
القوى الخارجية جميعاً، ذات الدور “الشرعي” و”المشروع” والمعترف به، أو تلك التي تختلس دورها وتستفيد من الفراغ لإثبات حضورها والقدرة على التأثير.
كلهم، كلهم، كلهم، ظهروا “ربي كما خلقتني”، فلم يكن الوقت ليسمح بإتمام الديكورات وعمليات الماكياج،
… وأحياناً، ظهر على الشاشة ، بالفعل، “الرب” الذي خلقهم!
فأما رئيس الجمهورية فكان يتابع، يتلذذ، كيف انشغل الجميع عنه، فأخذوا يصطرعون في ما بينهم، يتبادلون الاتهامات، ويدعي كل منهم إحراز نصر مؤداه إنه حدد خسارته،
ومؤكد إن الرئيس قد هنأ نفسه ، بالنتيجة ، على حسن إدارته للمعركة بين الآخرين، بحيث خرج منها بالغنم الأكبر…
وماذا يريد أمين الجميل غير أن يتضاءل احتمال إجراء انتخابات رئاسية جديدة تنهي عهده الميمون، وغير أن يعود اللبنانيون إلى الاحتماء بمظلته الوارفة الظلال هرباً من… فزاعة الفراغ الدستوري؟!
ففي حساباته أن مؤيدي الرئيس سليمان فرنجية لا يستطيعون إكمال النصاب، وإن معارضي هذا المرشح الفرد (حتى الساعة) لا يستطيعون إيصال مرشحهم هم، وإنه قادر بمناوراته وتكتيكاته على منع التوصل إلى “المرشح التوافقي العتيد”، وهذكا لا يبقى أمام الجميع غير حل اضطراري وحيد هو التسليم به شخصياً على رأس الحكومة الانتقالية التي تمنع الفراغ المخيف!!
… وأما الحكومة المستقيلة أصلاً، والمغتال رئيسها منذ خمسة عشر شهراً أو يزيد، والتي يحمل عبئها الثقيل وكيل لميت ممنوع من الممارسة وممنوع من الانصارف، إضافة إلى أنه زاهد أصلاً في المشاركة في هذه اللعبة العبثية الممجوجة.
هذه “الحكومة” التي لا تملك من أمر القرار شيئاً كانت رمزية الحضور عبر وزير الداخلية الذي وجد نفسه، عند بدء الجلسة “المصيرية” عاجزاً عن الاتصال بأقرب مركز شرطة على قصر منصور.
ولك أن تتصور، بالتالي، جدية الخطة الأمنية والقدرة على تنفيذ أي بند من بنودها، طالما إن الوزير مضطر لأن يتصل بالواسطة مع قائد الجيش الذي لا يلبي نداءه، فإذا ما قبل الشكوى تصرف كوسيط وساع بالخير بين “الشباب” من المسلحين والوزير البلاسلاح!!
… وأما المجلس النيابي فيسمع المدائح تأتيه من كل ناح، تشيد بحسن تمثيله لإرادة شعبه، وبقدرته على اجتراح المعجزات وابتداع الحلول للمعضلات المستعصية على كل حل، وبأنه هو صاحب الكلمة الأولى والأخيرة في اختيار الرئيس الجديد، ثم يجد نفسه عاجزاً عن عقد جلسة، مجرد جلسة، بنصاب قانوني، وتائهاً يكاد يغرق في بحر أجاج، يحاول أن يعرف اتجاه الريح فيرفع رئيسه أصبعه في الهواء فإذا لم يهتد لجأ إلى الاستخارة… والخيرة حيرة، والحيرة مهلكة، فكيف إذا داخل الهوى الحيرة وزاغ البصر بين النجوم المتناثرة بين الخطوط المتطاولة؟!
فالرئيس يعرف ما لم يكن يحب أن يعرفه،
وما يحبه ويريده متعذر بلوغه لأسباب خارجة عن اليد، والعين بصيرة، واليد قصيرة، بينما المنافس العائد من الضباب طويل الباع واثق الخطوة يمشي ملكاً، يعرف كيف يتصرف وكأنه لا يعرف شيئاً، بينما غير العارفين يتصرفون وكأنهم ختموا العلم وحازوا المعارف جميعاً؟!
… وأما قائد الجيش فيتصرف بما يمنعها عن غيره، مفترضاً إنها بذلك تعود إليه، فيستعدي عليه الطوائف التي اجتهد في التودد إليها ويخصر تأييد بعض قيادتها، بغير أن يعوض هذه الخسارة ربحاً في المحيط الذي جهر منذ حين برفضه رئيساً.
لكن سمبسون هناك، وهو على كل شيء قدير، ولغته سحرية يفهمها “الماروني” و”السني” و”الشيعي” وإن ظل “الدرزي” بحاجة إلى بعض الدروس الخصوصية للتحول من الروسية إليها.
وسمبسون في كل مكان، في قصر بعبدا، في قصر منصور، في قصر سرسق، في فراغ القصر الحكومي بالصنائع، في “قصر” اليرزة.
ثم إنه على الطرقات وعلى المعابر الواصلة والفاصلة بينها جميعاً: حاجزه هو يمنع أو يسمح، ويتحكم بعدد المارة واتجاهاتهم!
وحين خرجسمبسون من القاعة التي كان مقرراً أن تشهد انتخاب الرئيس، يوم أمس، فهم الناس جميعاً إن “المناظر” قد انتهت، وإن “الفيلم” الفعلي سيبدأ بعد استراحة قصيرة لحساب الأرباح والخسائر وتحديد طبيعة الفصول المقبلة وأدوار الممثلين فيها والكومبارس… والأسلحة اللازمة!!
لقد أرادتها واشنطن “معركة”، فحولت سليمان فرنجية من مرشح للرئاسة إلى “قضية” ذات أبعاد سياسية معقدة وخطيرة.
قالت واشنطن، بلسانها مبشارة، وردد من بعدها الأدعياء الصغار في بعض ضواحي بيروت الشرقية، إنها قادرة على تعطيل النصاب ومنع انتخاب رئيس للجمهورية لا تريده.
وقالت واشنطن إنها تريد لنا رئيساً تحدده في ما بعد،
وإنها، الآن، وبعد أن أبلغت دمشق بأنها لا تستطيع أن توصل بمفردها، مرشحاَ للرئاسة في لبنان، مستعدة للتفاهم معها على رئيس من بين لائحة المرشحين التي قدمها حكم الانقلاب الكتائبي،
لكن هذا النصر ثقيل الوطأة على حامله، فإن قدرت عليه الولايات المتحدة الأميركية فمن يضمن أن تقدر على كلفته هذه الجمهورية اللبنانية البائسة؟!
وواشنطن بعيدة، بعيدة… وكفاءة سمبسون قد تحقق المعجزات، ولكنها لا تغير في الجغرافيا، ولا يمكنها أن تبدل موقع دمشق القريبة، القريبة، والتي لن تحول ولن تزول.
لقد خصمت واشنطن من “حلفائها” في لبنان الكثير، وأعطت “لخصومها” الكثير… فإذا كان سليمان فرنجية قد صار بحجم النفوذ الأميركي في لبنان، فأي حجم بقي لإبطال “الحلف الثلاثي الجديد”، حلف الجميل – “القوات” – والعماد عون الملتحق في آخر لحظة وبقصد أن يقفز إلى مقدمة القطار عند أول “كوع”؟!
ولقد ظهرت دمشق في بيروت، يوم أمس، وكأنها تحمي بعسكرها شكلاً من أشكال ممارسة الديموقراطية في لبنان، بينما استخدمت واشنطن عسكرها اللبناني لمنع هذه الممارسة عينك عينك.
وهكذا سقط الجيش، وسقط الجنرال، مرة أخرى، مثبتاً إنه ليس أكثر جدارة في تحقيق السلام وتأمين جو المصالحة الوطنية، منه في الحرب، سواء الحرب مع العدو أو مع المواطن المظلوم من نظامه والمحروم في وطنه.
وليس جديداً أن تشن واشنطن الحرب على دمشق، وفي لبنانز
ودمشق، في أي حال، قد أثبتت حتى اليوم إنها قادرة على القيام بأعباء هذه المعركة المفتوحة والقاسية.
لكن السؤال هو عن لبنان، عن جمهورية ومصيرها، وعن رئاسة هذه الجمهورية إذا ما بقيتز
وقبل هذا وذاك عن هذا الشعب المطحون بالحرب، الممنوع من بلوغ شاطئ الأمان،
فإلى أين يأخذنا سمبسون؟!
وهل المطلوب من اللبنانيين أن يدفعوا ثمن اغتصاب الكتائب للسلطة وتحقيق حكمها الانقلابي مرتين؟!
… “والفيلم الأميركي الطويل” في بدايته بعد، والمقدمة تعدنا بالكثير من الفواجع والويلات والمفاجآت التي سنقوم – مكرهين – بدور أبطالها بينما نحن ضحاياها!

Exit mobile version