طلال سلمان

على الطريق عن المنصورين أيضاً!!

معذور المواطن في لبنان إذا ما كفر بكثير من القيم التي تربى على احترامها، وتصرف بحنق أو بردة فعل غاضبة فأسقط بعض البديهيات أو بعض المطامح والأماني والمعاني النبيلة التي تعطي لحياته قيمتها ولدوره قوة الفعل والتأثير..
فلقد تحمل هذا المواطن من الظلم أكثر مما يطيق نتيجة لعيوب نظامه الفاسد المفسد، نظام الممتازين والمحرومين.
كذلك فقد حمله التخاذل العربي أعباء لا قبل له بمواجهتها، وقيل له وما يزال يقال له: اذهب أنت وربك فقاتلا!! أما هم فمشغولون إما بتوطيد دعائم مجلس التعاون الخليجي، وإما بموجبات الحرب العراقية الإيرانية، وإما بزرع جمهورية ميكروسكوبية في رمال الصحراء، أو باكتشاف الفروق والاختلافات العقائدية بين الماجدة وسيلة والحاكمة سعيدة في تونس الخضراء الخ..
على إن هذا كله لا يلغي ولن يلغي الحقائق بل البديهيات الآتية:
1 – لا يمكن لأي سبب وتحت ضغط أي ظرف القبول بتصرف يطبق فعلياً شعار الانحراف: لا للعرب والعروبة، لا لإسرائيل والاحتلال الإسرائيلي.
إن “لا” الأولى تجعل اللا الثانية نعماً شاء قائلها أم أبى..
وبين معاني التصويت بالإجماع على إلغاء اتفاق القاهرة مشفوعاً ومرتبطاً بإلغاء إجازة إبرام اتفاق 17 أيار، في المجلس النيابي، أمس الأول، مثل هذا المعنى بغض النظر عن النوايا.. نوايا الـ 44 منصوراً!
وقد بلغ من حماسة هؤلاء “المنصورين” إنهم ضمنّوا قرارهم المجيد اعترافاً صريحاً بدولة إسرائيل.. وشكراً للنائب نصري المعلوف إنه نبه وقرع محجّم الانحراف في النص وربما في النوايا!
2 – إن إسرائيل هي العدو قبل العام 1982 وبعده، قبل اجتياح 1978 وبعده، قبل حرب 1973 وبعدها، قبل دخول الكفاح المسلح الفلسطيني إلى لبنان في العام 1968 ثم تقنينه باتفاق القاهرة العام 1969، وبعده، قبل اجتياح 5 حزيران 1967 وبعده، قبل العدوان الثلاثي العام 1956 وبعده، وقبل هدنة 1949 وبعدها.. وستبقى هي العدو. لن يغير من طبيعتها أحد ولا شيء. ومن الخطايا المميتة أن نحاول مسالمة إسرائيل بالانقاص من عروبتنا. بذلك سنخسر هويتنا وشرفنا وأرضنا أيضاً ولن نربح السلام، فهي عدو لكل عربي بالمطلق، سواء أقاتلها أم فاوضها أم وقع معها معاهدة صلح منفرد. ومثال طابا فاقع الدلالة، فإسرائيل تصورها وكأنها أهم من اتفاقات كامب ديفيد!!
3 – غير مقبول من نواب يفترض أنهم يمثلون إرادة الشعب ويعبرون عنها أن يتصرفوا بهذه الخفة، وأن يبدلوا في مواقفهم وأن يتقلبوا في مواجهة أمور مصيرية بحسب اتجاهات الريح، فيصير الأبيض أسود، ثم يجعله أصفر فأزرق ثم يغرقنا في الرمادي الباهت باعتباره مقبرة اللون والحس والتذوق.
فبين الذين صوتوا بالأمس بحماسة منقطعة النظير على إلغاء اتفاق القاهرة نسبة عالية ممن كانوا نواباً وصوتواً على قبول هذا الاتفاق، في العام 1969، بحماسة منقطة النظير أيضاً، وحتى من دون أن يقرأوا نصه!
كذلك فإن الأكثرية الساحقة ممن صوتوا بالأمس على إلغاء إجازة إبرام اتفاق 17 ايار هم بين من صوتوا بحماسة منقطعة النظير على اتفاق العار ذاك وبعدما قرأوا أو قرئت عليهم نصوصه المهينة!
وبائس هو الاستنتاج الذي يمكن أن يصل إليه من يعتمد مواقف السادة النواب كتعبير عن الرأي العام وإرادة الشعب اللبناني العظيم الذي ما يزال يخوض – وبالدم – معركة تحرير أرضه برغم التخاذل والعجز وسيادة مناخ الانحراف والتفريط.
4 – إن من يلغي بهذا القدر من التسرع اتفاقاً لم يعد له – عملياً – إلا معنى الرمز وتوكيد الانتماء القومي، ويعتبر الإلغاء “تحريراً” للبنان وتكريساً لسيادته واستقلاله، لن يكون مستعداً في الغد لعلاقة جدية مع أي طرف عربي وللالتزام بأي موجب من موجبات وحدة المصير العربي.
وبصراحة أكثر: فإن الرد على الانحراف في النهج العرفاتي لا يكون بالدخول في مناقصة لإثبات إننا أقل عروبة منه.
إن وجه الخلل الأهم في ذلك النهج هو النقص في الشعور بالانتماء القومي، وتغليب الشوفينية أو الكيانية الفلسطينية على الفكر القومي بينما القضية قومية بطبيعتها وبمآلها.
ورفض سياسة عرفات واجب، وفضح الانحراف واجب، وفضح العجز العربي في مواجهة إسرائيل واجب، ومطالبة العرب بتحمل مسؤولياتهم حيال لبنان وجنوبه بشكل خاص حق لنا وواجب عليهم،
لكن ليس بالتبرؤ من العرب والعروبة وموجبات معركة المصير الواحد والانتماء الواحد يكون الرد على انحراف القيادة الفلسطينية وتجاوزات المسلحين الفلسطينيين.
ومن يحرّم على أي قائل بالتحرير واعتماد الكفاح المسلح أسلوباً ونهجاً أن يكون له حق التواجد أو حق الانطلاق أو حق الايواء أو حتى حق الاستطلاع، مستفيداً من الأرض اللبنانية المتاخمة لأرض فلسطين، سيحرّم غداً على المقاومين في الجنوب هذا الحق حتى لو امتد الاحتلال الإسرائيلي لجبل عامل سنوات وسنوات.
ومن يسقط الحق القومي للفلسطيني لن يسلم بمثل هذا الحق مع السوري،
من هنا فإن محاولة منافقة السوري بتصوير إن إلغاء اتفاق القاهرة، ثم تعبيراً عن الانحياز إلى دمشق في مواجهة نهج عرفات، تبدو مكشوفة وسمجة،
بل إن هذه “السابقة” ستستخدم غداً للتملص ليس فقط من “العلاقات المميزة” مع سوريا، بل حتى من الالتزام معها بأبسط الموجبات التي تفرضها المعركة الحتمية مع العدو الإسرائيلي، غداً أو بعد غد أو بعد بعد غد.
ويبقى أن نعيد القول: إن نهج عرفات المرفوض قد أساء إلى قضية فلسطين وشعبها بأكثر مما أساء على شعب لبنان وسلامة أراضيه.
لكن اتفاق القاهرة، بقيمته الرمزية، أهم وأبقى من ياسر عرفات، ومن مرارة التجربة الفلسطينية في لبنان،
وكان علينا أن نحمي ما يخصنا من ذلك الاتفاق، ما هو عطاء منا، ما يتصل بعروبتنا، بهويتنا، بتاريخنا، وبوعينا لحقيقة العدو الإسرائيلي،
ولو إننا ألغينا الاتفاق، قبل سنوات، واحتجاجاً على انحراف النهج العرفاتي، أو على الممارسات الفلسطينية الخاطئة والمسيئة، لكان ذلك مفهوماً بمنطلقه واستهدافه ترشيد الثورة الفلسطينية وتصحيح مسار قيادتها ومسلكية المقاتلين المنضوين تحت لوائها،
أما اليوم فيبدو وكأننا نقدم نصراً مجانياً جديداً لإسرائيل وللأطراف المحلية المستقوية بالاحتلال الإسرائيلي، والعاملة لإدامته وتوسيع رقعته.
إننا نأخذ من العرب، من أنفسنا، ونعطي لإسرائيل، وهذا هو موضع الاعتراض ومنطلقه،
وللمناسبة: فإن كثيراً من المصوتين بإلغاء اتفاق القاهرة كانوا وما يزالون “عرفاتيين”،
كذلك فإن أعلى الأصوات ترحيباً بإلغاء الاتفاق هم من الذين تشدهم إلى عرفات روابط ذهبية!!

Exit mobile version