طلال سلمان

على الطريق عن القمة و”مجالس الصلح” بين الرؤساء

ماذا دار في القمة اللبنانية – السورية بدمشق يوم أمس الأول؟!
الجواب: طالما إنها “موسعة” فإن أبحاثها تظل أقرب إلى التداول منها إلى اتخاذ القرارات. وقديماً قيل: “كل سر جاوز الاثنين شاع”، فكيف إذا ما كانوا ثلاثة (من لبنان) ومختلفي المواقف والمصالح والرغبات؟!
والجواب الاستطرادي : طالما أنهم ثلاثة، من لبنان، فما هو شخصي سيطغى على ما هو سياسي وعام، ذلك إن المهمة الأولى وربما الوحيدة للقاء مع القيادة السورية قد تكون “التوفيبق” بين المتنازعين على السلطات وحدودها وأين تنتهي صلاحيات الأول وتبدأ صلاحيات الثالث وأين موقع الثاني الذي يرى أنه مغبون كونه “في منزله بين المنزلتين”؟!
والاستنتاج المنطقي: إن التوفيق بين الثلاثة يتقدم بالضرورة على البحث بموضوع تفصيلي كالموقف من المؤتمر الدولي (؟) للتسوية في المنطقة على قاعدة مبادرة بوش.
في أي حال فأقصى ما يتمناه المواطن اللبناني هو أن يتوحد الموقف الرسمي لأطراف الحكم، فيعرف – بالتالي – هل مشاركة لبنان مطلب أم خطأ ، وهل استمراره في اعتبار نفسه غير معني صلابة والتزام بالمبادئ أم هو تفريط بالأرض؟!
إن سيلاً من التصريحات، جلها من أركان في الحكم ومن قيادات “تاريخية” لها جذورها وامتداداتها “الجغرافية” ينهمر على المواطن إناء الليل وأطراف النهار، يعكس تناقضاً صارخاً وبلبلة وارتباكاً وافتقاداً للحد الأدنى من التنسيق على مستوى قمة السطلة.
“رئيس” يرد على “رئيس”، ووزير يسفه رأي زميله والجالس معه كتفاً إلى كتف في مجلس الوزراء، ثم تتوالى التبريرات والتعليلات، فيتبرع البعض بأن ينوب عن جيمس بيكر، والبعض الآخر لينوب عن القيادة السورية وقد يزلق لسان بعضهم فيتكلم وكأنه ينوب عن ديفيد ليفي أو شيمون بيريز حتى لا نقول اسحق شامير!
وبرغم التراجع الواضح في آخر نسخة لآخر تصريح أدلى به رئيس الحكومة حول هذا الأمر، فإن الصورة لم تكتسب المزيد من الوضوح، خصوصاً وإن الاذاعات تطنطن بتصريح لوزير الخارجية ذهب فيه إلى أقصى نقطة في الاتجاه المضاد.
كل ذلك وإسرائيل تتجاهل وتسقط كل ما قدمته السلطة الشرعية عبر انتشارها في الجنوب، بما فيه الصدام مع الفلسطينيين على أبواب مخيمات صيدا وجوارها، ومحاصرة مخيمات صور، ومصادرة السلاح الثقيل والمتوسط (أو تسلمه بالتراضي)،
.. والولايات المتحدة الأميركية، صاحبة المبادرة إلى المؤتمر، وراعية الشق الجنوبي من اتفاق الطائف، تستمر في “التطنيسش” ولا تحب سيرة القرار 425 الخاص بالانسحاب الإسرائيلي الفوري وغير المشروط من المحتل من أرض الجنوب،
بل إن سفيرها في بيروت يتحاشى أي حديث صريح ومحدد عن جلاء الإسرائيلي ولو عن جزين، ويربط بين “أشكال الوجود الأجنبي” كافة في حين أن المطلوب محدد ومحدود وواحد: جزين!
للمناسبة: فإن في “الأدبيات” التي صدرت عن مسؤولين لبنانيين من أركان “الجمهورية الثانية” خلال شهر تموز الحالي، على الأقل، ما يبرر للإسرائيلي احتلاله للجنوب وبقاءه فيه، ويكاد يعتذر له عما تقدم من ذنوب “المخربين” وما تأخر. ففي تصريحات بعض هؤلاء ما يظهر الإسرائيلي كمسالم آمن وأعزل وقع عليه عدوان غاشم فاضطر اضطراراً للرد باحتلال معظم جنوب لبنان، وهو معذور إن أبقى قواته فقط لكي ينام شعبه وابوابه مفتوحة!!
يبقى السؤال: لماذا يذهب لبنان إلى مؤتمر لم يدع إليه ناهيك عن أن موضوعه، أي الاحتلال الإسرائيلي لجنوبه وبعض بقاعه الغربي، غير مدرج على جدول أعماله؟!
إذا كان الرد: لتقوية الموقف العربي وللمشاركة في مناقشة “السلام” في المنطقة مستقبلاً، وبين ركائزه – حتى بالمنطق الرسمي – إقرار الحقوق الوطنية المشروعة للشعب الفلسطيني في أرضه، يصير مشروعاً أن يطرح على الفور السؤال الساذج التالي: ولماذا إذن تعامل “الجمهورية الثانية” الفلسطينيين بكل هذه القسوة والفظاظة ، ولماذا تضطهدهم “سياسياً” إلى هذا الحد؟!!
ومع التسليم بأن قيادة ياسر عرفات للفلسطينيين، ربما تكون جرت عليهم سلسلة من النكبات، وهي المسؤولة عن كل هذا التفريط بالأرض والحقوق والمستقبل، فإن ذلك كله لا يمنع من استمرار الاعتراف بمنظمة التحرير كإطار سياسي للنضال الوطني الفلسطيني في هذه المرحلة، ولا يمنع خاصة من فتح الباب لحوار سياسي جاد مع الفلسطينيين حول وجودهم في لبنان و”حقوقهم” كبشر فيه،… والبشر، عموماً ، ليسوا مجرد جهاز تناسلي ، ولا تقتصر حقوقهم على بطاقة هوية وجواز سفر وإذن عمل وإقامة، بل هي قد تصل إلى حد السماح بقراءة الكتاب والصحيفة والتعليق على مقال (مثلاً) ناهيك بحق التنظيم والاجتماع والنضال (بالأساليب الديمقراطية) لإبقاء قضيتهم المهددة بالاندثار حية في أذهان أجيالهم الحاضرة والآتية.
وكائنة ما كانت أخطاء الفلسطيني في لبنان فلم يكن إلا طرفاً (ولو أساسياً) في الحرب الأهلية، ومع استثنائه من حق المواطنة فإن خطايا الأطراف اللبنانيين في تلك الحرب لم تكن أقل،
وكما أن أخطاء “القوات اللبنانية” أو “المرابطون” أو حركة “أمل” أو “حزب الله” أو التقدمي الاشتراكي لا تحرم هذه القوى، ولا خاصة المنتسبين إليها، حق المواطنة والمشاركة في حكم “الجمهورية الثانية”، بل لعلها أعطتهم أكثر مما طلبوا ومما يستحقون.
… كذلك فإن أخطاء القيادة الفلسطينية لا يجوز أن تنسحب على الإنسان الفلسطيني فيشطب كإنسان، ولا على منظمة التحرير فيغفل ذكرها وتسقط من التداول تماماً، وكأنها قد انتهت لبنانياً بخروجها كقوة مقاتلة تحمل راية الكفاح المسلح في أواخر صيف سنة 1982.
وإذا كان المقصود بشطب المنظمة والتصرف حيالها وكأنها غير موجودة، تقديم فاتورة إضافية إلى الأميركي فإن هذا الأميركي لم يصل هو نفسه إلى هذا الحد، وبالأمس القريب كان سفيره في تونس “يفاوض” قيادة المنظمة، بغض النظر عن أهمية هذا “الحوار” البائس وجدواه لشعب فلسطين وقضيته العادلة.
أما الإسرائيلي فهو يأخذ فقط، ولا يقدم أي شيء بالمقابل لأنه غير مضطر لأن يعطي، ويعتبر إن قوته تعطيه حقاً مطلقاً، وبالتالي فإن أية رشوة يقدمها له لبنان من كيس الفلسطينيين لن تفعل إلا إضعاف موقع لبنان التفاوضي وتحريك الخلافات الكامنة حول العديد من الأمور بين اللبنانيين، إضافة إلى ما فيها من تشويه لصورة لبنان العربية ودوره القومي العتيد.
ولقد علمتنا التجارب إن الخلاف مع قيادة منظمة التحرير قد يكون، في العديد من الحالات، صادراً عن شعور قومي وعن حرص عربي على القضية القومية الأولى مقابل تفريط قيادة المنظمة أو انحرافاتها.
أما الخلاف مع الفلسطيني كفلسطيني واضطهاده وتقصد اذلاله – سياسياً ومدنياً وإنسانياً – فهو موقف عنصري وشوفيني أو كياني، وأحياناً طائفي، لا يمكن إلا أن يكون – في جوهره – معادياً للعرب، كعرب، لأي قطر انتموا، والسوريون هم الأقرب إلينا.
ولقد سبق أن وقعت أنظمة وسياسات عربية عديدة في هذا المحظور، فلم تجن منها أي تحسن في علاقاتها مع الولايات المتحدة الأميركية، ولا هي حسنت موقعها التفاوضي مع العدو الإسرائيلي… وكل ما حققته تسعير أجواء الحرب الأهلية داخل مجتمعها، وربما على المستوى العربي العام.
هذا لا يعني مطلقاً إن الفلسطينيين جماعة من الملائكة المطهرين لا يأتيهم الباطل من خلفهم أو من قدامهم، وأنهم لم يرتكبوا في حالات كثيرة أخطاء شنيعة تجاه “البلد المضيف”، ولم يتورطوا في كثير من الأعمال والتصرفات التي تسيء إلى قضيتهم وإلى حقوقهم السياسية بنسختها الجديدة التي لا بد أن تأتي مختلفة عن تلك التي كانت لهم قبل 1982، بقدر ما اختلفوا هم عما كانوه أيامها،
لكن الحديث عن الميزان والاستهداف: بأي ميزان تزن الأنظمة أخطاءهم وهل هو الميزان القومي أم الكياني – العنصري – الطائفي، ثم هل هي تستهدف ترشيدهم وإعادتهم إلى جادة الصواب وساح النضال من أجل الأرض المقدسة أم تستهدف الحصول على شهادة حسن سلوك من الإسرائيلي مباشرة، أو عبر حليفه الاستراتيجي الأميركي؟!
إن بعض أركان الحكم استخدموا في حديثهم عن جزين منطقاً إسرائيلياً فألحقوا إهانة حقيقية بلبنان كله وجيشه خاصة ومواطنينا في عروس الجنوب بالذات.
ولقد كشف التعاطي مع مسألة جزين، وإغفال ما عداها، ثم التراخي في موضوع القرار 425 وإيجاد الأعذار لصاحب الرعاية الأميركية، وأخيراً التورط في الموافقة المسبقة وغير المشروطة على المشاركة في المؤتمر الدولي العتيد… كشف كل ذلك ليس فقط ارتباك الحكم وافتقاده للمشروع السياسي، بل كذلك افتقاده الأهلية السياسية.
لقد تصرف العديد من أركانه في هذه المسائل المصيرية بالعقلية المناورة – المتشاطرة – الجهوية – الطائفية – وأحياناً المذهبية المحدودة.
كان بعضهم يريد أن “يمرك” ويناور ويتكتك بالمزايدة أو بالمناقصة على البعض الآخر،
وكان بعضهم يستقرئ ما يفترض أن دمشق تريده أو تميل إليه فينهال عليها نفاقاً قد يحرجها فيخرجها، كما جرى في الموضوع الفلسطيني تحديداً، مما استدعى إبلاغ الحكم ما يتجاوز التحذير بالنسبة لسلامة المخيمات.
وهذه أخطر مقاتل الوضع القائم في لبنان: الخواء السياسي المخيف.
وهو خواء لا يقتصر على الحكم وحده بل يمتد ليشمل “الشارع” أيضاً،
ومع سيادة هذا الخواء الفظيع لا يستغربن أحد ارتباك الحكم وضياعه واضطراب سياساته وتناقض تصريحات المسؤولين فيه ومواقفهم… فلكل اجتهاده الخاص المبني على ذلك المزيج من مصالحه وقراءاته الخاصة لسياق الأحداث وتقديره الشخصي لما يحسن موقعه في الحكم، وليس لما يحسن صورة الحكم ككل أو يحسن الأداء السياسي في البلاد عموماً.
وفي ظل هذا الخواء السياسي وافتقاد الرؤية المشتركة ستتفاقم الخلافات ووجوه الخلل على مستوى القمة وتحتها وتحت تحتها إلى ما لا نهاية،
وستظل القمم اللبنانية – السورية أقرب إلى مجالس صلح في ما بين المسؤولين اللبنانيين،
وسيضيع الكثير من وقت القيادة السورية في إصلاح ذات البين بين “الحلفاء الاستراتيجيين” لدمشق “أبناء الطائف” و”آباء الجمهورية الثانية”،
وتدريجياً قد يتزايد الشعور بأن الوضع في لبنان يأخذ أكثر مما يعطي وأكثر مما يستحق، هذا إن هو لم يتحول – بمباذله – إلى عبء سياسي،
ومراجعة بسيطة لما يصدر عن المسؤولين الإسرائيليين حول لبنان والتطورات فيه تكشف كم هم خبثاء في توظيف وجوه الخلل هذه والتناقضات في مواقف المسؤولين، في معركتهم ضد سوريا.
قبل المؤتمر الدولي ربما كان لبنان بحاجة إلى مؤتمر وطني لتظهير ما تم إنجازه من اتفاق الطائف وبلورة منهج سياسي يكون هادياً ومرشداً للحكم في صيغته الراهنة والمستقبلية،
وقبل الخلوة الوزارية حول الاصلاح الإداري لعل الحكم ذاته بحاجة إلى خلوة تناقش وتحسم وجوه الخلل والاختلاف في الرأي والاجتهاد والمواقف، بحيث يتحول مجلس الوزراء إلى مؤسسة فعلاً، تكون أقرب ما يمكن إلى قيادة جبهة وطنية عريضة في البلاد، أو يتعذر ذلك فيترك الأمر للقوى السياسية أن تستولد مثل هذه الجبهة لملء الفراغ… ودائماً في أفياء الجمهورية الثانية وليس خارجها،
هل هذا الطرح سابق لأوانه؟!
ربما. لكن المناخ السائد غير صحي، ونتائجه سلبية ليس على الحكم وحده، بل على مستقبل البلاد وعلاقاتها العربية والدولية،
والمرجع دمشق في البداية والنهاية.

Exit mobile version