طلال سلمان

على الطريق عن الحكم ومعاركه المحقة الخاسرة…

مع كل مشرق شمس يرتكب هذا الحكم من الفواحش ما يدفع إلى الارتياب في أنه تجاوز الرداءة والتردي في الأداء السياسي إلى الامعان في التواطؤ على ذاته وعلى جمهوريته الثانية.
لا يمكن أن يكون كل هذا الكم من الأخطاء من نتائج التسرع أو الارتجال أو الحساب المغلوطن فلقد آن أن تنتهي التجارب وأن تتوقف المناورات و”الحرتقات” التي لم تؤد إلى استنفاد الرصيد المتبقي لدولة اتفاق الطائف.
إنه حكم يحترف التشهير بنفسه، فما أن تهدأ الضجة حول فضيحة، سياسية أو شخصية، حتى يرتكب بعض إركانه فضيحة جديدة تشغل الناس عن سابقتها.
فما هو صحيح، مبدئياً، يقدم إلى الناس أو ينفذ بطريقة مشوهة بحيث يستعديهم عليه وعلى الصح، وما هو خطأ في الأساس يتبناه ويتمسك به وكأنه مبتدعه، ثم سرعان ما يضطر إلى التخلي عنه مقدماً نصراً مجانياً لمن جعلهم خصومه من خلال المناورة عليهم من داخل تحالفه معهم!
وليس أكثر من الخصوم الذين “اخترعهم” الحكم عبر المخاتلة، فهو قد استعدى كثيرين ممن كانوا في صفه أو محايدين، أما لأنه وعد بعضهم بأكثر مما يستحق أو لأنه طالبهم بما هو فوق طاقتهم بعدما وعدهم بما لا يملك أن يعطيهم.
ولنأخذ أمثلة محددة:
1 – الانتخابات وقانونها الأعرج!
تصرف الحكم في موضوع الانتخابات وكأنه “مهرب” يحاول تمرير “بضاعته” الممنوعة عبر حدود الطوائف والمذاهب والقوى السياسية المتكئة إليها.
ظل يتردد، يماطل، يناور ويداور، يحرض من لا يتسطيع المشاركة فيها لأسباب ذاتية، ويستفز المحايد ويستصرخ “المراجع” تارة بذريعة الحرص على حقوق الطائفة، وطوراً قباسم واجبه في حماية الديموقراطية… فلما اطمأن إلى حصته فيها انعطف يهاجم المعترضين ويرد على “الموتورين”، وبينهم من استمد الوتر من قلب المنطق التهييجي الذي سمعه منه.
عبر التقسيم الإداري، بين محافظة وقضاء، تم تهشيم بعض المشروع، لاسيما منطقه السياسي فافتقد شيئاً من “وحدويته” المرتجاة.
وعبر القانون الأعرج، بإجراءاته الملفقة، وبعضها مخالف للدستور في ما يقال، تم ضرب مصداقية الضمانات التي يفترض توفيرها، بداهة، للمقترع.
ثم جاءت عملية “سلق” المشروع نيابياً، وإقراره بالطريقة المتسرعة وفي ظل مناخ غير صحي، لتعطي المتشكك، والمعارض والمناهض ذخيرة لسلاحه السياسي الفاسد.
كان الحكم، بمؤسساته المختلفة، أعجز أو أفشل من أن يصوغ منطقاً سياسياً متكاملاً لمشروع طبيعي كالانتخابات، يواجه به شعبه ويحتكم إليه، من موقع القيم على الحريات والديموقراطية والمسؤول عن تجديد الحيوية السياسية وتجديد الدم في شرايين النظام وقد كان معتلاً قبل الحرب الأهلية فكيف به بعدها.
بدلاً من ذلك، انزوى الحكم في موقع دفاعي، مشيعاً أنه “إنما ينفذ ما يطلب منه”، محيلاص الشاكين والمعترضين إلى دمشق، وكأنه مجرد “وسيط” أو “مأمور إجراء”، لا رأي له… ملمحاً ضمناً إلى أنه هو أيضاً معارض ومعترض بل ومتضرر!!
ولقد تم التشهير بدمشق وبالقيادة السورية، همساً وعلناً، على هامش “معركة” قانون الانتخاب، بأكثر مما يجوز وليس فقط بأكثر مما يليق بالحكم، أي حكم، في أي زمان ومكان.
ولولا بقية من حياء وتهيب لصورت القيادة السورية وكأنها أطراف متصارعة كأهل الحكم في لبنان، لكل طرف فيها رأيه في الانتخابات النيابية وفي المرشحين وفي التحالفات وأيضاً في لون البطاقة الانتخابية وتكاليفها.
تبعثر الحكم، وتشققت الحكومة، وأطلق وزراء أساسيون فيها اعتراضات معللة، وتوسل بعض الحكم منطق خصومه “حتى لا يحترق” وحتى يضمن الفوز بالنيابة على حساب الحكم ذاته، فلجأ إلى دغدغة الغرائز الطائفية ليكون – من بعد – رجل الدولة!!
صارت الانتخابات كاليتيم، لا تجد من يحميها أو يدافع عنها أو يبررها مجرد تبرير بل لقد هوجمت وكأنها دعوة إلى الدكتاتورية والقمع والقهر، وصورت وكأنها استفتاء “طائفي” على وحدة البلاد وعلى مستقبلها!
وبسبب قصور الحكم ونقسامه على نفسه وارتباكه، وتغليبه لأغراضه الشخصية على مصالح البلاد والعباد، كان يقدم، في كل يوم سلاحاً جديداً إلى “المعارضات” التي كانت “مدانة” فتحولت إلى “ديان”، وكان بعض أركانها رموزاً للقمع والارتكاب والقتل على الهوية وأبطالاً للتهجير والتدمير فصاروا مكافحين باسم الديموقراطية ونماذج للنظافة وللوطنية الخالصة والحرص على حقوق المهجرين ومعهم المهاجرين ليس في العودة فحسب بل قبلها في الاقتراع النزيه والحر!
أليست مفارقة أن يعقد لواء الدفاع عن الحريات لقائد ميليشيا طائفية وقائد تمرد عسكري ضد الشرعية والوفاق الوطني ورئيس سابق لم يتعفف عن موبقة ومحاسبته واجبة وإدانته ثابتة في أي عرف وأي قانون؟!
ثم أليست مفارقة أن تبلغ فصاحة الحكم وإخلاصه في الدفاع عن قراراته ونزاهته في أحكامه حداً يجعل الناس أقرب لأن يقبلوا منطق خصومه، مع وعيهم بأن هذا المنطق يقع في باب “كلمة حق يراد بها باطل”؟!
يكفي نموذج البطريرك الماروني للتدليل على براعة الحكم في خسارة حلفاء محتملين أو أطراف محايدين، فهو قد غفل عن تحصين نفسه ومواقفه، ولم يبذل ما يكفي بل ما يجب أن يبذله من الجهد لتوضيح سياسته وإثبات وجاهة قراراته، تاركاً للمعارضات أن تروج عنه وعنها ما يستفز القوى والمراجع جميعاً ويستعديها عليه وعليها… وأساساً على دمشق، التي لا بد من زج اسمها في “المعركة” لكي يستقيم نصابها السياسي!
وليس مهماً أن تتم الانتخابات في مواعيدها المعلنة أم لا، بل الأهم كان أن تحمي الانتخابات فلا يتم التشهير بها وتصويرها وكأنها أداة قهر لفئة من اللبنانيين، بينما كان يفترض أن تكون مناسبة تاريخية لسقوط سياسة القهر الفئوية، وفرصة ذهبية لترسيخ وحدة اللبنانيين واجتماعهم على حماية حقوقهم الطبيعية وفي طليعتها حقهم في التغيير وتثبيت دعائم الديموقراطية والتقدم في اتجاه العدالة الاجتماعية.
2 – الغاصب يصير ضحية
المثل الصارخ الثاني لتردي الحكم الذي يسترد الارتياب في التواطؤ هو ما وقع خلال ليلة الخمس – الجمعة، ثم طيلة الجمعة – السبتن تحت بند استرداد الأبنية الحكومية،
لأمر ما تم التنفيذ بشكل أشوه كان يحول الغاصب إلى ضحية والدولة إلى “قاطع طريق”!
صار استرداد الدولة لبعض المباني التي وضعت الميليشيات يدها عليها وسخرتها لحروبها (في مثل الكرنتينا تحول المستشفى إلى سجن وثكنة حربية وما هو أفظع!)… اعتداء على الحريات العامة والشخصية، ومساً بكرامة السيدات وانتهاكاً لحرمة الحياة الزوجية!
وفي محاولة شوهاء أخرى لإصلاح الخطأ، الذي لم يعرف أحد بعد من يتحمل المسؤولية عنه، تم التعريض بالجيش وزج باسمه في حماة الصراع السياسي المموه بظلامة طائفية.
لقد فرض الخطأ على وزير الأعلام أن يذهب معتذراً إلى حيث كان يجب أن يذهب ليحاسب، وأن يبالغ في توكيد إيمانه بالحرية وحرصه على ضماناتها لجهة استولدها أصلاً المنطق الفئوي وفرضت نفسها بقوة السلاح، بداية، وخارج الشرعية وصية على عقول المواطنين وعيونهم وليالي سهرهم الطويلة.
كما فرض الخطأ على وزير الدفاع أن يبالغ في رقته بالتوضيح حتى كاد يفلق الجيش!!
وما كان أغنى الحكم عن مثل هذه المواقف التراجعية أمام الميليشيات، وفي هذه اللحظة السياسية تحديداً، لو أنه كان متماسكاً بالحد الأدنى، ومنسق الحركة، وموحد المنطق. لقد ظهر ظالماً ودولته هي المظلومة أصلاً وفعلاً، وظهر قامعاً وهو المقموع وبالذريعة الطائفية دائماً. صار الطائفي علمانياً – ديموقراطياً، وصار الحكم الجمهوري فئوياً ودكتاتورياً!
إن الحكم الضعيف ينتج “أبطالاً” ضده! إنه يخسر كل يوم المزيد من رصيده الشعبي، المحدود أصلاً، في حين لا يفتأ يزيد في “جماهيرية” خصومه الذين كانوا مدانين فبرأهم وعفا عنهم ووزرهم فرفضوا وزارته، وكانوا ملعونين فجعل الناس يفتقدونهم ويكادون يترحمون عليهم!
إنه ملك المعارك الخاسرة في القضايا المحقة!
وهم أكثر حكم يتبرأ منه أهله والمشاركون فيه،
وما أرحم المعارضين وما أرق أحكامهم إذا ما قورنت بما يقوله الشركاء الأساسيون في هذا الحكم الذي يكاد ينكره جميع أهله!

Exit mobile version