طلال سلمان

على الطريق عن الجامعة العربية وسائر السابقين!

ستجد جامعة الدول العربية نفسها أمام وضع غير مألوف عند انعقاد مجلسها في دورته المائة بعد غد، الأحد، في القاهرة: فبعض أعضائها يواجهونها باتفاقات لم تقرها بل ولم تكن على علم بها، ولا هي تحتاج إلى موافقتها حين أنها تنسف مرتكزات وجود الجامعة وأولها وأهمها التضامن العربي!
ومضحك إلى حد البكاء، مثلاً، أن يطرح على هذا المجلس موضوع مثل المقاطعة العربية لإسرائيل، في حين أن ثلاثة أعضاء (من دول الطوق!!) باتوا يرتبطون باتفاقات “دولية” شهد عليها العالم بأسره مع العدو السابق – الكيان الصيهوني!!
هذا إذا ما تناسينا أن ملكاً برتبة أمير المؤمنين ويرئس لجنة القدس قد استقبل وبغير سابق إنذار رئيس وزراء العدو، إسحق رابين، ومعه وزير خارجيته شيمون بيريز الذي لم يحترم أبسط المشاعر والتقاليد فدخل مسجد الحسن الثاني الباهظ التكاليف بحذائه، مطمئناً إلى أن جلالته لن يعدل عن إقامة علاقات دبلوماسية مع العدو الصهيوني الذي يحتل القدس الشريف نتيجة لهذه المخالفة أو “الهفوة” البسيطة التي تحدى بها المسلمين جميعاً، بل أي صاحب ذوق في العالم أجمع!
… وإذا ما تناسينا أن وفداً إسرائيلياً رسمياً سيدخل تونس خلال أيام تحت لافتة المفاوضات متعددة الجنسيات ليباشر محادثات حول إمكان التبادل الدبلوماسي بين الدولتين المتخففتين الآن من عبء العداء التاريخي!
… وإن السفير السعودي في واشنطن الأمير بندر بن سلطان بن عبد العزيز آل سعود كاد يستقب التوقيع الفلسطيني (الذي طالما مهد له) مع العدو الإسرائيلي ليؤكد أن السعودية آتية بلا ريب للالتحاق بركب السلام الأميركي في العصر الإسرائيلي،
… وهو لم يخرج بذلك عن السياسة الرسمية للأسرة التي عبّر عنها كبيرها حين أجاب الرئيس الأميركي وهو يبلغه بضرورات دعم الاتفاق بالذهب: أبشر يا طويل العمر، أنتم تقررون ونحن نلبي، سيروا ونحن من خلفكم، والله ولي التوفيق!
الله لا اعتراض على قدرك… ولكن لماذا لا نفكر بتعديل مهمات الجامعة العربية، حتى لا تتحول إلى شاهد زور على ما يتنافى مع “طبيعتها” ومع ميثاقها، بعدما ظلت طويلاً مقبرة للقرارات المؤكدة – نظرياً – لتلك الطبيعة.
لقد قمعت الجامعة فمنعت من أن تتحول إلى حاضنة لمجموعة من المؤسسات الموحدة للجهد العربي في ما يتعدى السياسة، وبالمعنى اليومي وربما المبتذل للكلمة…
تعثرت المشروعات الاقتصادية، كالسوق العربية المشتركة أو التكامل الاقتصادي، أو الوحدة الاقتصادية أو حتى الوحدة الجمركية، ناهيك بالأوتوسترادات والسكك الحديدية الخ..
وتبخرت المشروعات العسكرية التي كادت ترى النور في أواسط الستينات وعبر القيادة العربية الموحدة ثم ذهبت بها هزيمة 5 حزيران 1967 مخلفة الفراغ تسبح فيه أمانة عسكرية بلا صلاحيات، ولا قيادة ولا جيش ولا مهمات ولا خيل عندك تهديها ولا مال!!
حتى المشروعات الثقافية أصابها الوهن، وذهبت بها الأهواء إلى النسيان أو إلى الرفوف المهملة، برغم أن جهداً ممتازاً بذل فيها على مدى سنوات وبمشاركة عدد محترم من العلماء والجامعيين والكتاب والمفكرين العرب ممن كانوا يحلمون بتقريب يوم النصر على الذات، بتجاوز وهدة التخلف وترسبات عصور القهر والعسف والقمع الأجنبي أو المحلي.
لماذا لا تعاد صياغة الميثاق والمهمات والدور المطلوب من هذه المؤسسة التي أنشئت كبديل عن الوحدة المتعذرة، بحيث تقوم بخدمات حيوية وأساسية يحتاجها العرب جميعاً في مختلف أقطارهم، وبعيداً عن السياسية.
أليس جديراً بالتفكير أن تكون للعرب مؤسسة جامعة تهتم بما لا تهتم به حكوماتهم كثيراً كمثل الثقافة والاقتصاد والأعلام والشؤون الاجتماعية، ناهيك بأسباب الحياة اليومية كالماء والكهرباء والمواصلات والاتصالات… والمسلسلات التلفزيونية؟!
أم أنه بات مقدراً علينا ألا نفكر بأي أمر من هذا بعيداً عن إسرائيل وبمعزل عنها؟!
في تقاليد الفروسية يتحتم قتل الحصان إذا ما جرح،
من يقتل هذا الحصان العربي الذي شاخ فأحيل إلى جر عربات الخضرة والاتفاقات البائسة مع العدو الإسرائيلي؟!
من يحرر الجامعة العربية من عروبتها؟!
السابقون… في المستقبل؟!
بين ما يستوقف، على هامش الاتفاق الإسرائيلي – الفلسطيني، الجذور السياسية للأشخاص الذين أقروا هذه الوثيقة من الجانب الفلسطيني وخرجوا يسوقونها بين العرب، بادئين بشعبهم سواء داخل الأرض المحتلة أو في الشتات.
فاللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، وبمعزل عن الهيمنة شبه المطلقة لياسر عرفات عليها، هي نوع من الائتلاف بين قوى سياسية متنوعة في منابتها الحزبية وبالتالي الفكرية.
وبالرغم أن التيار الغالب في قيادة “فتح”، وبالتالي في قيادة المنظمة، هو تيار المتحدرين من تنظيمات “أصولية” أبرزها تنظيم الأخوان المسلمين، فثمة تلاوين سياسية أخرى داخلها أو بين حلفائها من “المستقلين”.
فإذا كان عرفات ومثله محمود عباس متحدرين من صلب “الأخوان”، فإن فاروق القدومي (وهو أمين سر اللجنة المركزية لحركة “فتح”) متحدر من حزب البعث العربي الاشتراكي.
بالمقابل فإن بين أعضاء اللجنة التنفيذية من يجيء من صلب الحركة الشيوعية، “العربية” سواء داخل الأرض المحتلة (مثل محمود درويش وعلى الضفة الأخرى سليمان نجاب)، أو خارجها مثل عبد الله حوراني الذي بدأ بعثياً ثم صار يحتسب في عداد الشيوعيين قبل أن يستقطبه ياسر عرفات (إذ لا مكان له يذهب إليه إذا اختلف معه)…
كذلك فهناك متحدرون من حركة القوميين العرب، وبالتحديد من طورها اليساري الذي ذهب في الماركسية إلى منتهى التطرف فغدا على يسار “الثورة الثقافية” في الصين التي حاول ماوتسي تونغ أن يجدد بها شبابه على حساب الحزب ومؤسسته الحاكمة…
فياسر عبد ربه الآتي إلى عرفات بانشقاق عن “الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين”، متحدر مثل أستاذه المخذول به أمين عام تلك الجبهة، نايف حواتمة، من صلب حركة القوميين العرب.
وثمة منشقون آخرون وملتحقون آخرون، سواء عن حزب البعث أو عن حركة القوميين العرب أو عن الشيوعيين، في الصف الثاني والثالث والرابع لعل أكثرهم شيوعاً وذيوعاً مستشار عرفات الشهير بالنافر من المواقف بسام أبو شريف… والأمثلة لا تقع تحت حصر!
لكأن كل “السابقين” هناك!
لكأنما المتنكرون لماضيهم هم المكلفون بصياغة المستقبل!
… والسابقون في التظاهر!
لم يكن أمام الحكومة، وبعد مذبحة الاثنين الأسود الواقع فيه 13 أيلول 1993 والموقع فيه الاتفاق الإسرائيلي – الفلسطيني، غير أن تؤكد قرارها الهمايوني السابق بمنع التجمعات والتظاهرات.
فالغط يحمى بالمزيد من الغلط، أو بالإصرار على الغلط.
وأبأس ما في القرار أن يكون قد صدر عن حكومة بين وزرائها نسبة كبرى من خريجي التظاهرات والأحزاب التي احترفت، ولعقود من الزمن، تنظيم التظاهرات وإطلاقها والتسلح بها في وجه الحكومات التي كانت تعتبرها “منحرفة” أو في وجه قرارات “منحرفة” لحكومة مصنفة وطنياً، أو في وجه قرارات لحكومات أخرى معادية كان على رأسها في ربع القرن الأخير حكومة الولايات المتحدة الأميركية.
من التظاهرة إلى النيابة،
ومن التظاهرة إلى الوزارة،
وبعد ذلك يمنع التظاهر الذي يغدو – فجأة – تهديداً للسلامة العامة وللنظام الذي يجب أن يصان ببؤبؤ العين!
أليست هذه هي الديمقراطية يا أصحب المعالي المتظاهرين السابقين؟!
بل ويا أصحاب الدولة المتظاهرين السابقين؟!

Exit mobile version