طلال سلمان

على الطريق عن الاستقلال ودولته..

لعلنا أفقر الناس في “الذكريات الاستقلالية”،
ولعل ذلك “الفقر” بين أسباب هذه الحرب الأهلية التي تطحننا منذ سنين طويلة ونطلق عليها أسماء كثيرة في محاولة يائسة لتبرئة أنفسنا ولو بالهرب من مواجهة واقعنا السياسي المعتل.
وليست نكتة أو تشنيعة إذا ما ذكر البعض في مجال استذكار أسماء أبطال الاستقلال اسم “الجنرال سبيرز”، مثلاً،
فأي مدقق لروايتنا الرسمية المعتمدة عن “الاستقلال” والتي يتعلمها صغارنا في المدارس (الخاصة كما الحكومية)، يخرج باستنتاجات تدفعه إلى التساؤل عن طبيعة ذلك الذي تم في مثل هذا اليوم من العام 1943.
حسب تلك الرواية فإن ما حصل، يومذاك، هو، في جانب منه، إن بريطانيا تمكنت من إلحاق هزيمة سياسية مدوية “بحليفاتها” فرنسا في عقر الدار التي كان يسميها بعض أهلها “الأم الحنون”،
وحسب تلك الرواية فإن “لبنان الكبير” قد أكد عبر “الاستقلال” انفصاله النهائي عن العرب، فتحولت المتصرفية التي كانت انتزعتها الدول الغربية من السلطان العثماني بذرائع خبيثة أخطرها حماية الطوائف، وبالتحديد غير المسلمين، إلى “جمهورية” دستورها فرنسي مترجم بقليل من التصرف، ونظامها غربي مهجن وركيزته الأساسية الطائفية وقد غلفت بغلالة من “الكيانية” أما رئيسها فقد خول صلاحيات تفوق تلك التي كان يتمتع بها الباب العالي في أيام عزه.
وحسب تلك الرواية فإن دولة الاستقلال الوليدة قد جاءت وهي تحمل التشوهات التي ألحقها الانتداب الفرنسي بهذا الكيان الذي حرره الجنرال غورو على عجل تطبيقاً لمعاهدة سايكس – بيكو.
كيف؟!
لقد ولدت الدولة المستقلة من رحم الانتداب نفسه بمعالمها وملامحها المميزة،
كل الطاقم الحاكم في ظل الانتداب جاء إلى الحكم الاستقلالي فبدا الامر وكأن “الدستوريين” سجلوا نقطة على “جماعة الكتلة الوطنية” في الصراع التقليدي الذي كان يرعاه باستمرار المندوب السامي،
ثم إن لبنان تحت الانتداب كان أعمق صلة وأوثق علاقات بمحيطه العربي، وبسوريا أساساً… أما “صيغة” لبنان المستقل فقد ساوت بين الأهل وبين الأجانب، بل هي قدمت فعلياً الأجنبي على العرب، حين أنكرت هوية لبنان وبالكاد منت عليه بـ “الوجه” العربي، بينما استمرت المصالح الفرنسية (والغربية عموماً) مصانة فيد تشده شداً إلى خارج محيطه وانتمائه الطبيعي.
بالمقابل فإن هذه الصيغة لم تساو بين اللبنانيين، وقدمت فعلياً المرتبط بالغرب ومدعي الانتماء “الحضاري” إليه على المواطن السوي الذي يرى نفسه عربياً، في لبنان، هو بعض أمته وهو ابنها البار في وجوده وفي مصيره، له ما لأبنائها جميعاً وعليه ما عليهم مع “استقلاله” في كيانه الخاص ريثما تزول المخاوف وتطمئن النفوس وتمحي الآثار أو الترسبات الباقية لعصر القهر الاستعماري.
حتى الصورة الرسمية للاستقلال، وهي تلك التي تظهر المغفور لهما الشيخ بشارة الخوري ورياض الصلح يسعرضان الجيش الوليد في ساحة الشهداء، أتت تجسيداً لهذا الانفصام النفسي والسياسي،
فالرئيس الاستقلالي الأول يعتمر القبعة الإفرنجية، ورئيس حكومته بالطربوش، وكلاهما يرتدي بزة الاحتفالات الرسمية.. في أوروبا!
بعيداً عن الكاريكاتور يمكن القول ببساطة: إن العرب جميعاً قد أرادوا قيام الجمهورية اللبنانية، وكذلك فإن اللبنانيين بإجماعهم قد فرحوا باستقلالها، من دون أن يداخلهم الشك لحظة واحدة في هويتهم.
لكن “الصيغة” سرعان ما حملت لبنان إلى البعيد،
فلا قامت فيه “جمهورية” ، ولا صارت فيه “دولة”، وبالتالي فقد تعذر قيام “وطن” في ظل استمرار الخلاف “العقائدين” و”الحضاري” بين القبعة والطربوش!
وكيف يمكن قيام وطن بلا هوية، وكيف تتوطد أركان جمهورية تتوزع الطوائف (والمذاهب) أسلابها، ومن أين تجيء “الدولة” طالما النظام لا يتسع إلا لأمراء هذه الطوائف يتوارثون المناصب والمصالح والمنافع والرعايا كابراً عن كابر؟!
على إن اللبنانيين كانوا، باستمرار، أعظم من حاكميهم، ومن هنا فقد تعلقوا بحلم الوطن، وأسقطوا تمنياتهم على الدولة ونظامها مفترضين إنهم يقدرون على تطويره بالنضال السياسي أو إن حقائق الحياة ستكون أقوى من الحاكمين المتحصنين وراء نظام الطوائف فتضطرهم للمبادرة بإصلاح الخلل قبل أن يذهب بهم الطوفان،
وما زال اللبنانيون، حتى اليوم، أعظم من حاكميهم والمتحكمين فيهم: فالمواطن مع الدولة والزعيم مع النظام، والمواطن مع الجمهورية الديموقراطية البرلمانية، وأمراء الطوائف يقاتلون بميليشياتهم الطائفية لإسقاط الجمهورية واجتثاث أي ذكر للديموقراطية،
ولعل فكرة الدولة وجمهوريتها لم تكن لها في أي يوم مثل الشعبية العارمة التي تحظى بها اليوم،
خصوصاً وإن اللبنانيين باتوا يملكون تصوراً محدداً للجمهورية والدولة والديموقراطية وحقوق المواطنة،
… وباتوا يعرفون إن التضحيات المقدسة التي بذلوها تعطيهم حقاً لا يناقش في إصلاح جذري يتسق مع أمانيهم، وفي مساواة تمكنهم من أن يتمتعوا بالحقوق الطبيعية للإنسان، وفي ديموقراطية توفر لهم فرص الإبداع وتحقيق الذات، وفي هوية تنهي عصر “الزعبرة” والدجل والادعاء الفارغ والهرب إلى الحقبات الغامضة أو المجهولة في التاريخ كلما أريد تحديد انتماء لبنان ودوره، بل وجوده والمصير.
بعد 45 سنة من “الاستقلال” الذي لم يقم دولة زاد تمسك اللبنانيين بلبنان وطناً عربياً ديموقراطياً مستقلاً سيداً حراً،
ومثل هذا الوطن لا يقيمه أمراء الطوائف الذين أنجبهم أمراء العهد الانتدابي، ولا بخاصة “عسكرهم” من نمط ميشال عون الذي قدم نفسه، أمس، كنموذج فذ لذلك الهجين الذي يمكن أن تعطيه دولة بلا هوية في جمهورية بلا ديموقراطية وفي ظل نظام يحتقر الإنسان وأحلامه البسيطة.
فليس البديل عن أولئك الذين لم يمنحونا غير الحرب الأهلية المفتوحة مثل هذا المهووس بالرئاسة والذي لا يعدنا إلا بالمزيد من الحرب والاغتراب عن الذات إلى حد تدمير “الكل”…
وبؤس دولة استقلال هذا “بطلها” بعد نصف قرن من قيامها!
… وبقدر هذا البؤس تماماً يجب أن يكون التغيير ليصير لبنان جمهورية، وليصير وطناً عربياً ديموقراطياً، ولتكون له سيادته والاستقلال.

Exit mobile version