طلال سلمان

على الطريق عن الأرض وقتلة الجنة!

فرضوا على الأرض حظر التجول.
ألغوا اسمها، غيروا فيها جلدها والمعالم، ثم منعوها من الحركة.
وزعوا الشرطة وحرس الحدود على المدن والقرى ليبدلوا أسماءها وهواءها وماءها، وأصعدوا الجيش إلى التلال والهضاب والجبال حتى لا تغور أو تثور أو تموه نفسها فتختفي عن أنظارهم، ونشروا المخابرات في الأودية وتحت الجسور وفي مجاري الأنهار وطلبوا إليها تسجيل الخرير وفك رموزه.
اعتقلوا، تحوطا، الياسمين والبيلسان، وتحفظوا على عطر الورد، وفرضوا الإقامة الجبرية على زهر الليمون في حين اعتبر أريجه فاراً من وجه مغتصبي شجره والثمر.
أقاموا الحراسة على “الترب” وفرضوا على الأموات إثبات حضورهم يومياً قبل غياب الشمس، وأطلقوا الكلاب البوليسية في طلب كل ظل يتحرك، فالظل يقود إلى صاحبه!
أعدوا لوائح ممهورة بالأختام ونشروا صوراً للحجارة المطلوبة، ووسموا الصخور حتى لا تغيّر أماكنها وكذلك حتى تثبت براءتها من جريمة إيواء المنتفضين.
سجنوا الأرض كلها، وأقاموا من حولها، بالدبابات والمدافع، حزاماً من نار يصعب اختراقه، وأقاموا الحواجز الثابتة والسيارة لاعتقال كل من شموا في يديه رائحة التراب.
لكن رائحة التراب في الهواء، تحملها النسائم الربيعية إلى الأنحاء جميعاً…
على هذا انطلقوا يطاردون النسائم والهواء والريح والعواصف، والربيح شخصياً، وهم لا يعرفون كيف يكبلون النسمة وبأي قيد يقيدون الربيع؟!
ثم… كيف يتصرفون مع نغمات الكروان، مع شدو الحسون، مع شجن الشحرور، مع هديل الحمام، وهل يفرزونها عن النسائم الربيعية أم يجيئون بالكل مخفورين؟!
كيف يعتقل نور الشمس، وكيف يحصر في زنزانة بلا باب؟!
كيف السبيل إلى منع سريان النسغ في أوردة الشجر؟! كيف يحظر تفتح شقائق النعمان؟! كيف يشطب لون الدم الذي يستسقي الدم؟! كيف يوقف تدفق الأرض بالسندس واشتعال القندول والوزال بلهب النرجس والشوق إلى الاحتضان؟
كيف يقطع حبل السرة بين الذرة والذرة، بين الكرويات الحمر والكرويات السمر؟!
تراب، ترابن تراب، والتراب مأوى ومثوى وسدرة المنتهى،
حجر، حجر، حجر، والحجر إرادة وسيادة وقيادة وريادة وبشارة نصر.
اعتقلوا غزة. اسجنوا الضفة. ادخلوا الجولان إلى زنزانة التعذيب. وعرضوا جنوب لبنان للأشعة تحت الحمراء.
هاتوا يهود الخزر. هاتوا يهود الحبشة. هاتوا كل فقراء اليهود. هاتوا يهودا بعدد حجارة فلسطين، بعدد حبات التراب في أرضها،
ماذا لو بُدّل دم فلسطين؟! استبقى هي ذاتها أم تستكين وتلين وينتهي زمن الانتفاضة؟!
هاتوا اليهود إلى الفرن. هاتوهم إلى المحرقة. هاتوهم إلى موضع الزلزال:
هاتوا البشر من الاتحاد السوفياتي، وهاتوا الدولارات من الأميركان، أما الأرض “فيقدمها” العرب، عرب فلسطين، عرب سوريا، عرب لبنان، عرب الأردن، عرب مصر، وأي عرب آخرين.
أرأيتم ما أسهل إقامة واحة للديموقراطية في هذا الشرق المتخلف والقرن أسوطي؟!
المهم: شددوا الحراسة على الأرض. افرضوا حظر التجول على الأرض. امنعوا الأرض من السفر أو الهجرة. ثبتوا الأرض بأجداث الشهداء. ادفنوا الحجارة أحياء.
استدراك: صادروا الأحلام والقصائد والموسيقى، وبالأخص: الحداء والشروقي والعتابا وهيهات موليتي عيني يا موليا. وتشددوا في مصادرة الحب، أي حب وكل حب، صادروا تنهيدة العشاق، فالحب الأرض والأرض الحب ومتى انتهى المحبون انتهت الانتفاضة وسكنت الأرض تحت أقدام الغزاة الآتين باسم الكراهية وعفن الحقد التاريخي الذي لا تنفع في تطهيره مياه نهر الأرض جميعاً.
انتباه: تخفوا جيداً، وانتهبوا جيداً إلى مصدر الخطر.. فثمة همسة حب، أو لعلها تكون حركة انطلاقة الحجر في اتجاه هدفه الصحيح.. ماذا تنتظرون، افتحوا النار!
قتلة الجنة!
زمان زمان كنا نودع الأهل، نركب السيارة، ونأخذ الطريق الموشى بزهر الشوك الصخري النابت في قلب الثلج، ونصعد مع التعرجات حتى نبلغ قمة صنين: عيون السيمان، نهتف بكل حب الحياة والوطن والجمال: الله!! نغسل العين من أدران المدينة والفكر من هموم العيش اليومي، ثم نبدأ نزهتنا الأسبوعية في “قلب لبنان”، كما وصفه أمين الريحاني.
تتحول العودة إلى رحلة طويلة متعددة المحطات: فاريا، حراجل، عشقوت، ميروبا، ومزرعة كفرذبيان، وقد ننعطف في اتجاه عجلتون وريفون، أو نزور قريباً في لاسا أو في الغويبة، وقد يجذبنا خط الجمال في الاتجاه الآخر فنقصد مزرعة السياد وقرطبا وطورزيا.
كان الأطفال يطلبون منا التوقف إما لجمع الزهر البري، وإما للاستمتاع بالنشيد الخالد لتلك النهيرات الصاخبة وهي تتدفق نزولاً نحو البحر، وإما لتناول البوظة في مقهى أنيق شيق مطل على سطوح القرميد المتفتحة وسط الغابات كشقائق النعمان.
أما الكبار فكانوا يطلبون، أحياناً، أن نتوقف لأخذ صورة تذكاريه أمام بعض الصخور التي تبدو وكأنما نحتها فنان عظيم في لوحة أسطورية خالدة، أو إلى جانب دارة اجتماع لها ذوق الباني وجمال الموقع ونزاكة السكان.
كنا كمن يعبر في أرض سحرية، لا نريد للرحلة أن تنتهي حتى نرشف من رحيق الجمال حتى الثمالة.
وكان البعض يتساءل بجد: هل الجنة على هذا النمط؟
ويرد عليه من يملك أن ينطق: لا يمكن أن تكون الجنة أجمل!
من يهدم الجنة اليوم؟!
من يوجه مدافعه إلى الجمال والأناقة والرشاقة، وشقائق النعمان؟!
من يقتل، بالقصف أو بالقنص، قلب لبنان؟!
غيرنا، من أشقائنا يموت لتبقى الأرض، ونحن نقتل الأرض مفترضين إننا من دونها يمكن أن نبقى.
غيرنا، من أشقائنا ، يطعم الأرض يومه وغده ، دمه وجسده، حلمه وهواه، ونحن نفتك بالأرض فتكاً، كانما يمكن أن نذهب غداً إلى “السوبر ماركت” فنشتري أرضاً بديلة.
غيرنا، من أشقائنا، يموت لتحيا الأرض، ليحيا الوطنن ولو في الوجدان، وبعضنا يقتل الوجدان والوطن ليبقى ولو وحيداً فوق تلال من الجماجم وركام من حطام شقائق النعمان.
بعضنا يقتل، بشهوة السلطة والتسلط، قلب لبنان.
وهو يعرض علينا جريمته في الوقت الفاصل بين إعلانين تجاريين عن صنفين من الويسكي أو من الحليب المجفف أو من الجوارب اللاصقة.
عشتم، وعاش لبنان!

Exit mobile version