طلال سلمان

على الطريق علي عسيران و”النوارة”

القاعدة هي القاعدة: طالما إن الحرب الأهلية هي البديل عن الحرب الحقيقية ضد العدو القومي فهي ستستمر إلى ما شاء الله، وستتخذ في كل مناسبة طوراً جديداً، وستتبدل شعاراتها وأدواتها من منطقة إلى أخرى، وسيقل تدريجياً ما هو “سياسي” فيها حتى يكاد ينعدم لحساب ما هو فئوي (ديني فطائفي فمذهبي) أو جهوي،
القاعدة هي القاعدة: وبقدر ما تتزايد أطراف الاشتباك وجبهاته تتزايد فرص التدخل أمام جميع الراغبين في التدخل بكل أشكاله، فيصير طبيعياً أن يجول السفراء الأجانب بين دويلات الطوائف وكانتونات المذاهب، وأن تقسم المنظمات الدولية “مساعداتها” على الجهات والفئات مفيدة من واقع إنه بات لكل طائفة ميناؤها “الصافي” وعسكرها ووكلاء التوزيع ومتعهدو النقل وإيصال البضاعة على حيث يجب أن تصل.
ويصير طبيعياً بالتالي أن نسمع القائم بالأعمال الأميركي يقول بعد لقاء ورئيس المجلس النيابي، أمس، وبعد التعبير عن سعادته الشخصية، إنه ناقش مع مضيفه “نشاط المجلس الذي يعتبر أحد أهم المؤسسات الوطنية في لبنان”.
القاعدة هي القاعدة: وتصير الطوائف رهائن الأكثر تطرفاً من القيادات التي أنبتها مناخ الحرب الأهلية، وتسقط الهوامش والفواصل بين مؤسسات النظام الطائفي وبين المؤسسات الطائفية لنظام الحرب الأهلية، وهكذا تلتحق رئاسة الجمهورية ويُلحق الجيش والإدارات الحكومية في الشرقية وكذلك “الأحزاب” بـ “القائد” – بغض النظر عن اسمه، وعن مدى وضوح علاقته بالعدو الوطني والقومي، وعن مدى الخطورة في نهجه التقسيمي على مصير الطائفة ناهيك بالوطن!! –
بالمقابل تتهاوى المؤسسات الديمقراطية، الأحزاب والنقابات والهيئات المنتخبة وصولاً إلى الأندية، مخلية الساحة للتنظيمات الطائفية المسلحة بما هي قيادة هذا المعسكر من معسكرات الحرب الأهلية،
ثم لا تتأخر الكارثة: يتفجر الاقتتال داخل كل معسكر، لاسيما حيث يفتقد الصفاء المذهبي أو الطائفي أو الديني، فتتدحرج الحرب الأهلية نزولاً من الدين إلى الطائفة فإلى المذهب فإلى الجهة فإلى القبيلة أو العشيرة أو العائلة وصولاً إلى الأسرة الواحدة.
وهكذا يتم اغتيال بيروت الغربية وحذفها من دائرة التأثير السياسي وتحويلها من خط خلفي للمقاومة في الجنوب، ومن طليعة صمود في وجه المشروع التقسيمي والتقسيميين، إلى عبء حقيقي على القابضين على جمر صمودهم بشغاف قلوبهم، وإلى مستنقع آسن يضخ إلى الجنوب ريح سموم تفتك بروح المقاومة وبقدرات المقاومين بأكثر ما يمكن للعدو أن ينجزه مهما “دفع”!
والآن يبدو وكأن الدور قد جاء على الضاحية…
فـ “النوارة” مهددة بأن يجتاحها الطاعون الذي اجتاح بيروت قبل بضعة شهور، والذي تطلب علاجه قراراً تاريخياً بدخول القوات العربية السورية، على عجل وبمعزل عن أي حساب وبمهمة إنقاذية لا يمكن تأخيرها حتى تنضج الظروف السياسية ، محلياً وإقليمياً ودولياً الخ..
“النوارة” في خطر حقيقي،
لقد نجح الأعداء والتقسيميون في تشويه صورتها في الخارج، وحتى في عيون الكثير من اللبنانيين، فحولوها من ضحية للنظام الطائفي الفاسد إلى “وكر للإرهاب الدولي”،
وها إن محاولة خبيثة تجري الآن لتصويرها وكأنها مصدر “للإرهاب” الداخلي، أو الإرهاب ضد أهاليها، ضد الذات!
فحين يختطف علي عادل عسيران في بعض أنحاء الضاحية، ويحتجز في ما هو مفترض ومقدر، في داخل الضاحية، تندثر صورة الضاحية – الضحية تماماً لتحل محلها تلك الصورة التي عممها الأعلام المعادي عن “حزام البؤس” الذي زادته الحرب الأهلية بؤساً لا تخفف من حدته أبداً تلك الأحاديث الممجوجة عن كرامة الطائفة.
فكرامة المواطن لا تكون حيث تحضر الطوائف، ولا يعوضها البريق الإعلامي القاتل الذي يحظى به أمراء الحرب الأهلية المتحولة إلى اقتتال بين الجياع والمحرومين والمهجرين والمهدورة حقوقهم قبل الحرب وفيها (وبعدها؟!)..
وإذا كانت المارونية السياسية، كمؤسسة، لم تستطع أن تتحمل أو أن نحمي رجل دولة عاقلاً ورزيناً كرشيد كرامي، فإن الإسلامية السياسية أو الشيعية السياسية (إذا جاء التعبير) لم تستطع أن تتحمل أو أن توفر الحماية لمواطن عاقل ورزين وكاره للسياسة كعلي عادل عسيران.
لهذا كان منطقياً أن يربط الناس بين الحدثين، وأن يروهما متكاملين، وأن يروا أقله تقاطعاً في المصالح بين مرتكبي الجريمة الشنيعة على حدود “دويلة” التقسيم في الشرقية، وبين المتورطين في الغلطة الشنيعة على حدود الضاحية التي يراد إطفاؤها كنوارة وتحويلها إلى مشاع وساحة صراع بين أبناء الطائفة الواحدة وحتى العشيرة الواحدة، بما يمكن القوى الأجنبية عموماً من اللعب في هذه الساحة براحة تامة.. فالإرهاب لا جنسية له، ويمكن لكل قادر بالنفوذ أو بالسلاح أو بالمال أن يستخدم هذه الساحة وأن يفيد من فوضاها القاتلة.
وأول شرط لسلامة الضاحية، بل لإنقاذها، ألا نتركها تتحول إلى ساحة،
إنها أرض وبشر، مصالح ومطامح وعواطف وأحلام،
وللبشر هويتهم العربية الناطقة، وللأرض هويتها العربية الموشاة بدم الضحايا الذين تساقطوا فيها فحموا كرامتها وحق أهلها في غد أفضل،
… من أجل حماية ما تبقى من “النوارة” يجب أن يتم تحرير علي عادل عسيران، فوراً وبلا قيد أو شرط،
ويجب أن ينتهي أو ينهي هذا الوضع الشاذ والمتفاقمة مخاطرة في الضاحية المرشحة الآن لأن تكون ضحية للمرة الثالثة، الرابعة، العاشرة الخ.
ولا أمل بحل خاص للضاحية إلا من ضمن صيغة وطنية شاملة، لا تقر “بخصوصية” للوضع في الضاحية أو بامتياز للقوى المتواجدة فيها،
لقد أنهكتنا الخصوصيات المفبركة واستنزفتنا الامتيازات المدعمة بالسند الخارجي ولم نعد نستطيع أن ندفع أكثر،
كذلك فلا يملك طرف أو قوة أو حركة أو حزب أن يدعي وحده حق الكلام باسم الضاحية أو حق تسلم مسؤولية الأمن فيها،
إن الضاحية هي بعض بيروت، وهي بعض الجبل، وهي بعض الجنوب وطريقه، وهي بعض البقاع وطريقه، هي بعض لبنان (وربع سكانه تقريباً)..
والمسؤولية عنها لا يمكن أن يتولاها ويقوم بأعبائها إلا تلك القيادة المؤهلة للقيام بمهام المسؤولية الوطنية الشاملة بالتحالف مع دمشق وبمؤازرة جدية من القوات العربية السورية المتواجدة في هذه المناطق جميعاً ما عدا الضاحية.
فليكن علاج وضع الضاحية نموذجاً ناجحاً لصيغة الجبهة الوطنية العتيدة، جبهة التحرير والتوحيد.
وليكن تحرير علي عادل عسيران، بل تحرير الضاحية من “وضعها الخاص” الخطوة الأولى على طريق الألف ميل، طريق التوحيد والتحرير،
فالأوضاع الخاصة لا تنبت الورود، بل تنبت الشوك وتطلق الريح المسمومة في كل اتجاه،
واحتجاز المناطق أو احتكار العمل السياسي (أو العسكري) في مناطق معينة بذرائع طائفية أو مذهبية ولو مموهة بالعقائدية لا يؤدي إلا إلى تسعير الحرب الأهلية والتعجيل في تحويلها من الحرب ضد الآخر إلى الحرب ضد الذات، وهي بالتالي ستنتهي نحراً للذات.
والنقص في العروبة يقتل، أول ما يقتل، القوى القادرة والمؤهلة على إنجاز مهمات جليلة كالتحرير والتوحيد، فلننقذ النوارة.
والمدخل، الآن، تحرير علي عسيران، وتحرير كل الذين يعيشون من جديد تحت وطأة الخوف القاتل على أرواحهم وأرزاقهم وبيوتهم، فلقد تعودوا أن تنتهي الاشتباكات بمصالحات بين المشتبكين، وأما هم فيفقدون بعض أبنائهم وبعض أو كل مقتنياتهم وبعض أو كل بيوتهم الفقيرة أصلاً.
فلننقذ النوارة،
مع التذكير بأن من يهدد أمن الناس في الضاحية لن يتبقى له من الوقت والجهد ما يكفي لتحرير الجنوب فكيف بسائر الأنحاء؟
وليكن تحرير علي عادل عسيران، الوجه الآخر للقضية الكبرى: كشف الجناة الذين قتلوا رشيد كرامي بكل ما يعنيه وما يرمز إليه.
لتكن قضيتنا أن نحمي من وما تبقى من الأرض والناس في الضاحية كما في الجنوب كما في الجبل كما في البقاع والشمال، والكل جرح مفتوح ينتظر الإنقاذ والمنقذين.

Exit mobile version