طلال سلمان

على الطريق على هامش أحداث الشرقية: عن صراع الطائفيين على السلطة في الكتاسب و”القوات” والتنظيمات المماثلة

لا يصح أن نناقش ما حصل، وما قد يحصل أيضاً، في “الشرقية” وكأنه أمر طارئ باغتنا ونحتاج إلى وقت لتحليله واستخلاص النتائج، أو كأنه “حادث” وقع مصادفة بلا مقدمات وبلا ارتباط بالسياق العام للأحداث التي تتوالى علينا في “الشرقية” و”الغربية” كحلقات في مسلسل جهنمي.
الكل كان يتوقع أن يحصل “شيء ما” هناك،
كان ثمة اختلاف فقط في التقديرات،
البعض كان يتوقع معركة خاطفة ينتصر فيها أمين الجميل، خصوصاً إذا ما وفر الظروف المؤاتية لاستخدام “حصنه” الأخير، الجيش.
وبعض آخر كان يقدر أن سمير جعجع قد يخرج منتصراً من هكذا معركة إذا هو استطاع تحييد الجيشن
وبعض ثالث كان يؤمن بأن النصر أعز من أن يناله أي من الطرفين المتصارعين على موقع “الممثل الشرعي الوحيد للطائفة الممتازة في لبنان”، أي الموارنة، وبالتالي لعموم المسيحيين، وإن المعركة ستكون جولة من جولات في حرب طويلة تتوقف بفعل العجز عن الحسم فتكون هدنة ترتكز إلى حل تلفيقي مؤقت بطبيعة الحال، ريثما يستشعر أحد الطرفين أو كلاهما القدرة على الحسم فتكون الجولة التالية وهكذا دواليك حتى ينشأ وضع جديد بتوازن للقوى جديد يستمر حتى إشعار آخر.
وبغض النظر عن طبيعة “الحل” الذي أمكن الوصول إليه، اضطراراً ، فإن الهدنة لا يمكن أن تدون لأسباب موضوعية تتصل بالسياسة وبالخيار السياسي لأطراف الصراع بقدر اتصالها بطبيعة هذه الأطراف وأسباب قوتها.
*فالصراع سياسي، بأكمل المعاني التي تحملها كلمة السياسة، وإن اتخذ السلاح وسيلة لتحقيق أغراضه.
*والصراع ، في بعض جوانبه، صراع أجيال وصراع فئات اجتماعية متمايزة، حتى لا نقول طبقات.
*كذلك فهو، في جوانب أخرى، تمزق داخلي في المؤسسة – الأم التي ولدت سفاحاً، فلا هي قادرة على تبنيه بكل تشوهاته ولا هي قادرة على إنكار بنوته، ولا هي أيضاً تستطيع وقف الصراع معه على قاعدة لا غالب ولا مغلوب الشهيرة.
ولمزيد من التحديد، يمكن التذكير بالوقائع الآتية:
1 – إن “القوات اللبنانية” هي تنظيم آخر مختلف بطبيعة التكوين والتوجه عن حزب الكتائب، برغم أن “القوات” خرجت أصلاً من رحم هذا الحزب الذي يحتفل الآن بالذكرى الخمسين لتأسيسه.
وإذا كان هذا الحزب قد بدأ كتنظيم رياضي ثم تحول إلى “حزبية” أو “عصبوية” مارونية – جبلية ثالثة تنمو ببطء في ظل التنافس بين “الحزبيتين” المارونيتين الجبليتين الأساسيتين (الدستورية والكتلوية)، فإنه قد برر وجوده لاحقاً بمهمة التصدي للعقائديات السائدة (السورية القومية والقومية العربية) إضافة إلى المبادئ الهدامة (الشيوعية والاشتراكية بكل أنواعها حتى تلك التي فبركتها المخابرات المركزية الأميركية)…
ولقد عاش هذا الحزب سلسلة من التناقضات الفكرية والسياسية حتى استقر على صورته الأخيرة كبطل من أبطال الحرب الأهلية في موقع حامي حمى الموارنة فالمسيحيين في لبنان فعموم مسيحيي الشرق، نيابة عن الغرب كله وباسمه ولحسابه.
بين هذه التناقضات إن حزب الكتائب كان يقدم نفسه داخل بيئته الطائفية وكأنه حزب الفقراء من الفلاحين والعمال وصغار الكسية، في حين كان يباهي في المجال العام بأنه الحزب الأعتى في يمينيته، حتى جاء اليوم الذي طالب فيه “الرجعية العربية” باعتماده حزب اليمين العربي في لبنان وخارجه.
وبين هذه التناقضات، ولو في الشكل، إن حزب “الوطن القومي المسيحي” والقائل بالتعددية الحضارية كمدخل إلى القول بانتماء غربي تماماً للمسيحيين في الشرق، كان الحليف الموضوعي الثابت لأكثر الحركات تعصباً بين المسلمين وبينها على سبيل المثال تنظيمات الأخوان المسلمين وحزب التحرير الإسلامي الخ…
2 – إن “القوات اللبنانية” هي الابنة الشرعية للحقبة الإسرائيلية في تاريخ حزب الكتائب.
ومع الحرص على تجنب التعميم، فإن هذا التنظيم الذي استخرجه بشير الجميل من رحم الكتائب أساساً، ثم وسعه بالقوة ليصير حزب عموم المسيحيين، ثم جيش عموم المسيحيين، ما كان ليعيش وينمو ويصير ما صار إليه لولا التبني الإسرائيلي الكامل… بدأ الأمر باعتماد الأشكال التنظيمية اليهودية السابقة على إقامة دولة إسرائيل كنموذج ممتاز وقدوة صالحة وقابلة للتكرار، وانتهى الأمر بالارتباط الكلي بالأهداف الاستراتيجية للدولة الإسرائيلية، مع الوعي بأن مثل هذا الارتباط يحول “القوات” إلى مجرد “عميل” للمخابرات الإسرائيلية أو مجرد “فيلق أجنبي” يعمل لحساب الجيش الإسرائيلي كما المرتزقة.
وإذا كانت علاقة الشهابية بالكتائب وتبنيها لها قد “عربت” هذا الحزب في الظاهر، فإن اندثار الشهابيةالذي جاء متزامناً مع هزيمة الحركة القومية العربية في 5 حزيران 1967 وما بعده قد سمح للكتائب “بالتحرر” من استعرابها الطارئ والعودة إلى اعتماد التجربة الإسرائيلية كنموذج صارخ في نجاحاته المذهلة.
صحيح إن مسايرة الاتجاه العربي (في الخارج) قد جعلت الكتائب شريكاً دائماً في السلطة، إذ أوصلته بداية إلى الوزارة ومن بعد إلى المجلس النيابي لأول مرة منذ نشأته في منتصف الثلاثينات، لكن طموحات الشيخ بيار الجميل انفتحت على مداها في أواخر الستينات، وهكذا ارتفعت في الأشرفية والجميزة والصيفي هتافات ضعيفة ولكن مسموعة من نوع: “ما في غيرك بو أمين لرئاسة الجمهورية”.
فالسلطة مغرية، وإذا كان قدر من الطائفية قد أوصل إلى الوزارة والنيابة فإن مزيداً من التطرف يوصل إلى سدرة المنتهى، خصوصاً إذا ما أحسن استغلال الالتباس القائم أبداً بين الكتائب كحزب للرئاسة والرئيس والدولة ورديف لجيشها و”إدارة ظل” تعتمد التقسيمات الإدارية ذاتها والتراتيبية ذاتها وحتى التسميات ذاتها في المجالين المدني والعسكري.
على إن التطرف كان باباً للخروج من الإطار العربي، في حين كان الاعتدال باباً للدخول إليه… ومع الشبق إلى السلطة والتطلع إلى سدة الحكم فقد كان ضرورياً أن يتعامى آل الجميل وتتعامى معهم قيادة الحزب عن حقيقة أن التطرف الطائفي يوصل حتماً إلى تبني المنطق الإسرائيلي وإلى طلب التحالف مع إسرائيل.
وهكذا حسم بشير الجميل التناقضات الظاهرة والمستترة، فلم يعد الحزب تنظيماً طائفياً (فاشياً) معادياً للعروبة وللعرب ولكن مع مسحة من الاعتدال والاستعراب اللفظي، بل هو انسجم مع نفسه ومع تاريخه وطروحاته فصار – عبر “القوات اللبنانية” – تنظيماً إسرائيلي الهوى والمنطق والعقيدة يحاول أن يفرض نفسه على عرب الهزيمة بقوة الأمر الواقع وينجح إلى حد كبير فيستدعي إلى الطائف ليطوب رئيساً للحقبة الإسرائيلية في تاريخ لبنان وعرب الثمانينات.
على إن قيام “القوات اللبنانية” استحدث ثنائية جديدة داخل حزب الكتائب الذي كان عبر علاقته الملتبسة مع “الدولة” قد استولد ثنائية أولى تماهت فيها الحدود بين المسميات ودلالاتها: اختفى الوطن، ولو كلفظة، ليبقى الكيان كواقع سياسي، ولم تعد “اللبنانية” صفة مواطنة بل إعلان انتماء للمؤسسة، أي للمارونية السياسية، بالانتساب إن لم يكن بالولادة… وأفرغت هوية البلاد من مضمونها الأصلي، فصارت العروبة تهمة يطارد بها “الخصوم”، وأسقط الحرم عن التعامل مع إسرائيل التي باتت الآن “الحليف الكبير” و”الضامن لسيادة لبنان وللعنفوان والمقاومة المشروعة لكل محاولات تنسيبه إلى محيطه العربي”…
وكان بديهياً أن تتفجر الثنائية مرة ومرات بعد سقوط “بطلها” وسقوط مشروعه الانتحاري، من غير أن تنفع في حمايته المؤسسة العسكرية القومية التي صارت إليها “القوات اللبنانية” عبر سنوات الحرب ضد عرب الداخل وعرب الخارج في السنوات العشر الماضية.
3 – إن حزب الكتائب قد صار شيئاً من الماضي، وهذه حقيقة لا يوازيها في القوة إلا حقيقة أخرى مفادها أن “القوات اللبنانية” لا تستطيع أن تكون معلماً من معالم المستقبل في لبنان.
ويمكن توصيف الصراع بين قدامى الكتائبيين و”المجددين” و”القوات اللبنانية” بأنه صراع وحشي على السلطة بين طرفين لا يمتلكان الحد الأدنى من الشرعية السياسية.
فالكتائب ألغت نفسها حين “انتخب” مكتبها السياسي بالإجماع ووقوفاً بشير الجميل قائداً وزعيماً وبطلاً ومرشحاً لرئاسة الجمهورية، مع وعيه الكامل بأن لا سبيل إلى الوصول إلا على دبابة الاحتلال الإسرائيلي.
لم تعد تنفع ادعاءات المشاركة في النضال من أجل الاستقلال، و”زمالة” رياض الصلح، والصورة الشهيرة لبيار الجميل جريحاً في إحدى التظاهرات المناهضة للانتداب الفرنسي، لتأكيد حق الحزب في قيادة البلاد وصيانة استقلالها وضمان الديموقراطية وسلامة الاتجاه المنسجم مع المحيط بها.
كذلك فإن صور بشير الجميل مع شارون وجنرالات الاحتلال الإسرائيلي، ثم مع مناحيم بيغن، والتاريخ الدموي لـ “القوات” مع المسيحيين كما مع المسلمين في الداخل، وصولاً إلى الفلسطينيين والسوريين والمصريين الخ، كل ذلك لم يكن ليؤهل هذا الشخص “المهجن” ومعه تنظيمه المهوّد تماماً لحكم لبنان العربي بالجغرافيا كما بالتاريخ والتراث الحضاري وبالوجود كما بالمصير.
ولعل أبرز المفارقات الفاضحة كانت تتجلى في الموقفين المتعارضين للأب المؤسس وحزبه وابنه القائد و”قواته” من “صيغة 1943”: فالأول يراها أعظم اختراع عرفته البشرية والثاني يرى فيها وصمة عار لا بد من إزالتها ولو بالقوة!
وانتهى الأمر بأن جاء أمين الجميل الذي يشكل مجمعاً للتناقضات كلها: فهو من الكتائب لكن عينه على “القوات”، وهو يريد أن يربح العرب من غير أن يخسر الإسرائيلي أو يستعديه، وهو مع “الصيغة” ولكنه يقول بضرورة التجديد استرضاء “للشباب” الرافض، وهو مع الوحدة الوطنية ولكنه يريد تثبيت الهيمنة المارونية على البلاد وهيمنة الكتائب على الموارنة، وهيمنة آل الجميل على الكتائب (و”القوات”) وهيمنته شخصياً على الجميع في الدولة والحزب و”القوات” والرعايا الآخرين في التنظيمات والجهات والفئات الأخرى.
4 – إن العلاقة بين أمين الجميل و”القوات” لا يمكن تطبيعها إلا إذا تمكن من تصغيرها بحيث يلغي دورها وطموحات قياداتها المتعددة، أو إذا تمكنت هي من محاصرته وأسره بحيث تلغيه كرئيس للجمهورية في الحاضر وكقطب سياسي كبير في المستقبل من موقعه العتيد كزعيم للكتائب بعد انتهاء الولاية.
فأمين الجميل يريد الرئاسات جميعاً: الجمهورية والكتائب و”القوات”، ولو استطاع لكان أيضاً رئيس الرهبانيات والبطريرك ورئيس الرابطة المارونية ومنظزمات الكشاف والصليب الأحمر.
و”القوات” تحاول أن تكون قيادة المسيحيين، والموارنة خاصة، في كل مجال: دولتهم البديلة عبر كانتون كفرشيما – المدفون، وجيشهم، و”نبيهم” الجديد المبشر بفلسفة كونية شاملة لهم منها شرف الريادة ومجد التبشير والفتح ولو بحد السيف.
وفي الفترة الأولى أمكن ضبط “القوات” تحت قيادة الذرية الصالحة، إذ استفادت “العائلة” من جو الحزن على القائد الراحل، واستفاد الطامحون من الوقت لتحديد مواقع القوة وعقد التحالفات وإعادة ترتيب الأوضاع الداخلية تمهيداً لساعة الصفر الآتية..
وهكذا جاءت “الانتفاضة الأولى” بقيادة الثنائي سمير جعجع – إيلي حبيقة موجهة ضد استمرار سيطرة العائلة (عبر الأحفاد والأسباط والأصهار)، وإن كان أمين الجميل قد استطاع توظيفها للتملص من التزاماته في لوزان ثم في دمشق وإجهاض البيان الوزاري وتوجيه ضربة قاصمة إلى حكومة الوحدة الوطنية.
كان في مصلحة أمين الجميل، آنذاك، أن تظهر “القوات” بمظهر المتطرف الخارج على منطق التسوية التي ترعاها دمشق ، وكان بديهياً بالتالي أن تكون قيادة “الانتفاضة” معقودة اللواء “لبطل” حرب الجبل، وبطل التصفيات المارونية أيضاً، سمير جعجع.
وكان في مصلحة القيادات الجديدة و”القوات” أن تميز نفسها عن كتائب آل الجميل التاريخية، وأن ترفض خيارها السياسي المعلن (الحل العربي) مؤكدة الانتماء إلى الحقبة الإسرائيلية ومستحضرة الإسرائيلي كشيك في القرار السياسي بلبنان، ومن خلال أعلى موقع في السلطةن وبقوة أهم تنظيم مسلح “على الأرض”.
وهنا، بالتحديد، كانت تكمن بذور الانتفاضة التالية في “القوات” التي هزت يقينها الإسرائيلي أحداث جسام أولها اغتيال بشير الجميل بعد انعطافته الحادة التي استهدفت التحلل من الارتباط الكلي بالأهداف الإسرائيلية، وآخرها إسقاط اتفاق 17 أيار، مروراً بحروب الجبل والضاحية وبيروت.
كانت ريح السياسة قد بدأت تعصف بهذا التنظيم الحديدي، وأخذت قياداته وشعاراته وخياراته السياسية تتهاوى بعد كل فشل جديد، مفسحة في المجال لاقتحام الأسئلة الكبرى والمقلقة هذا الحصن المغلق والمتنع على الأفكار والتفكير بطبيعة تكوينه.
فالتنظيم الذي أراده بشير حزبه الشخصي، وأراده الإسرائيلي معتمده ورديفه العسكري، قد انتهى بعد سنتين من غياب قائده إلى جسم ضخم بلا رأس وبلا هدف محدد: يملك الكثير من السلاح ولكنه لا يعرف أن يستخدمه، ولا يملك إلا القليل من العلاقات السياسية التي لا تنفعه في التحول السريع إلى حزب جديد، وهو يريد الافتراق عن الكتائب ولكنه لا يستغني عن غطائها السياسي، ويريد الحوار مع الأطراف السياسية الأخرى، وصولاً إلى دمشق، ولكنه لا يستطيع أن ينجح في سباق الحواجز التي تعاون أمين الجميل والكتائب مع الإسرائيليين على إقامتها في وجه الطامحين للوصول إلى السلطة على حساب “القيادة التاريخية” و”المؤسسة – الأم” والحليف الكبير الذي قام بدور “الأب الصالح” لفترة طويلة.
وإذا ما أعدنا قراءة أحداث الفترة بين 12 آذار1985 و10 آب 1986، مروراً بانتفاضة 9 أيار 1985 وانقلاب 15 كانون الثاني 1986، لاستوقفتنا الدلالات الآتية:
*كانت “الانتفاضة” الأولى خروجاً كاملاً من “بيت الطاعة” العائلي بالاستناد إلى تأييد الإسرائيلي في مواجهة أمين الجميل المندفع أكثر مما يجب في اتجاه دمشق،
*وكانت “الانتفاضة” الثانية محاولة للخروج من أسر التحالف مع الإسرائيلي بالاستناد إلى تأييد سوريا وحلفائها المحليين، مع استعداد لبناء علاقة جديدة مع أمين الجميل والكتائب من موقع التمايز… فإيلي حبيقة ومن معه كانوا بصدد تحويل “القوات” إلى حزب سياسي جديد، وكانوا يعملون جدياً لتغليب السياسة على العسكرية في التنظيم الذي لم يكن إلا عسكرياً في ماضيه كله.
*أما “الانتفاضة” الثالثة فكانت انقلاباً عسكرياً تقليدياً على القيادة السياسية لـ “القوات”، ثم بدعم مباشر من أمين الجميل وبتأييد علني من إسرائيل، لضرب التوجهات السياسية لقيادة إيلي حبيقة التي اتخذت صياغتها الأخيرة في “الاتفاق الثلاثي”.
كان أمين الجميل يريد استعادة موقع “الزعيم الأوحد” أو “الزعيم الأقوى” بين الموارنة والمسيحيين، فتحالف مع الأكثر إسرائيلية داخل “القوات” ليضرب من اعتبره “الأكثر سورية” والأوثق علاقة بالتحولات الجديدة داخل “المجتمع المسيحي” والبلاد عموماً.
وسمير جعجع ارتضى التحالف مع “الأقل سورية” مفترضاً أن الخلاص من إيلي حبيقة يدفعه هو إلى تصدر واجهة الزعامة الماورنية (والمسيحية) باعتباره المخلص من خطر الذوبان في المحيط العربي المتخلف!
*وبهذا السياق فإن “الانتفاضة الرابعة – التي دبرها ورتب أمورها أمين الجميل تجيء وكأنها محاولة لضرب الأكثر إسرائيلية ليبدو الشيخ أمين وكأنه “الأكثر عروبة” بين مسيحيي الكتائب و”القوات” جيمعاً، وصاحب الفضل في تخليصنا من الإسرائيليين أو لجمهم وكبح جموحهم في انتظار جولة أخرى حاسمة، على أقل تقدير.
لكن “الانتفاضات” لن تتوقف. فـ “القوات” شأنها الآن شأن أي جيش تسيس وافتقد الوضوح في أهداف قيادته السياسية، وصلابة التحالفات والشعار أو المشروع السياسي المطروح.
ثم إن “القيادة” قد باتت مشاعاً يستطيع أخذها بوضع اليد كل قادر على النزول إلى الشارع قبل غيره من الطامعين أو الطامحين.
يأخذها جعجع من فادي أفرام، ثم يحاول أخذها فؤاد أبو ناضر بحق الشفعة، وحين تصل إلى إيلي حبيقة يهجم جعجع لأخذها بقوة السلاح ومن فوق جثث المئات من “القواتيين”، وهكذا لا يتورع شخص بلا تاريخ كمارون مشعلاني (مجرد حارس شخصي لبشير الجميل) من محاولة أخذها، ليبرز مرة أخرى فؤاد أبو ناضر مستحضراً معه إيلي حبيقة في مواجهة القيادة المهتزة الآن بفعل الصدمة والعجز عن وقف مسلسل “الانتفاضات” المتتالية.
إلى أين تسير “القوات”، وأين يقف حزب الكتائب الآن، وهل سيستطيع أمين الجميل، وهو الطرف الأساسي في الصراع أن يوقف هذا الصراع أو أن يجير نتائجه لمصلحته مستفيداً من كونه على رأس السلطة “الشرعية” وبالتالي “القائد الأعلى للجيش” ، جيش الدولة الرسمي أو ما تبقى منها ومنه؟!
من الملفت أن قدامى الكتائبيين (جوزف أبو خليل، مثلاً) يحرضون قيادة “القوات” على تحويل تنظيمها العسكري إلى حزب سياسي مقطوع الصلة بالكتائب ومتميز تماماً عنها.
وفي الوقت نفسه فإن جعجع يهدد بإعلان تنظيمه “جيشاً” لا حزباً، والاسم جاهز: “الجيش المسيحي الحر”، ولالاته لا تحتاج إلى شرح، خصوصاً مع استذكار تجربة سعد حداد ومن ثم أنطوان لحد الإسرائيلية في “جيش لبنان الحر”.
والانشقاق في حزب “متقاعد” كالكتائب صعب جداً، فالقدامى يحرصون على ذكرياتهم من الاندثار، والجدد أعجز من أن يحلموا بما يتعدى نطاق الحزب – الطائفة،
أما “القوات” فجسم قابل للتشظي وليس فقط للانشقاقات والانشطارات، لأنها ابنة شرعية للحرب المتعددة الأشكال والوجوه والاستهدافات السياسية،
بل إن “القوات” تكاد تبدو وكأنها “بل” كل الحروب التي شهدناها على امتداد السنوات العشر، ثم إنها “بطل ” إبادة الفلسطينيين، انتهاء بأنها الأم الآكلة أولادها من “القواتيين”.
وهواة الإحصاء يرون إن “القوات” قد تسببت، مباشرة أو غير مباشرة، في قتل أعداد من الموارنة الأقحاح يزيد عن مجموع المسلمين الذي قتلتهم سواء في المعارك المباشرة أو عبر عمليات الخطف (فمن إهدن إلى الصفرا إلى حرب الجبل فإلى شرق صيدا ثم الإقليم وصولاً إلى مذبحة 15 كانون الثاني في بيروت وضواحيها وانتهاء بأحداث الأسبوع الماضي، يمكن احتساب بضعة آلاف من الضحايا الموارنة لا بد من اعتبارهم شهداء “القوات” سواء أكانت التنظيم الماروني الحديدي أم “الجيش المسيحي الحر”، وغالباً بقيادة سمير جعجع ذاته)…
ومثل هذه الحروب ، ومعظمها انتحاري وبلا أفق، لا بد أن ينتهي ببطله أو أبطاله إلى التمزق والتصدع والانهيار… فالطائفية لا تكفي مبرراً لحرب بلا نهاية ضد الشعب ذاته، بل وضد الطائفة ذاتها ودولة الطائفة وحزب الطائفة والجيش الذي اعتبر باستمرار جيشاً للطائفة.
وهذا الكلام ينطبق على التنظيمات الطائفية عموماً في الشرقية كما في الغربية،
وهو ينطبق أساساً على العلاقة بين الطائفية والسلطة والشرعية.
فلقد ثبت، بالدليل الملموس، إن الأكثر طائفية لا يصلح لأن يكون رئيساً حتى لو أحاط نفسه بوزراء هم الأكثر طائفية في بيئاتهم.
وثبت إن الطائفي قد ينجح في أن يقود ميليشيا تسهم في تهديم مقومات الدولة والبلاد والروابط الطبيعية بين أبناء الشعب الواحد، ولكنه لا يصلح لأن يبني وطناً ولا لأن يسهم في صياغة حل وفي إنهاء حرب لإقامة سلام وطني.
فالطائفية تقتل الأوطان والأحزاب والتنظيمات والأفكار ولا تحييها.
وهذه قاعدة تنطبق على جميع الطائفيين في كل مكان وزمان.
وبقدر ما تنهار التنظيمات والمؤسسات الطائفية في جهة فإنها ستنهار أسرع وبقوة اندفاع أعظم في الجهة الأخرى، والعكس بالعكس،
وفي انتظار الانهيارات التالية، والعظيمة الدوي، في المؤسسة الطائفية الأعتى والأعرق، سيظل المفتقد الأساسي المشروع الوطني الذي وحده يصلح لأن يكون البديل عنها (وعنهم) جميعاً.
ذلك حديث آخر، على أي حال.

Exit mobile version