لم يحدث في تاريخ لبنان إن كان للحكم فيه مثل هذا القدر من المشاكل مع العاصمة والجهات والطوائف جميعاً،
فأمين الجميل الذاهب إلى دمشق غداً له مشكلة كبرى مع بيروت وفيها، ومع الضاحية التي دمرها حقد العجز عن امتلاكها بالقهر، ومع الجبل، ومع الشمال، ومع البقاع… أما الجنوب فله مع رئيس الجمهورية قضية تستحق وقفة طويلة ومحاسبة جدية تبدأ بالمفاوضات وعقد اتفاق 17 أيار مع العدو الإسرائيلي ولا تنتهي بقرار إلغائه.
وأمين الجميل الذاهب إلى دمشق له مشاكل مع كل طائفة على حدة، ثم مع الطوائف مجتمعة: من الدروز إلى الشيعة فإلى السنة فإلى عموم المسيحيين ممن لا يقولون قول الكتائب ولا يأتمرون بأمر “القوات اللبنانية”، إضافة إلى مشاكله المباشرة مع الكتائب و”القوات” والتي يطيل الحديث عنها عادة،
كذلك فلهذا الحكم مشاكله مع أجهزته: مع الجيش كمؤسسة تعتبره المتسبب في انشطارها على ذاتها في فقدانها لدورها الوطني وفي الاتهامات بالتحيز التي تسد عليها طريق المستقبل، ومع مؤسسة رئاسة الحكومة التي سلبتها المراسيم الاشتراعية الكثير من الاختصاصات وحقوق الإشراف على سير عمل الدولة، ومع الوزارات التي تعتبر إنها تفهت وقزمت وصارت مجرد دوائر ملحقة بالمجالس المتعددة الاختصاص التي أنشئت وسلمت إلى أهل الحظوة.
حتى مع مجلس النواب إياه يعاني الحكم أزمة الثقة في العلاقة تكاد تعطل التواصل الضروري وتلغي دور هذه المؤسسة التي لا تستحضر إلا للبصم بالموافقة على ما تقتضيه “مغامرة الإنقاذ” ثم تختفي أو تخفى أو تعطل بعد ذلك،
.. فماذا تستطيع دمشق أن تقدم لهذا الحكم من حلول؟! واين يتمركز بالضبط حقه عليها بالمطالبة، وإلى أي مدى يمكنها أن تصل بالاستجابة؟!
حسناً، يمكن لأمين الجميل أن يقول في دمشق: لقد ألغيت اتفاق 17 أيار مع العدو الإسرائيلي، وأخذت بالخيار العربي (أي السوري)، فهاتوا أيديكم معي وتحملوا مسؤوليتكم القومية بالمساعدة على الحل،
ولكن يبقى ثمة فرق كبير وخطير بين المساعدة على حل المسألة اللبنانية وحل مشكلة أو مشاكل أمين الجميل مع العاصمة والمناطق والطوائف والأحزاب والقوى ومؤسسات الدولة جميعاً!
وإذا كانت دمشق معنية بأساس الموضوع فلا نظنها تعتبر نفسها معنية بتفاصيله المتشابكة والمعقدة والمتداخلة والمكونة الدائمة لمزيد من الرمال المتحركة القادرة على ابتلاع أي جهد وأي مبادرة تنزلق إلى محاولة الإحاطة بالتفاصيل الكاملة ومعالجتها موضعياًز
أساس الموضوع: هوية لبنان، وبالتالي موقعه من وفي محيطه، ودوره في معارك أمته وحقوقه عليها، ومن ثم صيغته السياسية الداخلية التي تحفظ له الهوية والموقع والدور والحقوق بما في ذلك حق السبق في مجالات عديدة بينها الحرية والديموقراطية والتقدم من خلال قدرة شعبه على استيعاب روح العصر.
هذا ما يعني دمشق، ومن خلاله كانت معركتها ضد اتفاق 17 أيار، وكانت تحالفاتها مع القوى الوطنية في لبنان التي قاتلت ضد المفاوضات وضد الاتفاق وضد السياسة التي أدت إليه، وهي السياسة التي وصمت بالفئوية والهيمنة.
فالمعركة ضد اتفاق 17 ايار مع العدو الإسرائيلي معركة قومية بالضرورة، لأن الاتفاق بذاته طور جديد في الصراع العربي – الإسرائيلي وكذا المعركة لإسقاطه، ومن واجب سوريا (وكل بلد عربي) وليس فقط من حقها أن تشارك فيها حتى بالقوة المسلحة إذا لزم الأمر، انطلاقاً من موجبات قومية كما من ضرورات السلامة الوطنية لسوريا ذاتها..
أما معارك الحكم ومشاكله وخلافاته مع الطوائف والمدن والجهات والقوى فلا شأن لدمشق بها إلا بقدر ما تؤثر على “الصيغة” العتيدة، وبالتالي على احتمالات الحل الذي قالت دمشق قول اللبنانيين فيه بأنه لا يكون إلا على قاعدة الوفاق الوطني،
وبهذا المعنى يتفق اللبنانيون عموماً مع دمشق في أن الوفاق الوطني هو “هدف استراتيجي”، لهم ولها، ولكن كيف الوصول إلى هذا الهدف؟!
الحكم يقول: بتشكيل حكومة ، اتحاد وطني إذا أمكن، أو ممثلة للأقطاب إذا تعذر اشتراكهم بأشخاصهم، وإلا فيتم “تعويم” الوزان ومن معه ريثما يصبح الاتفاق ممكناً، وبهذا تصبح دمشق المعنية والمطالبة بالضغط على “أقطاب المعارضة” ليدخلوا في حكومته الجديدة ، أو للتسليم بحكومته القديمة المرقعة المستقيلة العائدة عن استقالتها والمستنكفة في انتظار إعادة تعويمها، وقد عز الرجال!
أما الآخرون فيقلون: بالصيغة، صيغة النظام والحكم المكرسة والمثبتة لهوية لبنان وموقعه ودوره… فإذا ما تم التفاهم على الصيغة وقع الوفاق الوطني كنتيجة منطقية لها، وعلى قاعدة هذا الوفاق وتوكيداً له تشكل اللجنة التأسيسية والحكومة.
أما وقف اطلاق النار والفصل بين القوات والمناطق العازلة بالمحاضر والخرائط وجلسات الليل الطويلة فليست أكثر من تمهيد أولي ليمكن بدء الحوار حول الصيغة في جو طبيعي لا يفسده الابتزاز بالقصف العشوائي، ولا تعكره المهاترات المستهدفة طمس المسؤوليات وإخفاء المتسببين في وصولنا إلى الوضع المأساوي الراهن.
هي الصيغة إذن، المطلب والمنطق وأساس الحل،
وهي هي التي توجهنا إلى المعارضة مطالبينها بها عبر المطالبة بالبرنامج الوطني الشامل، الذي نفترض أنه لا بد أن يحدد هوية الوطن وحقوق المواطنين وواجبات الحكم ودور حكومته والمؤسسات جميعاً وطريق المستقبل في هذه المرحلة الواضحة المعالم والمصاعب والثقيلة الأعباء.
وبديهي إن دمشق المعنية بسماع ما لدى الحكم حول الصيغة، معنية بالقدر ذاته بسماع ما لدى المعارضة، خصوصاً وإن هذه المعارضة المسلحة الآن والقوية بقدرتها على التعبير عن مطامح فئات عريضة من الشعب (حتى لا نقول أكثريته)، ما كانت لتقوم أصلاً وما كانت لتستقطب وتتولى المسؤولية المباشرة عن العاصمة وبعض جهات البلاد، لولا تورط الحكم في سلسلة من الأخطاء نسفت صيغة الماضي من دون أن تقدم للناس أي تصور لصيغة بديلة تضمن المستقبل وتحميه من آثام الحرب الأهلية وانعكاساتها المدمرة.
فالصيغة هي الخاتمة المنطقية لهذه الحرب، وهي إعلان نهاية للمعارضة المسلحة، تماماً بقدر ما هي إعلان نهاية للدولة الشوهاء القائمة والوضع الشاذ في سدة الحكم، وبداية تاريخ جديد للدولة العتيدة، دولة كل اللبنانيين، بكل طوائفهم وبكل مناطقهم وبكل طموحاتهم وتطلعاتهم إلى مستقبل أفضل.
والصيغة شأن قومي إضافة إلى كونها الشأن الوطني الأول والأهم، وبهذا المعنى فإن دمشق معنية بها وستتحمل مسؤولية تاريخية عنها، خصوصاً وإنها تمثل اليوم وإلى حد بعيد العرب جميعاً، وربما أكثر مما كانت سنة 1943.
وسيكون على دمشق أن تتحمل ملاحظات العرب خارج لبنان، كما سيكون عليها أن تتحمل ملاحظات اللبنانيين الذين سيحمل غدهم ملامح هذه الصيغة التي سيعيشون فيها وبها… هذا بالإضافة على تأثيرات الدول العظمى والقوى المؤثرة في المنطقة وبينها العدو الإسرائيلي.
ومثل هذه الصيغة تحتاج عناية فائقة من دمشق، وتحتاج إشراكاً لأوسع قطاعات اللبنانيين في المداولة والرأي والحوار، ومن هنا فإن اللجنة التأسيسية تشكل الإطار الصالح وفترة الستة أشهر قد تكون كافية،
ولكن ما لا يجوز هو أن يتم الخلط بين مشاكل الحكم ومشاكل الوطن وتصوير الأولى وكأنها الثانية، وإعطاؤها مركز الصدارة في الاهتمام، ومحاولة فرض أي حل جزئي أو مبتسر أو مرتجل، بوهم إن إراحة الحكم تؤدي بالضرورة إلى تحقيق راحة الوطن والمواطنين.
أكثر من هذا: إن الحكم ذاته هو بعض مشاكل الوطن ومصدر بعضها الآخر، وإن كان مفهوماً إنه ليس مسؤولاً عنها جميعاً بكل تلافيفها وتعقيداتها وتشابكاتها منذ بداية الحرب وحتى اليوم،
وواجب دمشق مساعدة لبنان، والحكم فيه بقدر ما تشكل مساعدته تعجيلاً في توفير حل حاسم للمسألة اللبنانية برمتها.
لكن الحكم، وفي هذه اللحظة بالذات، ليس لبنان.. أو إنه ليس كل لبنان وقد لا يكون حتى أكثريته،
قد لا تستطيع المعارضة أن تقول إنها هي لبنان، ولكنها بالتأكيد تستطيع القول والإثبات إنها تمثل فيه ومنه أكثر مما يمثل الحكم حتى لو سانده حزب الكتائب و”القوات اللبنانية” و”الجبهة اللبنانية” وسائر التفرعات.
ولا بد من دور ومن رأي لهؤلاء جميعاً في الصيغة، ولكن ليس من حق أحد أن يضعها منفرداً أو أن يحاول فرض تصوره على الآخرين، لا بقوته الذاتية ولا بقوة تحالفاته السياسية.. فإذا لم يكن من حق المعارضة المتحالفة مع دمشق ذاتها أن تتفرد، فكيف بالمتعامل أو المتحالف مع العدو الإسرائيلي والمصرح علناً بأن إلغاء اتفاق 17 أيار إلغاء للبنان أو بأن عروبة لبنان خرافة وخضوع للابتزاز السوري؟!
إن واجب دمشق ينتهي عند إيصال اللبنانيين إلى التفاهم على الصيغة، وإسكات المدافع المعادية، أما ما بعد ذلك فهو بالمطلق مهمة اللبنانيين أنفسهم، وليعنف صراع الآراء والمعتقدات ضمن الأصول الديمقراطية ما شاء، فليس ثمة من خطر طالما إن لا صراع بالسلاح، ولا بمد اليد إلى العدو.
والمدخل إلى الصيغة في دمشق كما في بيروت هو الجنوب وليس الحكومة بأي حال… ويفترض بالحكم أن يعرف ذلك جيداً، فهو ما استطاع الوصول إليها إلا عندما تراجع عن خطيئته المميتة التي زادت المخاطر على الجنوب ولبنان كله.
وصحيح إن الرجوع عن الخطأ فضيلة، ولكن الفضيلة ستنتظر طويلاً قبل أن تكتمل.. وأول شروط اكتمالها أن يحل هم الوطن محل هم الحكم في أي بحث حول صيغة لبنان المستقبل، في أي مكان وزمان، وأساساً في دمشق التي تربطها ببيروت صلة رحم لم تؤثر فيها إلا القطيعة في الماضي ولا التهديد من واشنطن بالقصف المقصود!