طلال سلمان

على الطريق عروس عصر الأحزان!

عاش الحلم ثمانية عشر ربيعاً فقط ثم تناثرت أوراقه الخريفية كأجنحة فراش مسها لهب الهزيمة فإذا هي فتافيت ورد وقرنفل وزنابق موشاة بالأحمر المتوهج بالإشعاع الأخير،
بين خريفين عاشت هنادي عادل عيتاني حتى ليمكن تحديد حياتها بتاريخين ناهشين للأحلام الربيعية: رحيل جمال عبد الناصر وانعقاد “قمة الملك” غير العادية في عمان.
… وفي يومها الأخير كانت هنادي عادل عيتاني تستمع بدهشة إلى طبول الأخبار تقرع مدوية فتعلن إن حكام العرب قرروا – أخيراً – ممارسة سيادتهم وذلك بإعادة سفاراتهم إلى القاهرة، حتى لا يظل العلم الإسرائيلي وحده يرفرف في فضائها الواسع!
كانت هنادي عادل عيتاني تتساءل بسذاجة: لماذا يذهب هؤلاء، الآن، إلى القاهرة، ولم لم يذهبوا إليها من قبل حين كانت تناديهم، تستنخيهم، تستحلفهم بكل مقدس أن يمنعوا اللصوص من سرقة النيل والأهرامات، أو أن يمنعوا القتلة من اغتيال الإمام الحسين والسيدة زينب وصلاح الدين وأحمد بن طولون والظاهر بيبرس وقطز، ومحمد علي وأحمد عرابي وسعد زغلول وسيد درويش وأمل كلثوم وعبد المنعم رياض وآلاف آلاف الشهداء الذين غرسوا أجسادهم في رمال سيناء وعلى تخوم فلسطين ليقولوا – بدمهم – إنها أرضنا، نبقى فيها إن لم نستطع أن نبقيها بلون بشرتنا؟!
ولعل هنادي عادل عيتاني قد توقفت اللحظات، وهي تعبر الردهة في الطريق إلى المصاعد، أمام عناوين الصحف المعروضة لعيون زوار مستشفى الجامعة الأميركية، فقرأت أسماء “العائدين” إلى القاهرة المغيبة هويتها والدور والمعنى، لعلها تستشف – عبر ألقاب الجلالة والفخامة والسيادة والسمو والمعالي والسعادة – ما يطمئنها إلى أن القاهرة ستستطيع الاستمرار، بشكل ما، بعد أن يطبق عليها هؤلاء،
فهنادي عادل عيتاني كانت تعرف إن عصر الأحزان العربية، وبيروت صورته وعنوانه، لن ينتهي إلا مع عودة القاهرة، إلى موقعها في القلب والوجدان وراية التحرير والوحدة.
… وهي كانت وعدت نفسها بأنها ذاهبة، قريباً، إلى القاهرة.
هي، عروس أميرة الحزن، ستعرف الفرح أخيراً في عاصمة الفرح العربي، وستدور بين معالمها التي تحفظ مواقعها عن ظهر قلب تتفقدها وتطمئن على الناس فيها، خصوصاً أولئك الذين يعيشون متلاصقين مع الموت والموتى في المقابر، أو أولئك الذين يعومون وهم لا يعرفون السباحة في مراكب الصيد على ضفتي النيل الصامت بوقع الهزيمة.
ولعل هنادي عادل عيتاني قد تابعت طريقها نحو المصاعد لزيارة عمها المريض يتقدمها حلمها فيأخذها إلى البعيد، إلى ما بعد الحرب والقتل والأرض اليباب.
ذلك إن أشلاء حلمها كانت تغطي أشلاءها هي بعدما دوى الصوت الرهيب للقتل فملأ المساحة كلها بنثار البشر والورد وصورة القاهرة – الوعد.
لم يتبق الآن، من هنادي عادل عيتاني غير نتف الأحلام وجبال الأسئلة المهجورة، كبيوت خطوط التماس، بلا أجوبة ولا مجيبين…
لقد قتلها الذين اغتالوا طيف المستقبل، في القاهرة كما في بيروت.
قتلها الذين لم يذهبوا إلى القاهرة ليقاتلوا معها العدو، وتركوه يجتاحها ويأسرها ويرهن من خلالها إرادة الأمة وحركتها وقدرتها على ممارسة وجودها،
ثم ذهبوا إليها والإسرائيلي فيها، يذلها كل يوم ألف مرة، يجبرها على التنكر لذاتها، لأهلها، لنيلها وشمسها ومواويل الشجن،
فلو كانت القاهرة طليقة اليد والإرادة لما تمكن القتلة من اغتيال هنادي عادل عيتاني ورفاقها الكثر في بيروت وسائر أنحاء لبنان وفلسطين…
وصولاً إلى العراق والخليج الذي حولوه إلى بحيرة أميركية!
قتلها الذين ضنوا على القاهرة بحفنة من الدولارات، هي التي أعطتهم نهراً من الدماء، وأعطتهم ما هو أغلى وأبقى: أسباب الاتصال بالحضارة والكرامة وروح العصر والحرية… واسباب استمرار تدفق الدولارات عليهم مطراً أخضر لا ينقطع!
فالإسرائيلي ما كان ليدخل بيروت لو لم يفتح له أبناء الليل أبواب حصون القاهرة، التي كان يحاصرها ويضيق عليها أبطال ممارسة السيادة في قمة الملك بعمان…
… أمس، ليلاً، قطعت الاذاعات برامجها ليعلن مذيعوها من خلال لهاث التعجل والانبهار بسقوط الحد بين الحلال والحرام، خبر القرار السعودي بإعادة العلاقات مع حسني مبارك،
المملكة تفضل التأني، وتترك للآخرين أن يسبقوها إلى ارتكاب الفعلة، ثم تتقدم معتذرة بأن لا حول ولا قوة إلا بالله، وإن لا بد مما ليس منه بد، وإنها إنما تكمل أمراً تم بالفعل وبغير إرادتها ولا تباشره،
لكن الاذاعات لم تقطع برامجها لتعلن إن عروس أميرة الحزن لم تعد إلى بيتها، لأن القتلة الذين اغتالوا المستشفى ومرضاه وزواره والورود التي يحملونها، قطعوا عليها طريق العودة كما قطعوا – الآن، أو إنهم يحاولون أن يقطعوا – على القاهرة طريق العودة إلى ذاتها، إلى دورها، إلى تاريخها، إلى هويتها، إلى أمتها التي ستظل “قيد التأسيس” حتى تستعيد القاهرة وتستعيدها القاهرة.
… وحلم هنادي عادل عيتاني يرف، بعد، بجناحات الفراش على امتداد الطريق بين مستشفى الجامعة الأميركية ومطار بيروت يخطر بين الضحايا هنا وهناك، يقترب من كل طائرة إلى حد الملامسة، فيسأل عما إذا كانت وجهتها القاهرة ليبعث معها الاعتذار عن الموعد الذي اغتيل مرتين: مرة في بيروت، ومرة أخرى في القاهرة.
… وسنبقى، نحن الضحايا، في بيروت والقاهرة وسائر العواصم، ننتظر العيد الذي لن يشارك فيه أي من أصحاب الألقاب المفخمة ممن نابوا في عمان عن العم الأميركي في تعميم خيرات الصلح المنفرد، إذ نثروا دم كمب ديفيد على العرب جميعاً حتى لا يبقى بينهم بريء إلا… الخارج على إرادتهم!
وعيدنا آت، مهما حاولوا سد طريقه إلينا، أو طريقنا إليه بالصعب والشوك والجمر والعذابات التي لا تنتهي،
فالقاهرة أمنا، القائدة والرائدة عائدة، عائدة، عائدة… نعرفها وتعرفنا، تضمنا ونضمها بخلجات النفس، وهي أقوى من الذاهبين إليها الآن حتى يؤخروا عودتها ما استطاعوا،
وفي غد سنحتفل بعودتها، وسننثر جواهر تيجانهم على أقدامها، وسيطوي النيل، بسمرته المنسوجة بالصمت المهيب، آثار أقدامهم جميعاً وصفحات الذل والعار التي فرضوها علينا،
… ولعلهم، بهذه الهجمة المحمومة، قد قربوا الموعد،
ومؤكد إن القاهرة تستعجل أن تلاقي حلم هنادي عادل عيتاني فتطلقه ليكون ضمن صورة الغد الأفضل الذي سيحمل بعضاً من ملامحها: ملامح عروس أميرة الحزن التي لما تستطع الوصول إلى عاصمة الفرح العربي الموعود.

Exit mobile version