طلال سلمان

على الطريق عرفات واشنطن وعرفات القاهرة!

حين عزم أنور السادات على ارتكاب فعلته بالصلح المنفرد مع العدو الإسرائيلي، تنادى حكام العرب إلى قمة الحد الأدنى الشهيرة في بغداد، لتدارك الكارثة أو… لإنقاذ ما يمكن إنقاذه!
كان رد فعلهم الأول أن أوفدوا إليه سفارة برئاسة الدكتور سليم الحص، رئيس وزراء لبنان آنذاك، مكلفة بمساومته على قراره المعلن، فإذا ترك ذلك الأمر نقدوه وعداً بخمسة مليارات دولار، فكان إن رفض استقبال الوفد والوعد،
… فلما أبى واستكبر وأصر على موقفه الملعون عاقب حكام الأقطار العربية الأخرى مصر فقاطعوها وأدرجوا شعبها على القائمة السوداء، وسحبوا سفراءهم منها وقرروا نقل مقر جامعة الدول العربية من قاهرة المعز، إذ لا تجوز أن تكون جامعة العرب حيث يرتفع علم العدو القومي بنجمة داوود فيه… وكفى الله المؤمنين شر القتال بهذا القرار الهزيل الذي يفترض نقل جامعة الدول العربية تأديباً للحاكم الناشز في أرض الكنانة!
ولقد تناتش حكام العرب تركة الجامعة ومؤسساتها التي كانت ذات يوم “إعلان نوايا” بالتوجه نحو قدر من الوحدة، بل من المصالح المشتركة، سواء على الصعيد الاقتصادي أو الثقافي أو الإعلامي أو الشعبي عبر الاتحادات المهنية التي كان يفترض أن تشكل النواة للسوق العربية المشتركة أو للوحدة الاقصتادية أو لوحدة أداة العمل، وهذا أضعف الإيمان.
أمس، كان المنظرمثيراً للشجن في مبنى الجامعة الذي يستظل الراية الخضراء والآية الكريمة القائلة “وكنتم خير أمة أخرجت للناس”، ويقوم على أنقاض ثكن جيش الاحتلال البريطاني لمصر ما قبل الثورة، والذي دشنه جمال عبد الناصر شخصياً قبل ثلاثة عقود من الزمان تقريباً،
لقد دار الفلك دورة كاملة: فضيف الشرف في الدورة المائة هو رئيس منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات القادم لتوه من واشنطن حيث وقع في البيت الأبيض وثيقة الاعتراف بإسرائيل وصافح قتلة شعبه وتنازل عن حقه التاريخي في أرضه، إلا ذلك الشبر في أريحا، والغى الانتفاضة وقطع علاقته بأمته وتضحياتها،
وأمين عام الجامعة العربية الدكتور عصمت عبد المجيد، الذي كان بين رجال الصف الخلفي بينما السادات يرتكب “الكبائر” في كامب ديفيد، يقف مرحباً بصاحب التوقيع الثاني على الصلح المنفرد، مع تميز عن السادات بأنه “الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني”، أي لصاحب “القضية”، شكلاً!
… ورؤساء الوفود، بمعظمهم، سعداء بهذا الإنجاز التاريخي، يصفقون لبطله الفذ الذي أقدم على ما لا يمكن أن يقبله غيره، فهو قد أراحهم وأزاح عن كواهلهم عبئاً ثقيلاً لم يكونوا يعرفون سبيلاً إلى التملص من موجباته!
لا لوم عليك ولا تثريب يا ياسر عرفات، فلقد فعلت ما كان يتوجب عليك الإقدام عليه منذ خمس عشرة سنة أو يزيد، ولكن لا بأس، فإن تصل متأخراً خير منألا تصل أبداً!!
ومن يجرؤ على لوم ذلك الذي اكتشفه البيت الأبيض أخيراً فاستضافه، وقدمه سيد الكون إلى الكون كله داعياً إلى موالاته ومساندته ودعمه، مقرراً أن من يعاديه إنما يعادي واشنطن وبيل كلينتون بالذات!
وسط هذا الجو الحميم وقف “أبو عمار” خطيباً فقال كعادته الكثير مما هو غير دقيق أو غير صحيح بالمرة أو غير مقصود بمعناة وإنما له وظيفة تخدير “الجماهير” بتزيين الانحراف ونقله من “عورة” إلى “وجهة نظر” فإلى سياسة عاقلة وحكيمة لأنها تأخذ العوامل الموضوعية بعين الاعتبار!
وليس مهماً ذلك “الفشر” الذي تضمنه خطاب عرفات أمام المجلس الوزاري لجامعة الدول العربية، ولا هي مهمة تلك المغالطات أو المزايدات الممجوجة التي أطلقها أمام ذلك النفر من المتواطئين بغالبيتهم معه،
المهم أن من استمع إلى ياسر عرفات خارج تلك القاعة التي رصفت مقاعدها على شكل حدوة حصان، كان مضطراً إلى إجراء مقارنة متعجلة بين خطابه في “اللحظة التاريخية” وأمام العالم كله في البيت الأبيض بواشنطن، وبين هذا الكلام الموجه إلى “الدهماء” في فلسطين المحتلة وسائر أرجاء الوطن العربي مباشرة،
والمقارنة بين الخطابين تنتهي إلى واحد من أمرين أو إلى كليهما معاً:
1 – إما إن ياسر عرفات يستغفل العرب (ومن ضمنهم الشعب الفلسطيني) ويعاملهم كأطفال قصر لا يفقهون معنى الكلام، فيوجه إليهم ما تستطيع عقولهم الصغيرة أن تستوعبه، أو بالأحرى ما يدغدغ عواطفهم وتمنياتهم الكسيح،
2 – وإما أن عرفات يستغفل العالم كله، وعلى رأسه السادة الأميركان بقيادة بيل كلينتون، ويستغفل بشكل خاص ذلك المحارب العجوز إسحق رابين الذي قاتل الأمة كلها لمدة قرن كامل حتى اطمأن إلى انتصاره عليها فرضي بأن يهادنها فيعترف لها ببعض الحق في غزة وأريحا.
لا رابط بين الخطابين ولا جامع، فما قيل في القاهرة لا صلة له من قريب أو من بعيد بما قيل في واشنطن والذي أعلن على رؤوس الأشهاد في البيت الأبيض اتفاق دولي ملزم، وبالتالي فلا مجال للطعن فيه، أما ما قيل في جامعة الدول العربية فهو “أي كلام” وهو “لزوم الاستهلاك المحلي” وهو يفضح نظرة الحكام العرب إلى “جماهير أمتهم العظيمة”!
لقد نسي ياسر عرفات في واشنطن، وهو يتعاقد مع العالم، أن يستذكر كل هذه المعاني التي أفاض في استذكارها أمس في القاهرة: من التحرير لكامل التراب، وبما في ذلك القدس، إلى الدولة الفلسطينية التي عاصمتها القدس، على الكونفدرالية مع الأردن وعلى أرفع قواعد الديمقراطية والإرادة الشعبية الحرة بغير ضغط أو إكراه،
ونسي عرفات في واشنططن أمته العربية وعلاقتها العضوية “بقضيته”، وأنها ستدفع فواتير تواقيعه جميعاً من سلامتها ومواردها وأمنها ومن حقها في مستقبل لائق بما بذلته من أجل الوصول إليه،
بالمقابل فقد نسي في القاهرة أنه لم يعد حراً في أن يقول ما يشاء، وإن الكلام في جامعة الدول العربية يختلف عن الارتجال في قاعة جمال عبد الناصر بجامعة بيروت العربية قبل عقد من الزمان!! وما أطوله!!
نسي عرفات أنه بات مقيداً باتفاق محدد مع الإسرائيلي شهد عليه ويضمنه العالم كله (باستثماء “اقلية” عربية)، وإن ذلك الاتفاق يغفل ذكر فلسطين وعروبتها، ويسقط عمداً مستقبلها وحق شعبها في دولة، ويجعل “كيانها” الهجين مجرد واجهة محلية (وعربية) وأداة اختراق أو رأس حربة للمشروع الأمبراطوري الإسرائيلي على الأرض العربية.
نسي عرفات أنه أعطى إسرائيل “شرعية” عز عليها أن تنالها حتى بعد صلح السادات المنفرد، وأنه سلمها كامل أمره، وأعطاها قراره فباتت هي “الشريك المفوض”، باتت هي المركز وهو الملتحق، هي الدولة وهو في موقع الأقلية العرقية أو الجالية الأجنبية فيها.
إنها “بجاحة” قل نظيرها، على حد ما يقولون بالعامية المصرية.
إنه يجيء إلى “العرب” بمنطق المهاجم لا المدافع، آخذاً بنظرية أن أفضل وسيلة للدفاع هي الهجوم، واطمئنانه إلى أنهم – وهم الضالعون والمتواطئون معه والذين أوصلوه إلى ما يشبه الاستسلام للإسرائيلي – لن يفكروا بحسابه، بل إنهم – مرة أخرى – سيتسلحون بكلامه ليقولوا: لن نكون ملكيين أكثر من الملك، وطالما إن هذه هي إرادة شعب فلسطين فليكن له ما يريد والله ولي التوفيق!
وسصخيفة هي محاولة الادعاء بأن ما قاله عرفات في القاهرة إنما يتمم ما قاله في واشنطن.
وأسخف منها الادعاء بأن الداخل إلى أريحا بحراسة الحراب الإسرائيلية إنما يذهب لتحرير فلسطين من النهر (حيث أريحا) إلى البحر (حيث غزة بني هاشم).
إننا في عصر النهايات…
وهذا الذي جرى في القاهرة إعلان رسمي لوفاة جامعة الدول العربية، أقله على الصورة التي كانت عليها منذ إقامتها في العام 1945.
وهو إعلان نهائي بسقوط النظام العربي، أقله بصورته الأولى السابقة على الاتفاق الإسرائيلي – الفلسطيني.
وعرفات الذي يشكل رمزاً “للتجديد” في هذا النظام العربي المتهالك يمارس في هذه اللحظة انتقاماً مريعاً من الأمة العربية جميعاً: لكأنه يعرضها في سوق النخاسة، مستغلاً – هو الآخر – اسم فلسطين.
أليس سائداً بين الفلسطينيين ذلك المنطق العرفاتي الانهزامي القائل بأن العرب قد باعوا فلسطين مرات ومرات؟!
إن “الفلسطيني” المصالح للإسرائيلي الآن والمتحالف معه بل المتواطئ معه يعرض عليه أن يبيعه الوطن العربي كله من محيطه إلى الخليج!
الطريف أنه يملك تفويضاً رسمياً بالبيع يحمل تواقيع أو بصمات معظم السلاطين،
وما وقع في القاهرة أمس، إلى جانب ما وقع في الإسكندرية، هو بعض مقدمات العصر الإسرائيلي،
فلولا التوقيع الفلسطيني لما كان ممكناً أن يتجرأ العدو الإسرائيلي على مطالبة النظام المصري، وجهاراً نهاراً، بأن يساعده لضرب صمود سوريا ومحاولتها تحسين شروطها “لنوع ما من السلام” مع إسرائيل، على حد تعبير شبكة تلفزيون “سي. ان. ان” الأميركية.
إن الإسرائيلي يهاجم الآن سوريا ولبنان (وسائر العرب)، بالسلاح الفلسطيني، وهو فعال جداً، خصوصاً وإنه معزز بالدعم المصري وبتسهيلات لوجستية مغربية وأردنية وتونسية ناهيك بالاحتياط الاستراتيجي الذي يوفره بنادرة العرب.
إنه طور جديد من الصراع تخرج فيه الأكثرية من مواقعها الطبيعية إلى حيث خندق العدو،
لكن الأقلية تكاد تختزل روح الأمة،
وهي أقلية لا يمكن هزيمتها، لو هي صمدت،
وليس الذي وقع في بيروت قبل أسبوع مما يعزز ذلك الصمود، بأي حال!

Exit mobile version