طلال سلمان

على الطريق عرفات الثاني…

بين 13 تشرين الثاني (نوفمبر) 1974 و13 كانون الأول (أكتوبر) 1988، تغيرت صورة العالم وأي تغيير، وتبدلت أو تحورت أو أصاب التحول معطيات أوضاع وقضايا عديدة من بينها القضية المسماة – دولياً – “أزمة الشرق الأوسط” ، والتي اختفى تماماً اسمها الأصلي (القديم): الصراع العربي – الإسرائيلي.
صحيح أن ياسر عرفات الذي وقف، بالأمس، على منبر الأمم المتحدة (في جنيف هذه المرة) هو ذاته ياسر عرفات الذي خاطب جمعيتها العامة في مقرها الأصلي بنيويورك قبل ثلاث عشر سنة وشهر واحد، لكن كل من عداه قد تبدل أو تغير أو تحول، في المسرح كما في الجمهور كما في النص المعتمد.
ومن هنا هذا الاختلال البين بين خطاب عرفات الأول، الذي ألقي بعد سنة واحدة على إنهاء حرب تشرين التحريرية بالطريقة المأساوية المعروفة، وبين خطاب عرفات الثاني الذي يلقى بعد سنة واحدة على تفجر الانتفاضة المباركة لشعب فلسطين فوق أرضه.
كان “العرب”، يومئذ، ما زالوا طرفاً أساسياُ في الصراع، وإن كان السادات قد أرادها حرباً للخروج من فلسطين لا للدخول إليها، فانتهى بأن فتح مصر للاجتياح الإسرائيلي وأخرجها من موقعها ومن دورها الذي لا يعوض في قيادة نضال أمتها من أجل تحرير الأرض والإنسان،
ولم تكن مصادفة أن القمة العربية في الرباط قد فوضت وأوفدت رئيس جمهورية لبنان بالذات (سليمان فرنجية) ليطرح – باسم العرب جميعاً – قضية فلسطين من فوق المنبر الدولي الأفخم، وليقدم ممثل فلسطين ورئيس منظمة تحريرها ياسر عرفاتز
أما اليوم ففلسطين تقف أمام المجتمع الدولي، وتقدم نفسها إليه، بوصفها “أمة تامة”، تريد لنفسها شهادة ميلاد مماثلة لتلك التي سبق أن أعطاها قبل 41 سنة للكيان الإسرائيلي فوق الأرض الفلسطينية ذاتها.
لم يعد الصراع عربياً – صهيونياً، وسحبت اللغة القديمة من التداول تماماً لتترك الأمر للقرار الفلسطيني المستقل يسوي أموره بطريقته الخاصة مع المحتل الإسرائيلي لبعض الارض الفلسطينية، بحيث يسمح بقيادم دولة ثانية، دولة ما، على جانب الدولة الصغيرة العظمى القائمة فعلياً منذ 1947 “بافضال” الهزيمة العربية المتكررة.
حتى “الحلم” الفلسطيني القديم، الذي نادى به عرفات الأول عام 1974، حلم الدولة الديموقراطية المتعددة الأديان والأعراق، تم طيه والتخلي عنه، لأن الممارسات الإسرائيلية لا تعطي الأحلام فرصة التحقق، ولأن عرفات الثاني ذهب وقد تخلى عن بندقيته التي كان يحمي بها غصن الزيتون والحلم الأخضر.
على أن عرفات الثاني، الممنوع من الحصول على تأشيرة أميركية للوصول إلى مقر الأمم المتحدة في نيويورك، قد استذكر حلماً فلسطينياً أقدم بكثير، إذ هو يعود على العام 1919 حين طالب بعض وجهاء فلسطين بانتداب أميركي بدلاً من البريطاني على أرضهم.
ومؤكد أن أولئك قد طلبوا الاستقلال، فلما أفهموا أن عليهم أن يختاروا بين انتداب أجنبي (غربي) وانتداب أجنبي آخر، تمثلوا بحكمة أهون الشرين وهربوا إلى الأمر غير المطروح، وهو المطالبة بانتداب أميركي،
وللمناسبة فمن المفيد أن نشير هنا إلى أن الراحل الكبير عبد الحميد كرامي (والد الشهيد الرئيس رشيد كرامي) قد عمد هو الآخر إلى رفع المطلب نفسه حين خير بين انتداب فرنسي وبين انتداب بريطاني فطالب بالأميركي (وكانت الولايات المتحدة يومئذ تحمل راية المطالبة بتحرير الشعوب وفق مبادئ ولسن الشهيرة).
ولقد جاء الرد الأميركي على عرض عرفات الجديد سريعاً جداً، وهو كان متوقعاً على أي حال، إذ اعتبرت واشنطن أنه “لا يلبي الشروط الأميركية”.
والسؤال الآن ليس عن الخطوة الأميركية التالية بل عن الخطوة الفلسطينية التالية،
لقد قدم ياسر عرفات أقصى ما يمكنه تقديمه،
بل لعله قد زاد من التحفظات والاشتراطات على ما كان تعهد به عشية المجلس الوطني الفلسطيني الأخير في الجزائر ثم في أعقابه وصولاً إلى شروحات السويد التي قدمها لوفد اليهود الأميركيين.
من هنا، ربما، توكيده على القرار 181 (التقسيم)، وهو لم يكن موضع توكيد كاف في وثائق المجلس الوطني،
ومن هنا أيضاً مشروعية التساؤل عما استبقى عرفات من أسلحة فعالة لمواجهة ما بعد الرفض الأميركي، ولو مؤدباً واستدراجياً لمزيد من التنازلات، ناهيك عن التعنت الإسرائيلي الذي سيستمر بالقفز من فوق الواقع المتفجر أملاً بسحق الانتفاضة أو بتفجيرها من الداخل، أو بتفجير حروب من طبيعة أخرى بين “الداخل” وبين “الخارج” أو بين الفلسطينية وبين الأردنية، الخ..
لقد عرض عرفات للعد التنازلي الذي اصاب المساعي الدولية بشأن المسألة الفلسطينية منذ بيان فانس – غروميكو (العام 1977) وحتى اليوم
وعرض للعد التنازلي الذي أصاب الجهد العربي. في هذا السياق، في الفترة نفسها، وتحديداً منذ بيان فاس 1982 وحتى اليوم،
ومن المنطقي أن يأتي العد التنازلي على الصعيد الفلسطيني حاملاً حصيلة جمع التراجعات على الصعيدين الدولي والعربي،
حسن، فماذا بعد؟!
أيستمر التراجع، بحجة أن الآخرين لا يتقدمون؟
أم تتم العودة إلى أساليب أخرى في النضال، بينما تتردد في أربع جنبات الأرض أصداء أجراس الانصراف للمناضلين واصداء الدعوة للتوافق والاتفاق وفك الاشتباك بين أي مشتبكين في أي مكان في الدنيا، وبغض النظر عن الحقوق التاريخية وعن التحالفات القديمة وعن منطق هذا العصر الذي يراد له أن يكون “عصر حقوق الإنسان”؟!
وهل ترك عرفات مجالاً لمثل تلك العودة التي قد تكون ضرورية إلى سلاح آخر غير غصن الزيتون؟!
وإلى أي حد يمكن الافتراض أن الانتفاضة، بعد كل ما تعرضت له عملية توظيفها السياسي، قادرة بعد على تخطي السقف الذي أريد لها أن تبقى تحته فلا تتجاوزه كحركة مقاومة سلمية لاحتلال بز النازية والفاشستية وأفظع أنواع الاحتلال التي عرفها العالم؟!
قد يكون من المبكر الحكم،
لكن “اللعبة”، بأدواتها الحالية واساليبها المعروفة، قد شارفت على الانتهاء،
فهل تتهم العودة إلى القانون الأصلي لقضايا التحرر،
وهل ثمة مجال بعد لأن تستعيد فلسطين العرب بعدما كافحت قيادات العرب وقياداتها لأن يخرج العرب منها ولأن تخرج منهم، وكان ذلك هو الطريق إلى النصر؟!
وأي نصر يمكن أن يتحقق لقطر عربي بالذات بينما الأمة، بمجموعها مهزومة؟!
وهل تستفيد الأمة، وشعب فلسطين منها، من الدرس الجديد القديم ومفاده أن النصر يكون بالأمة لا عليها، وإن الهوية القومية شرط انتصار بينما الكيانية لا توصل حتى إلى المفاوضات،
خصوصاً وإن العدو يرى في فلسطين العرب جميعاً ولا يرى فقط أبناء الضفة والقطاع،
والكلمة، بعد، للانتفاضة التي تحرضها الغطرسة الإسرائيلية، ويكاد يجبرها الصمم الأميركي على التحول إلى ثورة عربية شاملة،
والأرض العربية تميد، من محيطها إلى الخليج، تحت هول ما حدث ويحدث خلال هذه السنوات العجاف.
وفي فلسطين ومنها تكون نقطة البداية الجديدة للتاريخ العربي الجديد.

Exit mobile version