طلال سلمان

على الطريق عام بعد التوقيع على “حكم الإرهاب الذاتي…”!

بعد عام من التوقيع على الاتفاق الإسرائيلي في أوسلو، يستطيع ياسر عرفات أن يقول: لقد نجحت، وها أنا قد عدت إلى غزة،
لكن السؤال يبقى هو هو: وأين فلسطين؟! وأين الفلسطينيون من فلسطين؟!
وشيمون بيريز يصحب وزير خارجية النروج إلى غزة مزهواً بنجاح إسرائيل في التخلص من غزة ومن الانتفاضة ومن منظمة التحرير ومن فلسطين كما استقرت على امتداد أجيال في الوجدان العربي.
لقد انتهى “الثوار” القدامى حرس حدود للاحتلال، وتبنت سلطة الحكم الذاتي المنطق الإسرائيلي بحرفيته: كل معترض إرهابي، وكل إرهاب ضلالة، وكل ضلالة إلى النار.
تمت تصفية الانتفاضة، وباتت أية محاولة للاستمرار فيها أو لتزخيمها من أجل إخراج المحتل ومن أجل توطيد سلطة الحكم الذاتي الهشة، لعباً بالنار وتهديداً للوحدة الوطنية ودفعاً بالفلسطينيين إلى أتون الحرب الأهلية.
وها هو بيريز يمنح عرفات مكافأة جديدة على نجاحه كشرطي: لقد أقطعه الإشراف على التعليم، أي الجامعات والمدارس في معظم أنحاء الضفة.
هذا معناه أن إسرائيل “فوضت” عرفات باجتثاث الانتفاضة من جذورها… ألم تكن الجامعات والمعاهد والمدارس هي البؤر ومراكز التجمع والحاضنة التي انطلقت منها الانتفاضة، مقدمة للعالم نموذجاً جديداً فريداً وغير قابل للهزيمة في مقاومة المحتل، وتظهير صورته الأصلية بحيث لا يبقى مزوراً لرائد الديموقراطية وحقوق الإنسان!
من الثورة إلى جهاز مكافحة الإرهاب؟!
هذا كثير على فلسطيني لم يحصل على الاعتراف به إلا على حساب طمس هوية وطنه، وشطب انتمائه القومي. هو الآن مخلوق أشوه، غير سوي، بلا ماض وبلا مستقبل. فلا فلسطين التاريخية بلاده، في حين أن إسرائيل التي ألغت فلسطين هي “دولته”.
بالمقابل ، يتعاون النظام الأردني مع سلطة الحكم الذاتي مع “دولة” إسرائيل على إلغاء شعب فلسطين. وفي هذا السياق، يجيء الترويج لمسألة توطين كل فلسطيني حيث هو، وضمنها ما يتردد حول فلسطينيي لبنان.
تم تمزيق الأرض “مناطق”، وها إن الجميع يتعاون على “تشليع” الشعب الواحد إلى “جاليات” أو “أقليات” تفرض عليها هوية غير هويتها الأصلية وتبعية سياسية تلغي “فلسينيتها”… بل أن هذه السياسة قد تؤدي إلى حروب متعددة بين “الجاليات الفلسطينية” المختلفة الهوية والمضاربة المصالح.
وفي غزة يقاضي عرفات المقاتل ضد الاحتلال بالمتعاون معه، ليضمن البراءة لنفسه والامتناع عن محاسبته مستقبلاً، لأنه الآن “زعيم المتعاونين” بلا منافس.
أي تطبيع هو هذا؟
إنه التحاق ذليل ومدمر للمستقبل الفلسطيني، إنه حكم الإرهاب الذاتي الفلسطيني لحساب إسرائيل،
وليس الأمر أفضل حالاً مع الأردن، فالاندفاع الأهوج نحو “التكامل” مع إسرائيل لن يضمن الحياة لـ “الكيان الأردني” أو “العرش”، إلا كمحمية يقرر الإسرائيلي شؤونها كافة: اقتصادياً وعسكرياً وسياحياً وسياسياً وتربوياً الخ.
ولكم هي محقة الأحزاب والقوى الوطنية والإسلامية في الأردن، ومعها نقابة الصحافيين الأردنيين في موقفها الشجاع ضد الانجراف في تسليم مقدرات البلاد ومصيرها إلى العدو الذي سيظل عدواً، إسرائيل.
لا مجال للتكافؤ بين “صاحب الشركة” في غزة، وبين الكيان الإسرائيلي، كائنة ما كانت الضمانات الأميركية والدولية التي تتهاوى ويتم تجاهلها بحجة تفرد عرفات وعدائيته للمؤسسات.
كذلك فلا مجال للتنافس أو التكافؤ أو التكامل بين بلد يعيش على الهبات والمساعدات كالأردن، وبين دولة قوية كإسرائيل، تفرض “الخوات” على العالم أجمع، بدءاً بالقوة الأميركية العظمى وانتهاء بآخر دولة “إسلامية”.
والفلسطيني محاصر بين مجهولين: إذا هو استطاع إسقاط الاتفاق المنفرد تخلى عنه العالم وتركه لبؤسه وفقره ونزاعاته الداخلية، وإذا هو توغل في هذا الاتفاق المسدودة آفاقه كان كمن يذهب إلى جهنم الاقتتال الداخلي بقدميه…
لقد اشترت إسرائيل طمأنينتها بورقة تافهة حولت بموجبها الفلسطيني من صاحب قضية يحترمه العالم كله ويعترف له بحقه في كيان ودولة، إلى “أقلية عرقية” تناضل من أجل بعض الحقوق المطلبية في ظل الحماية الإسرائيلية وتتسول ما يقيم أودها ويحفظ جنسها فوق الأرض التي كانت أرضها.
وإنها لسرعة قياسية في إتقان اللغة العبرية، التي يرطن بها عرفات الآن.
لقد ارتكب السادات “السابقة”، لكنه ظل يستطيع الادعاء أنه إنما أقدم على فعلته حفاظاً على مصر ودورها، وبرغم ذلك فقد دفع رأسه ثمناً لكسر الحاجز النفسي.
أما عرفات فلا يستطيع أن يبرر التحاقه بالمنطق الإسرائيلي بأي تبرير فلسطيني.
حرس الحدود ليس محرراً. وفلسطين ليست “تهريبة”، يمكن اختلاسها في غفلة من إسرائيل.
وليس عدلاً، بعد نهر الدماء الذي سال، أن يحاصر الفلسطيني بين خيار من اثنين كلاهما بائس: أما الذوبان إلى حد التماهي، مع الإسرائيلي، وأما الاقتتال الداخلي الذي يأخذ من فلسطين ولا يعطيها.

Exit mobile version