طلال سلمان

على الطريق عالم ما بعد دول العقائد!

بعد “عام التحولات” المنصرم نجد أنفسنا، مع بداية 1989، على عتبة عالم جديد كل ما فيه مختلف عما عهدناه، ولسوف يشتد هذا الاختلاف يوماً بعد يوم بأعظم مما نتوقع ونقدر، وربما بأكثر مما يشطح بنا الخيال.
لكأننا في أعقاب حرب كونية هائلة بمفاعيلها وتأثيرها على العقول والأفكار، على التاريخ وسياقه ، على الجغرافيا السياسية بكياناتها القائمة أو التي في طور التكون بعدما استحالت النطفة جنيناً وبدأ اللحم يكسو العظم المتنامي الصلابة.
لقد تكثفت النتائج الأيديولوجية والاقتصادية والعلمية والسياسية للحرب الباردة بين الجبارين اللذين ألغيا في العقدين الأخيرين ما عداهما من “القوى العظمى” حتى باتت في مستوى نتائج حرب كونية وقعت بالفعل وتركت بصماتها الثقيلة على دورة الحياة ومستقبل الإنسان في أربع رياح الأرض.
فحجم التغيير الذي يجتاح العالم، الآن، بشرقه وغربه وشماله وجنوبه، يكاد لا يحده تصور، لأن التصور ينبع من الماضي، والماضي بعيد الآن بعيد، فما كان قبل خمس سنوات يبدو وكأنه سحيق ومن موروثات حقبة موغلة في القدم… ثم إن هذا التغيير شامل يمتد إلى مختلف المجالات والقطاعات، حتى تلك التي تعودنا أن تظل مغلقة ومحظورة، كالعقائد، أو بطيئة في تحولاتها كالقيم والمفاهيم السائدة.
وبمقدار ما “صغر” العالم فقد “كبر” حجم التغيير واتخذ ابعاداص كونية، وهكذا بات مستحيلاص أن نرسم صورة للتغيير المحتمل في بلد ما، حتى لو كان جزيرة ضائعة في القطب المتجمد الشمالي، إلا إذا نظرت إليه عبر الأحداث التي تهز صورة “العالم القديم” وتمسحها وتبدلها تبديلاً جذرياً.
لنترك التعميم إلى التخصيص، ولنتخذ من بعض الوقائع الفاقعة بدلالاتها وسائل للإيضاح.
لتكن البداية حيث تتكامل الآن ملامح التحولات الشاملة أي: في الاتحاد السوفياتي، وفي الجمهورية الإسلامية بإيران، وفي الكيان الصهيوني، واستطراداً في فلسطين، انتهاء بالذي نعيشه في لبنان من دون أن تتوفر لنا الفرصة لكي نعيه تماماً ونحيط بأبعاده جميعاً.
بكثير من التبسيط المؤذي للتحليل يمكن القفز إلى نتيجة فكرية – سياسية محددة مؤداها إننا نشهد تبدلاً خطيراً في طبيعة نمطين من أنماط الدولة عرفهما العالم في هذا القرن:
الأولى هي الدولة القائمة على الأيديولوجيا، بتنظيم سياسي رفع المستوى كالتي ألغت “روسيا المقدسة” لتحل محلها الاتحاد السوفياتي في العام 1917 مع ثورة أكتوبر الاشتراكية العظمى.
والثانية هي الدولة القائمة على إعادة صياغة سياسة لعقيدة دينية، كالتي أطلت على الدنيا مع نهاية الحرب العالمية الثانية، وعلى أرض فلسطين العربية تحت اسم إسرائيل،
ومع الفوارق الهائلة فثمة نموذج آخر لهذه الدولة القائمة على إعادة صياغة سياسية للعقيدة الدينية شهده العالم بقيام الجمهورية الإسلامية في إيران على أنقاض الإمبراطورية الساسانية في السنة الأخيرة من سبعينات هذا القرن.
بالتبسيط نفسه يمكن القول إن الايديولوجيا، ذات المضمون الطبقي في الاتحاد السوفياتي، قد حلت محل الوطنية والقومية، معطية الأولوية المطلقة للصراع بين الطبقات مفترضة إن استيلاء البروليتاريا على السطلة وقيام دولة الشغيلة يمكن أن يحسم الأمور ويوصل الإنسان إلى غده المرتجى في التحرر من استعباد الحاجة، أي استعباد الإنسان الآخر الأغنى والمسخر سلطات السماء والأرض لخدمة مصالحه وزيادة أرباحه وقدرته على استعباد الآخرين المحتاجين.
أما في إسرائيل فقد حاولت الحركة الصهيونية أن تجعل المعتقد الديني رابطة تغني عما عداها، توحد بين المنتمين إلى موروث ديني واحد بغض النظر عن انتماءاتهم الطبقية والعرقية ناهيك بالانتماءات الوطنية أو القومية،
ومع الفوارق، مرة أخرى، فإن تجربة الثورة الإسلامية في إيران حاولت أن تقيم دولة على أساس العقيدة الدينية، متجاوزة الايديولوجيات والعقائد السياسية وروابط الوطنية والقومية ومعها المصالح الطبقية، فالمسلمون أخوة، وهم بهذا المعنى وحدة وبنيان مرصوص يشد بعضهم بعضاً، وهم معنيون بتغيير العالم ليعود فينسجم مع الرسالة المقدسة كما تتجسد في “الدولة” التي أقامها المؤتمنون على دينه الحنيف.
ولعلنا قد شهدنا في “عام التحولات” المنصرم بداية التبدل الجذري لصورة هذين النمطين من أنماط الدول،
فدولة الايديولوجيا، دولة الثورة الاشتراكية العظمى، دولة الشغيلة حيث الحكم لحزب البروليتاريا، وحي لا طبقات ولا وطنيات ولا قوميات ولا أديان، تعيد النظر في نفسها، وترفع شعار “إعادة البناء” و”الشفافية”، وتمارس سياسة انفتاح تكاد تكون بلا حدود على المجتمعات الأخرى التي كانت “معادية”، وعلى العقائد والمناهج المضادة، وتعيد الاعتبار شيئاً فشيئاً إلى الأديان والوطنيات والقوميات ، وتكاد تسمح مجدداً بنوع من التمايز الطبقي المرتبط بالجهد الشخصي المباشر.
ودولة العقيدة الدينية كما يقدم نموذجها الكيان الإسرائيلي تهتز تحت وطأة العجز عن حل مشكلات الغربة عن منطق العصر، والتناقض بين التوغل في الأسطورة بحثاً عن سند ديني هو بالضرورة شرقي وعتيق وبين الانسجام مع مقتضيات الوجود وشرطها أن تكون دولة غربية حديثة في الشرق المتخلف، أو بمعنى آخر اختراق أو امتداد غربي مباشر، بثقافة غربية وقيم غربية وهيكلية غربية وتقنية غربية لا تتوقف طويلاً أمام النص التوراتي المقدس.
كان مثل هذا الكيان الهش يتصلب بالمجابهة العسكرية المباشرة التي تعطيه فرصة التفوق، الذي يعكس الفارق الحقيقي بين المجتمع الغربي المتقدم والمجتمع العربي (الشرقي) المتخلف.
على إنه، رمزياً، كان ينتظر “حجراً” يقذفه مقلاع فتى فلسطيني غرليتزلزل ويفقد توازنه.
كان قد سبق “الحجر” صاروخ طويل المدى انتصب أول ما انتصب فوق الأرض العربية في سوريا، ثم أخذت غابات الصواريخ المتعددة المصادر والمتعددة الأغراض تتنامى وتتكاثف فوق سائر الأرض العربية، من عراق الحرب ضد إيران، إلى السعودية فالكويت وانتهاء بقطر،
وكانت تلك نقطة البداية لنهاية دولة التفوق الأسطوري الكاسح ، يخرج جيشها المدرب أحسن تدريب، والمتفوق بسلاحه المتطور وبإنسانه الغربي، فيجتاح ما أمامه من جيوش ومن أراض عربية، مغيراً في الواقع السياسي، معطياً لدولة النموذج الغربي المعدل بمقولات التوراة والأساطير اليهودية الموروثة فرصة التنفس والنمو والتمدد داخل الجسم العربي المتهالك والذي يبحث بعد عن أسباب الحياة وعن نموذج يوفق بين موروثاته وبين طموحاته إلى مستقبل أفضل وعن قوة تمكنه من أن يستعيد ثرواته المنهوبة أو يوظف المتيسر منها لمصلحته بدل أن يظل “كالعيس في البيداء” يقتلها الظما والماء فوق ظهورها محمول”.
لقد شل الذراع الحديدي للكيان الإسرائيلي، وصار متعذراً استخدامه بمثل البساطة التي استخدم فيها في حروب 56، 67، 73 وصولاً إلى اجتياح لبنان في صيف العام 1982.
ثم هب شعب فلسطين العربي، مع نهايات العام 1987، في انتفاضته المباركة المستمرة حتى اليوم، فإذا هذا الذراع الحديدي مشلول أيضاً، وفي كل حال عاجز عن حسم الأمر، كما تعود في ساعات أو في أسابيع أو حتى في شهور،
ومع التهالك الذي أصاب أسطورة التفوق ضرب الخلل ركائز الكيان الصيهوني المرتكز، ظاهراً، على العقيدة الدينية، فإذا بإسرائيل تواجه خياراً بين أمرين كلاهما مر: أما أن تبقى جسماً غريباً مهدداً بالزوال، ولو بعد حين، وإما أن “تتبلد” وتحور في طبيعتها لتصير بعض المنطقة فتفقد مبرر وجودها كامتداد غربي في الأرض العربية.
ولسوف يستمر التصدع في الكيان القائم على أسطورة دينية، لأن حقائق الحياة لاسيما في عصر التحولات المذهلة هذا أقوى فعلاً من الأساطير حتى لو كانت تحيط بها هالات القداسة.
على إن التحولات التي تصيب الكيان الصهيوني تصيب أيضاً محيطه، الذي يحاول أن يتكيف مع منطق هذه التحولات التي تحمل بصمات الغرب وتحظى بمباركة “الشرق” السوفياتي حيث تتقدم الواقعية السياسية على المواقف المبدئية الجامدة،
وهكذا أبرأ العرب الفلسطينيين من عروبتهم ليبرأوا بأنفسهم من موجبات الصراع الذي كان عربياً – صهيونياً، أو عربياً – غربياً إذا شئنا الدقة، فصار نزاعاً فلسطينياً – إسرائيلياً على الحدود بين دولتين فوق أرض فلسطين الواحدة.
وإذا كانت الكيانية الإسرائيلية تخوض الآن صراعها الحاد مع الايديولوجية الصهيونية المرتكزة إلى منطلق ديني معزز بالسلاح الغربي والمساعدات الاقتصادية الأميركية، فإن الكيانية الفلسطينية من جهتها تكاد تحسم صراعها مع الحركة القومية التي تراجعت وتهاوت وأفقدتها الأنظمة التي قامت باسمها وبشعاراتها – وأقدسها وأخطرها تحرير فلسطين – الكثير من مصداقيتها ومن اعتبارها وجعلتها أثراً من الماضي أكثر منها منهجاً للمستقبل.
للكيانية السيادة الآن على امتداد الأرض العربية،
وفي الكيان الصهيوني تبدو الكيانية الإسرائيلية وكأنها في معركة مع انتمائها الغربي.
وبين معاني الائتلاف السياسي الذي وجد أبرز تجلياته في الحكومة الإسرائيلية الجديدة، برئاسة شامير، إن الكيانية الإسرائيلية قد استفاقت لذاتها فعادت ترص صفوفها لتواجه معركتها مع رياح التحول التي تهز العالم ولا بد أن تجتاح هذا الكيان المزروع في محيط معاد.
ونصل إلى لبنان متعجلين النتائج التي تحتاج إلى تحليل أعمق وأشمل وأدق، لنسجل جملة من الملاحظات الأولية يمكن العودة إليها بالتفصيل لاحقاً، أبرزها الآتية:
1 – إن منطق التحولات التي يشهدها العالم يستند إلى التسويات، أو بتعبير آخر: الحسم بالتسوية، أو الحسم بالاعتدال.
لقد انتهى زمان التطرف، وها هو العالم يودع السلاح والقائلين بالكفاح المسلح، وفي الرتل الأخير الفلسطيني والانغولي والأفغاني (حتى لا نذكر الصحراوي ومن شابه!!).
وانتهى زمان الدولة ذات الايديولوجيا الطبقية أو ذات العقيدة الدينية، وبشكل عام انتهى زمان دولة الفكر الواحد، الخطاب الواحد، اللون الواحد.
وعاد الاعتبار إلى المعارضة باعتبارها أمراً مشروعاً أو تعبيراً عن حق مشروع بالاختلاف. فالدولة لجميع رعاياها، لجميع مواطنيها، لجميع أبنائها بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية أو السياسية.
كل جمود إلى زوال، والتحجر يتهاوى تحت وقع مسيرة التغيير الشاملة.
2 – إن النظام اللبناني قد أثبت إنه أقوى من القائلين بتغييره، على الأقل طالما اعتمدوا الأساليب والوسائل والمناهج (؟!) التي اعتمدوها حتى الآن.
إنه يبدو وكأنه نظام اصطنع من الكاوتشوك: تضربه فينبعج ليستوعب الضربة ثم يستعيد شكله الأصلي ويسقط ضاربه لاختلال توازنه!!
إن توازنه الذي يبدو هشاً، في الظاهر، يمتلك صلابة غير عادية مستمدة من صلابة القرار الدولي بإقامته فوق شبكة من تحالفات الطوائف والأقليات التي أدخل في روعها إن لبنان هو ملاذها الوحيد، ثم لم تشهد من الأحداث إلا ما يؤكد لديها هذا الظن (أو الوهم)…
ولذلك فالمستقبل سيكون نتيجة توازن جديد بين الطوائف التي صارت أشبه ما تكون بالمحيمات أو الجاليات الأجنبية، فكل طائفة “محمية” وكل دولة لها “جاليتها” اللبنانية، والصيغة الفريدة هي تعبير عن توافق دولي مرعي الإجراء حتى إشعار آخر.
3 – إن معطلات التسوية الداخلية قائمة بقدر ما يتطلب أمر التسوية الشاملة في المنطقة، كلما تقدمت خطى التسوية في الخارج تناقص عدد المعطلات في الداخل.
وهذه المعطلات لن تزول طوعاً، ولكنها تذوب أو تذاب أو تتآكل أو تنهش بعضها بعضهاً، وقد يحافظ على وجودها الشكلي في انتظار اللحظة الحاسمة.
وما نشهده ، كل ما نشهده، ليس إلا “مؤثرات” كتلك التي ترافق الحركة في مسرحية ممتازة الحبكة أو في فيلم متقن الصنع والإخراج…
فقليلاً من الصبر أيها الجمهور الصامد المكلوم الفؤباد!
فالتغيير آت، آت… وقد لا يكون بالضرورة وفق ما تشتهي وتتمنى، لكنه لن يبقى “كل” من وما تشكو منه!

Exit mobile version