طلال سلمان

على الطريق عاصمة للكبار…

في بيروت من قوة الرمز ما يتجاوز عمرانها وسكانها والطاقات أو الكفاءات التي اشتهروا بها،
فبيروت هي الابنة الشرعية لحالة النهوض العربي العام، بالمعنى السياسي كما بالمعنى الاقتصادي، وبالمعنى الثقافي المعبر عن أصالة الأمة كما بالمعنى الحضاري العام المتصل بالجدارة والأهلية لاقتحام عصر التقدم واستيعاب روح هذا العصر المذهل.
ومجد بيروت كان مرتبطاً على الدوام بخصائصها غير المحلية،
بل إن هذا “اللبنان” كان قبل بيروت حالة انفصالية ناتئة مدموغة بالطائفية وسيادة الأجنبي، وغدا بعد بيروت حالة عربية مميزة لضرورات عربية ونتيجة لقرار عربي واع وليس نتيجة اندحار الإرادة الوطنية والقومية أمام إرادة الغربي الدخيل.
فبيروت لم تحوّل فقط “المتصرفية” إلى “دولة”، بل هي أعطت لـ “الكيان” مشروعية الوطن، إذ خففت الدمغة الطائفية وكادت تمحوها، وقلصت حالة “الفرض” بالإرادة الخارجية واسبغت على الدولة الوليدة الصفة الشرعية باسم العرب ومن أجلهم وليس على حسابهم وعلى أنقاض أحلامهم بالتحرر والوحدة والتقدم.
لهذا كان “الكيانيون” يكرهون بيروت ويسعون لطمس دورها بل ولإلغائه بتغليب دور “الجبل” عليها،
كانوا يغلبون بوعي ما هو طائفي في الكيان على ما هو وطني، وما هو كياني في الدولة على ما هو قومي، وما هو هجين ومعبر عن الإرادة الأجنبية أو عن التمثل بالأجنبي على ما هو أصيل ومعبّر عن حقيقة الشعب، أي الناس، أي العرب.
… وحين قسموا بيروت إلى ثلاث دوائر انتخابية كانوا يعبرون عن عجزهم ويقرون بهذا العجز عن استيعابها ككتلة واحدة هويتها مضادة لمصالحهم، ووزنها كفيل بإفشال ارتباطاتهم المشبوهة وادعاءاتهم المرتكزة على تزوير فاضح للتاريخ،
فبيروت الثقافة تدحض مزاعمهم حول التعدد الثقافي والحضاري، فهي المنبر والملتقى والمنتدى، ولكنها عربية الهوية والهوى منفتحة على الدنيا، تأخذ منها وتعطيها، ولكنها لا تهاجر ولا تغادر أهلها ولسانها وجلدها ولا تغدر بهم.
وبيروت الحرية والديموقراطية، بيروت الفكر والكتاب والمطبعة، بيروت الأحزاب والتنظيمات والحركات السياسية جميعاً، من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، تؤكد أصالة انتمائها لأمتها وصميمية علاقتها بقضايا النضال العربي،
وهذه “البيروت” أكبر من الطائفية والمذهبية، وأكبر أيضاً من الكيانية والجهوية، وأكبر من أن يستعملها الأجنبي (على غربيتها) وأخطر من أن يتحملها الإسرائيلي،
ولأن بيروت بهذا أكبر صار فيها أربع جامعات: اثنتان للغرب واثنتان للعرب، ولكن الحشد الأساسي من طلابها جميعاً عرب، فيها المغاربة وأبناء وادي النيل كما فيها المضارقة من سائر أقطارهم المنداحة بين البحر الأبيض والمحيط الهندي.
وكانت بيروت كبيرة على الكيانيين والإقليميين والجهويين وليس فيها قطعة سلاح واحدة،
وكانت قاعدة للحركات الثورية العربية عموماً، ما انتصر منها وما فشل، وليس فيها تنظيم مسلح واحد،
وكانت منبراً للدعوة القومية وأقطاب الدعوة ومراكز حركتها من خارجها وفي خارجها (البعثيون من سوريا أساساً والقوميون العرب من فلسطين) ثم جاء جمال عبد الناصر فجب من قبله أو إنه احتواهم ضمن حركته الثورية الوحدوية بالضرورة،
صارت بيروت عاصمة ومنطلقاً للوحدة العربية دون أن تكون من دولتها أو فيها أو منها،
وصارت الحاضنة للثورة الفلسطينية بإرادتها الحرة وبوعيها لدورها وليس لأنها أخضعت بقوة سلاح “الفدائيين”،
وعلى مدى تاريخها المعاصر، على الأقل، لم تسلم بيروت قيادها ولم ترتضي بزعامة أو زعيم فيها من طبيعة كيانية أو جهوية ناهيك بالطائفية والمذهبية،
فرياض الصلح لم يكن زعيمها بنفوذ عائلته أو بقوة طائفته أو بعراقة بيروتيته، بل بحضوره العربي وبدوره وعلاقته بمختلف الحركات والنزعات الاستقلالية العربية،
وبشارة الخوري صار زعيماً في بيروت ولها بموقفه الاستقلالي، بمعنى تأكيد الابتعاد والانفصال عن الغرب بالقدر الكافي لتأكيد الاتصال بالعرب والانتماء إليهم،
واميل اده “البيروتي” فشل لأنه لم يكن عربياًن برغم إن كفاءاته الأخرى تفوق – ربما – كفاءات منافسه “الجبلي”،
وكميل شمعون صار زعيماً في بيروت بوهم إنه فتى العروبة الأغر وليس لأن شفيعته سيدة التلة في دير القمر،
أما بيار الجميل، ومن بعده نجلاه بشير ثم أمين، فكانت بيروت وما تزال أعز منالاً من أن يكونوا زعماء فيها، ولذا حاولوا شطرها وتقزيمها الأول لكي يفوز بمقعد نيابي في بعض أحيائها السكنية ذات الطابع الهجين، والثاني والثالث لإلغاء تأثيرها الحاسم في معركة رئاسة الجمهورية،
فلو كانت بيروت واحدة موحدة ومعافاة لما وصل الكتائبي إلى سدة الرئاسة.
وكمال جنبلاط صار زعيماً في بيروت ولها يوم ارتقى من جبليته وهجر المناخ الكياني (والمذهبي) إلى الأفق القومي الرحب.
فبيروت أكبر من مجموع سكانها لأنها تجسد أحلامهم وطموحاتهم وتطلعاتهم، وهي عربية المصدر والمصب.
وبيروت هي عاصمة الزعيم الوطني في الداخل، وصانعة وهج الزعيم القومي في المحيط العربي،
الكبير يكبر بها ويكبّرها،
والصغير يحاول أن يقزمها لتصير بحجمه الضئيل فتستعصي عليه فيحاول شطبها وإلغاء دورها: يأخذ زواريبها، بالقوة، ولكنه يظل خارجها، وتظل شاهداً على عجزه وعلى قصوره وعلى طائفيته أو مذهبيته، وأساساً على النقص في فكره القومي.
هذا يفسر، مثلاً، لماذا حرص جمال عبد الناصر على حماية بيروت ودورها، فحافظ على وضعها الخاص: هي مع الوحدة وخارج دولتها، تدعو للاشتراكية ولكنها تبقى على رأسماليتها، تكون منبراً للنضال القومي وداعية وملجأ للمناضلين المشردين ولكن بغير أن تحمّل من أعباء النضال ما يفوق طاقتها على الاحتمال، وبالتالي الاستمرار في أداء الدور الحيوي والضروري والذي لا غنى عنه ولا بديل له.
وهذا بالذات يكشف أحد جوانب الخلل الخطيرة في تفكير ياسر عرفات وفي نهجه حين جعل بيروت قاعدة “لدولته” بينما هي استقبلته ثائراً يكافح بالسلاح لتحرير أرض عربية محتلة بقوة العرب جميعاً وبإرادتهم جميعاً،
فعرفات “الكياني” صار مثل “الجبليين” الكيانيين، ولم تشفع له فلسطينيته، فالهوية القومية للفلسطيني – كما لأي عربي آخر – شرط للثورية وليس الانتماء الجغرافي،
وبيروت الكبيرة هي بيروت العربية لا عاصمة لبنان الصغير،
وفلسطين المجيدة والمقدسة والقضية هي فلسطين العربية وليست حاصل جمع غزة مع الضفة الغربية مع القدس الشريف.
وياسر عرفات صار لفترة زعمياً لبيروت بقوة الرمز فيه، ثم انحدر إلى مستوى الحاكم فإلى مستوى المتسلط والمتحكم بقدر ما كان يبتعد فكراً ونهجاً وممارسة عن صورة الثائر القومي، وانتهى فيها يوم ارتضى أن يكون “خاطف طائرة” أو “محتجز رهينة” اسمها بيروت،
وبين 6 شباط 1984 وبين اليوم أصاب صورة نبيه بري ووليد جنبلاط في بيروت من التبدلات ما ينذر بخطر مشابه،
فهذا التحول من صورة “المحرر” إلى صورة “المحتل” ومن صورة بطل الانتفاضة الوطنية ذات البعد القومي وذات الطبيعة القومية وذات المردود الخير على حركة النضال القومي، إلى صورة “القاهر” أو “الغالب” أو “المجتاح”، ودائماً بقوة السلاح، لا يؤذي فقط نبيه بري ووليد جنبلاط وإنما يؤذي أساساً بيروت ودورها وتاريخها.
فبيروت لا تؤخذ بالمفرّق، زاروباً أثر زاروب، وحياً أثر حي، ودائماً بالمدافع والنار وقوة الأحقاد والأحقاد المضادة،
وبيروت لا تؤخذ بالمذهبية، لا بمحاباتها ونفاقها ولا باستثارتها وإهاجتها ثم قتالها بمذهبية مضادة،
فبيروت التي يعرفها العالم ليست تلك الرقعة الجغرافية المحصورة بين الضاحية والدورة، أي ليست مجموع الزواريب التي صارت الآن مجموعة من المواقع والقلاع والحصون والخنادق الحربية (والمتاجر والمنازل المنهوبة)،
وبيروت صانعة الزعامات والزعماء ليست “قبضايات” الأحياء، سواء “الأهليون” منهم أو “الطارئون”، وليست كازينوهاتها وبلاجاتها والمطاعم، وليست المرفأ – أو المرافئ – والمطار، وليست كذلك المتاجر والدكاكين والفنادق والوكالات الأجنبية،
بيروت هي حاصل جمع الأحلام العربية جميعاً،
فهي حاضنة فكرة الثورة في الوطن العربي برمته،
وهي مرضعة الشوق إلى التقدم، والمجسم الناجح للأهلية العربية على الإسهام في الحضارة الإنسانية آخذاً وعطاء،
وبيروت هي الشارع الوطني العربي، أي هي الشوق إلى الحرية والديموقراطية، هي الحزب والنقابة، هي الكتاب والصحيفة، هي الحق في الاختلاف والتميز والإبداع ولكن من داخل الانتماء وليس من خارجه أو من أجل نقضه.
بيروت هي الوردة: عبقها يعطر الجو كله، وينشر الشذى في المدى الواسع من حولها،
لكن قطعها لا يؤدي إلى احتكار عطرها والاستئثار بنشوة الطيب، بل يؤدي إلى موتها واغتيال الشذى العطر،
فمن يقتل الوردة الآن؟!
من يوجه مدافعه إلى نفحة الطيب العربية؟!

Exit mobile version