طلال سلمان

على الطريق طرابلس تنادي التوحيديين و”الدولة” تذهب إلى قتلتها التقمسيميين؟!

كعادتها، كعهدنا فيها وكما يفرض عليها تاريخها وهي القلعة القومية والوطنية والوحدوية، كانت طرابلس يوم أمس، وهي تحيي ذكرى الأسبوع للرئيس الشهيد أميرة عربية نبيلة في حزنها تحكمها أخلاق الفارس ومبادئ المناضل ولا يتحكم فيها الانفعال فيحرفها عن مسارها وعن الأهداف التي ربت عليها رشيد كرامي والتي سلمته من بعد رايتها لأنها وجدت فيه رجلها وقائدها الشجاع.
لقد تسامت طرابلس على جرحها النازف وأطلقت النفير الوطني العام لحماية لبنان الدولة، لبنان الوحدة الوطنية، لبنان الطامح لأن يكون وطناً، سيداً، حراً ديمقراطياً وعربياً بالانتماء وبالاختيار كما بالمصير.
عبر هدير الشارع الملتاع أسى ويأساً، وعبر الكلمات المسؤولة التي ألقيت أو قيلت أو أطلقت هتافاً، أو رفعت لافتات، جهرت طرابلس – الشام، الصامدة والثابتة على إيمانها بوحدة لبنان، بالنداء الناضح بنبرة التحذير بل الانذار:
“لقد قتلوا رجل الوحدة، فواجبنا، إذن، أن نحمي الآن الوحدة!
“لقد أصابوا منا مقتلاً باغتيال رجل الدولة، فلنمنعهم، إذن، من الإجهاز على الدولة!
“لقد أرادوا إشعال فتنة، أعظم وأعم من الفتن التي سبق أن أشعلوها وكوونا بها سنوات وسنوات، فلنحبط هدفهم ولنئد الفتنة في مهدها!
“لقد وجهوا إلى الجيش، إلى سمعته وكرامته ودوره، طعنة نجلاء تهدده في وجوده كمؤسسة وطنية، فلنساعد الجيش على توكيد إخلاصه للبلاد ودولتها بتطهيره من آثار الاختراق الإسرائيلي الذي يتغلغل فيه كالسرطان!”
قالها عمر كرامي الذي تسلم الآن راية رشيد كرامي، راية عبد الحميد كرامي، وقالها مفتي طرابلس والمعبر عن وجدانها الشيخ طه الصابونجي، وقالها معهما وباسم اللبنانيين جميعاً وبلهجة الناصح الصادق والصدوق نائب رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى الشيخ محمد مهدي شمس الدين: “هاتوا أيديكم مع أيدينا لندفع عن لبناننا وعن اللبنانيين عموماً، وعن المسيحيين قبل المسلمين شر التقسيميين وأذاهم. لنكشف معاً الجناة، فذلك هو المدخل لإعادة بناء الوحدة، وبغير ذلك لن يكون هناك وطن، ولن تكون هناك وحدة.. وبالطبع لن تكون هناك دولة”!
من أسف إن “الجواب الرسمي” على مثل هذا النداء جاء مخيباً للآمال ونذيراً بمزيد من الكوارث، فما صدر عن الدولة، بشخص رئيسها وأجهزتها، حتى الآن، لا يوحي إلا بأحد أمرين كلاهما مر: أما العجز عن كشف الجناة ومن ثم محاسبتهم والاقتصاص منهم حماية للدولة والبلاد ووحدتها، وأما التستر عليهم وتركهم يسرحون ويمرحون بما يهدد ما تبقى من الدولة بالسقوط تماماً ومعها البلاد والوحدة والأمل بحل، أي حل، ولو في المستقبل البعيد.
بل إن الدولة ذهبت بعيداً في الاتجاه المضاد للمتوقع والمطلوب منها: إذ بدأت تستنفر دول العالم لمساعدتها على مواجهة الضغوط (؟) التي تمارس عليها!!
ومن أسف أن منطق رئيس الدولة والمتحدثين باسمه أخذ يتقارب ويتماثل ويكاد يتطابق مع منطق التقسيميين الذين لم يتورعوا عن شتم اللبنانيين جميعاً، وحتى أسرة كرامي وأقاربها، لأنهم حزنوا على رشيد كرامي وبكوه وطالبوا بالكشف عن الجناة الذين استهدفوا الوطن والدولة حين قتلوه.
بالمقابل فلا بد من تسجيل بعض المواقف التي تنعش الأمل في قيام جبهة وطنية واسعة لمواجهة التقسيميين وضربهم وتمكين لبنان من استعادة وحدته ودولته، والتي صدرت بالأمس وتمحورت حول الهدف – المفتاح نفسه: كشف قتلة رشيد كرامي بوصفهم قتلة للبنان.
*الموقف الأول صدر عن البطريرك الماروني نصر الله بطرس صفير، الذي لم يتخلف عن أداء واجبه – وهو هنا وطني وليس اجتماعياً – فقصد طرابلس بحشد من رجال الكنيسة ضم ستة من المطارنة، وهكذا أكد بمشاركته حرصه على وحدة البلاد ودولتها المضرجة الآن بدماء رجلها رشيد كرامي، كما أكد هذا الحرص بكلماته الهادئة، والمعبرة عن أسفه الكبير “للتقاعس الذي حصل من قبل المسؤولين”..
*والموقف الثاني صدر عن الرئيس سليمان فرنجية، وبكلمات قاطعة في صراحتها: “هل تترك الدولة دماء شهيدنا النبيل الكبير تذهب هدراً؟! هل تبقى الدولة تفتش عن المجهول الذي خطط وحرّض ونفذ، بينما هذا المجهول معروف من الجميع؟! إنني أحذر الدولة.. إن المسؤول يتصرف وكأنه يقول إن المجرم هو من غير هذه الدنيا.. ولو كانوا أبرياء لحاصروا مطار الطوافات في أدما وأوقفوا كل من كان فيه”!!
*أما الموقف الثالث فقد صدر، ولو بصورة غير رسمية، عن قائد الجيش العماد ميشال عون حين أبلغ الضباط وفي اجتماع عام: “إن اغتيال رشيد كرامي هو اغتيال لوحدة لبنان. فكرامي أكبر علم من أعلام توحيد لبنان، وبضربه ضرب العلم السياسي، وضرب العلم العسكري، أي الجيش..”!!
ومع الأخذ بالاعتبار الاختلاف في درجات التعبير عن الموقف، باختلاف مواقع الرجال الثلاثة، فإن التلاقي على توصيف الجريمة وأهدافها السياسية، ومن تحديد الجناة وأدوات التنفيذ، يمكن أن يشكل أرض لقاء مرشحة لأن تتسع يومياً ليحتشد فوقها التوحيديون جميعاً في مواجهة القلة التقسيمية المتحكمة بالبلاد بقوة السلاح والارتباط بالعدو الإسرائيلي.
على إن هذا الموقف لا بد أن يترجم بإجراءات عملية، بخطوات، تحوله من قيمة معنوية مجردة إلى قوة ضغط تفرض على المسؤول إما أن ينهض بمسؤولياته تجاه البلاد وأهلها وأما أن يتنحى أو يُسقط..
فليس أحد أغلى، الآن، على اللبنانيين من رشيد كرامي الذي جسد في مماته كما في حياته، وحدتهم وإرادتهم في العيش المشترك وفي بناء دولة حقيقية للشعب جميعاً، بكل فئاته وتلاوينه الدينية والطائفية والسياسية.
وإذا كانت إرادة العدو، وبأداته من التقمسيميين، قد أسقطت رشيد كرامي شهيداً لوحدة لبنان، فمن حق شعب لبنان أن يُسقط وبإرادته الحرة، وبحرصه على يومه وغده الذين لم يحموا رشيد كرامي ولا الدولة ولا حلم الوطن..
فكيف بالذين يقتلون هؤلاء جميعاً مرة كل يوم، بل كل ساعة، وبفجور قل نظيره؟!
وإذا كان قائد الجيش قد اعترف بواقعه “إننا غطينا، وأكثر من مرة، الفئات المسلحة، فمن واجبه اليوم، بحكم موقعه وبحكم مسؤوليته عن استمرار الجيش كمؤسسة، أن يتوقف عن هذه التغطية،
وإذا كان يعلن ويجزم إن قيادة الجيش بريئة، وإن الجيش بريء من دم كرامي، فلا أقل من أن يحدد لنا من ورط الجيش (وقيادته) في هذه الجريمة التي تهدد الوطن في مصيره؟!
إن القول بأن الجيش مخترق، وبأن ثمة عناصر فيه باعت نفسها للشيطان وحققت أهداف العدو وقامت بالمهمات القذرة، لا يعني إدانة الجيش برمته، بل هي دعوة لأن يلتفت الجيش إلى نفسه فيبرئ نفسه بكشف هؤلاء الذين باعوا بلادهم ورجالها بثلاثين من الفضة،
الأمر واضح: فالمكابر والمتستر والصامت والمتشكي من اتهام بعض العسكريين إنما يحول التهمة بالضرورة إلى الجيش كمؤسسة، ويفتدي بالجيش كله بعض العملاء والتقسيميين المغلفين أغراضهم بتهييج الغرائز الطائفية.
أما القائل بإدانة الجناة والمتورطين وأدوات التنفيذ فهو من يريد أن يفتدي الجيش بهؤلاء الذين لا يريدون للجيش، ولا لدولته، ولا لشعبه الحياة.
إن الفرصة متاحة بعد لقيام جبهة التوحيديين مقابل التقسيميين، وهي وحدها الأمل بحماية ما تبقى من لبنان ودولته.
أما إضاعة هذه الفرصة فلن تكون جريمة، بل ستكون خطأ تاريخياً قاتلاً لن تغفره الأجيال الآتية ولن تسامح من ارتكبه، بالإهمال أم بالخوف أم بالعجز أم باستغلال وحدوية الآخرين وابتزازهم بوطنيتهم وبحرصهم على الولد بوصفهم أمة.
.. ولن يكون ثمة فارق كبير، في حكم التاريخ، بين من أضاع الفرصة بقصد الحرص على زعامة فئوية، ولو على أرض محروقة، وبين من أشعل الحريق أو من تقاعس عن إطفائها!
والكلمة بعد للمعنيين بدم رشيد كرامي، دم الدولة، دم البلاد وشعبها،
وهؤلاء لا ينتمون إلى طائفة واحدة، ولا إلى دين واحد، ولا إلى ناحية معينة من لبنان، بل هم الأكثرية الساحقة من اللبنانيين، وإن ظلت طرابلس لهم الطليعة والقلعة وأميرة الحزن العربية التي تنتظر بعد أن يتفتح الورد في بيت كرامي!
ولسوف يتفتح!

Exit mobile version