طلال سلمان

على الطريق طرابلس بعد الأربعين: ماذا ومن بعد رشيد كرامي؟!

طرابلس – اليوم الأول بعد الأربعين
شمس تموز حارقة الضوء، والحقائق القائمة الدلالات والايحاءات تغطي سماء المدينة بينما نجيع “الرشيد” ينتثر مكمداً فوق وجه الفيحاء، المنطوية داخل ذاتها تلعق أحزانها القديمة، وتمد بصرها عبر جرحها الخطير الجديد تحاول استكشاف مستقبلها، مصيرها وأحلام الزمن العتيق.
كلهم جاءوا وذهبوا وبقي الهم المقيم ثقيلاً، أقوى من الحزن وأبقى: ماذا بعد؟! من بعد؟! إلى أين من هنا ومتى تكون الخطوة التالية؟!
إلى أي حد سينجح عمر كرامي في التعويض عن الغائب الكبير، وفي إكمال المهمة وفي إنجاز ما لم ينجزه رجل الدولة الراحل مصطحباً معه غنى التجربة والحنكة وكلمة السر في العلاقات مع الداخل والخارج؟!
إلى أي حد سينجح هذا الرجل الذي انتدبته الأقدار لدور لم يعد نفسه للعبه، ولا تتوافر له الظروف المساعدة، فمشاكله تبدأ في البيت وتتعاظم في الشارع وتتعقد إلى أقصى حد مع الاقتراب من تخوم الآخرين، أصدقاء كانوا أم خصوماً في أعناقهم دم الشقيق الشهيد؟!
هل تنجح المدينة في استنبات الزعيم والقائد من داخل هذا المحامي الذي كان الرحل يحد من دوره في المحاماة بقدر ما يحد من لعبه دور السياسي؟!
هل تستعيد المدينة المغلوبة على أمرها، الملغي دورها منذ سنوات طويلة، المعطلة حياتها وقدرتها على الفعل بالحروب المتعددة الأسماء التي تناوبت عليها بين سنة 1975 واليوم… هل تستعيد زمام أمرها، وتعود إليها الروح فتقتحم بوزنها المسرح الخالي والمتروك لصغار اللاعبين وللدمى التي تحركها خيوط المعلمين الكبار المختفين وراء الصمت والليل والمؤامرة؟!
هل تعود طرابلس طرابلس، طرابلس الشام وطرابلس لبنان، طرابلس العروبة والوطن الواحد الموحد؟
وهل تعود “كرامية” بعمر كرامي، وهل يبقى الرشيد فيها بعد غيابه، أم إنها ستغرق في بحر التيه بحثاً عن الوطن المضيع والدولة التي ألغاها حكامها، ثم تنتهي في بحر النسيان كسائر مدن لبنان التي تحولت إلى قرى متورمة بالسكان ومنتفخة بالأحقاد والغرائز ولكنها بلا وزن ولا دور لأن طاحونة الحرب تستنزف الجميع وتلغيهم واحداً أثر واحد؟!
شمس تموز محرقة الضوء، والمعرض فسيحة أرضه تصفر فيها الرياح البحرية، وتتردد في جنباته أصداء خطى الموت والفراغ.
بالأمس كانوا هنا واليوم قد رحلوا، ونسوا الرايات مرفوعة على السواري في انتظار أن يتذكرها عمال البلدية فتلف وترجع إلى المخازن في انتظار احتفال آخر.
الأعلام عديدة، أكثر من عشرين، مزركشة، مبرقشة، يمكنك أن تنسج منها أقواس قزح أو دواليب هواء تنفع لتسلية الصغار.
الأعلام عديدة، لكنها ليست رايات نصر، وضعيفة الصلة بالتاريخ فكلها مستحدث ومصطنع، والجهد يتركز على كيف يختلف واحدها عن الآخر، فالقبائل التي صارت أو صيّرت دولاً لم تختلف أحوالها كثيراً عما قبل اصطناع الأعلام وتجميع الرموز والتمنيات والأوهام في خرقة ملونة واحدة.
والدول أكثر عدداً من الأعلام، فتحت العلم الواحد تزدحم فتتصارع أو تقتتل مجموعة من دويلات الطوائف والعشائر والتيارات الدينية والسياسية فلا تعود للعلم إلا دلالته الجغرافية.
.. ثم إن المعرض ليس بناء، إنه هيكل لبناء لم يقم أبداً، وأغلب الظن إنه لن يقوم في المدى المنظور.
إنه كالتحقيق في اغتيال رشيد كرامي: صدر المرسوم، وعينت اللجنة، وسمي القاضي، وصدرت الاستنابات، وقبض على القتيل فدفن، لكن العجز عن تسمية القاتل ومحاكمته ومحاسبته جعل تلك المراسيم والقرارات جميعاً خدعة، أو كميناً للسذج والأبرياء المصدقين إن لهم في دولتهم مكاناً وحقوقاً.
المراسيم القاضية بإنشاء المعرض صدرت أواخر الخمسينات، قبل ثلاثين سنة من اليوم، والمبالغ الأولى اعتمدت في بعض موازنات الدولة في الستينات، ثم، فجأة، وكالعادة، توقف كل شيء،
لا تسل عن الأعذار والأسباب والذرائع، فهي مثل الهم على القلب، المهم إن العمل في تشييد بناء المعرض قد توقف، وصار إرثاً للحكومات المتعاقبة، لم يسرع في إنجازه إن رشيد كرامي بالذات كان رئيساً لمعظم تلك الحكومات، فطرابلس في عين النظام، وبالتالي الدولة، غير أبنائها، لاسيما منهم من احترف السياسة وانتمى إلى نادي الحكم، إنها تقبل بواحدة مضطرة، وتقبل به أساساً لتستبعد طرابلس لا لتدخلها إلى حرم النظام وكيانه المجيد.
وقديماً استرد كميل شمعون وعده بتوسيع ميناء طرابلس وأوقف العمل فيه، فلما روجع قال بصراحة: لن يكون لتلك المدينة التي تنتسب إلى الشام ميناء، إلا إذا اقتضت الضرورة أن تصل أحواض مرفأ بيروت إلى طرابلس!!
فليست المشاركة في الحكم دليلاً حاسماً على المشاركة في السلطة، في القرار.
ودرس رشيد كرامي بليغ إلى حد الإيلام: فلقد أنكر الحكم رئيس حكومته وهدر دمه قبل صياح الديك، ولم يقبل للحظة أن يعترفه ممثلاً للشرعية ورمزاً لها، وظل الاعتداء عليه جريمة ضد شخص وليس هجوماً على الدولة أو النظام أو الكيان أو حتى الحكم وسلطته الشرعية!!
ودرس المعرض قاطع في دلالته، بالنسبة لطرابلس، كما بالنسبة لسائر “الملحقات” خارج حدود لبنان الصغير… فلصيدا ميناؤها ومشاريعها المعلقة، ولصور مثلها، أما النبطية وبعلبك والهرمل وجب جنين، وحتى زحلة المضطهدة بحكم الجغرافيا فحدث عن مشروعاتها المعلقة ولا حرج!
ولكم كانت رمزية في دلالاتها واقعة أن يؤبن رئيس حكومة لبنان الراحل في المبنى الذي قصد ألا يكمل بناؤه، فظل إنجازاً ناقصاً إذ عطل أرضاً ولم يقم معرضاً، وتحول في جزء منه إلى مهبط للطوافات بينها تلك التي سافر عليها رشيد كرامي رحلته الأخيرة إلى مطار الموت في “حالات حتفاً”.
شمس تموز محرقة الضوء، وجراح طرابلس تسد الأفق، فحيثما التفت طالعتك صورة الموت الذي اتخذ المدينة مهجعاً.
طرابلس 987 ليست مدينة، برغم إن عدد سكانها يقارب ثلاثة أرباع المليون، وأسماء الأحياء والجهات فيها صارت أقرب ما تكون إلى الأسماء الحركية للطوائف والمذاهب والأحزاب والتنظيمات المحاربة والمتحاربة.
وأول ما يستوقفك إن لا شيء يربط بعد بين الأحياء الممزقة بقذائف الصراعات الدينية والسياسية والمذهبية والحزبية، إلا الذكريات وحواجز الجيش العربي السوري.
كل حي يحمل جراح حربه الخاصة: القبة حرب السنتين، جبل محسن وبعل محسن وباب التبانة حرب الطائفيين، الميناء حرب السلفية المسلحة مع أحزاب العلمانية المستعجلة على تحقيق ادعاءات لا تقدر على القيام بأعبائها الثقيلة.
وإلى الخلف، لجهة البداوي وما بعده وصولاً إلى المنية والضنية وبعدهما عكار، تقزمت المخيمات الفلسطينية وتقوقعت وزال وهجها، وقد كانت ذات يوم مصدر السلطة وخزان السلاح ومنطلق جيوش الفتح التائه عن أهدافه الأصلية.
مسكينة يا قلعة العروبة والوطنية: لقد حولوك إلى جزيرة معزولة عن محيطها، واقتطعت السكاكين لحم جسدك فتصاغرت وأنت الكبيرة بغير أن يكبر الصغار الذين مزقوا أوصالك وسرقوا كبدك تحت جنح العتم.
ومع تمزق أوصال المدينة فقد تحول بعض أحيائها إلى جزر منفصلة، بل ومعادية لبعضها البعض، وللمدينة ككل.
وبقدر ما يسعدك منظر تمدد البناء وتعاظمه في أنحاء من المدينة، يحزنك افتقاد المدينة وروح المدينة في طرابلس الشام.
لقد احتفظت طرابلس دائماً بسمات “الضيعة”، ولم تكن “مدينة” في وجه الريفيين والقرويين، كانت ترحب بهم، تفتح لهم ذراعيها وقلبها، تحويهم وتحنو عليهم، تمنحهم مجال الرزق بلا تضييق، وتعطيسهم حق المشاركة في عمرانها وفي ما تقرره لذاتها ولمستقبلها، وكانوا يسمونها “أم الفقير” ويحمونها بمآقي العيون، ويسلمون قيادهم لزعامتها السياسية.
لكن طرابلس اليوم، وبعد الاضطهاد الطويل، والحروب التي استنزفت مرافقها وإمكاناتها، تكاد تصبح “الفقير” الباحث عن أم مغيبة.
لقد تمددت زغرتا المزدهرة منذ رئاسة سليمان فرنجية، فتداخلت مع أحياء طرابلس العليا واجتذبتها إليها بعدما صار المرتفع من الأرض مرتع السلام وصار البحر مصدر الخطر وطريقه.
وتمدد بعل محسن فاتصل بجبل محسن واحتجز على الخلف أحياء التعمير والبداوي، واندثر حي باب التبانة الذي كان سوق المدينة وريفها القابل لأن يتسع حتى يمس الحدود اللبنانية السورية وقد يتجاوزها.
وتحول قلب المدينة المدمى من قبل بصراعات الأحزاب والملل والنحل والعصابات والقبضايات والتنظيمات المفبركة على عجل، تلبية لحاجة طارئة أو للنكاية بهذه الجهة أو تلك، تحول إلى جرح مفتوح تتناثر حوله الدمامل والبثور وجيوب القيح.
اختفت الأسماء التي يعرفها الناس في طرابلس ومنها وحلت محلها أسماء وهمية، أو حركية، أو مدعاة، وفي الحالات جميعاً هي أسماء للا أحد، لا تاريخ لها في الماضي ولا وجود لها في الحاضر بغير السلاح.
… وغاب حتى رشيد كرامي عن طرابلس، البعض كان يلومه ويعتبر إن غيابه أسهم في تحويل المدينة إلى مشاع وهيأ لكل قادر – بالسلاح أو بالمال أو بقوة النفوذ أو بالطائفية – الفرصة لأن يستبيح المدينة الجريح، والبعض الآخر كان يمتدح قرار الغياب لأنه يرى إنه حفظ لطرابلس رجل الحل حين جاء أوانه.
المهم إن المدينة تصاغرت وتضاءلت بعدما توالت هجرة الساحات وتفاقم تغييب الأحياء وتدمير الأسواق القديمة، هجت ساحة الكورة، وتكسرت نجمة الساحة، وتمزقت أحشاء حي التبانة، وغطى الرمل باب الرمل ومسحت المحلات والدكاكين في باب الحديد، وهرب الطليان والفرنسيسكان والمراكز الثقافية الأجنبية الخ.
فكت قذائف المدفعية وحدة المدينة، وأصاب رصاص القنص الروابط بين أحيائها وبين ناسها فإذا هم أشتات تفرق بينهم الغرائز والأحقاد والثارات وافتقاد الانتماء الواحد.
والتهمت الحرب وآثارها معالم الحياة السياسية في المدينة، وتدريجياً حلت الطوائف محل الأحزاب، وحلت الشعارات الدينية المتعصبة محل شعارات الصراع السياسي والديموقراطي، لم يعد حي كما كان، لم يعد أحد كما كان، فكيف تبقى المدينة طرابلس؟1
غزا الجراد الوافد والمقيم ميناء المدينة، فغار البحر، ونهب اللصوص مياه البحر ومشحونات البواخر وبلاط الأرصفة، بالتناوب، ثم قرروا إنهاء الحرب في ما بينهم فأنشأوا نقابة للحرامية: لكل بحسب نفوذه وغطائه السياسي وقدرته على مشاركة “الحراس”.
لكن قلب المدينة ظل سليماً، ينبض ويضخ الدم في عروق أبنائها الذين تربوا على الوطنية والعروبة والتقدمية وطلب العدالة ونبذ التعصب.
كانوا يتقوقعون تحت ضغط الحرب وسيطرة المسلحين المجهولين، لكنهم بعدما طال زمن الخوف، قرروا تخطي الحواجز، فأعادوا الوصل مع زغرتا، وقرروا استيعاب “محسن” بجبله وبعله والامتدادات، وتجاوزوا البداوي والبارد ليعيدوا الربط مع المنية والضنية وعكار.
لكن التخم الآخر، من جهة البترون، كان يحتاج قراراً من نوع آخر، لقد قطعت عليهم “القوات اللبنانية” ولغير سبب طريقهم إلى بيروت ، طريق اتصالهم بالمركز، بفكرة الوطن الواحد الموحد.
وهكذا صاروا يعيشون مفارقة مرة: طريقهم إلى دمشق عبر زغرتا، وطريقهم إلى بيروت عبر حمس، أو عبر التنازل السياسي الخطير للجعاجعة في البربارة وعلى امتداد الطريق حتى المتحف.
شمس تموز حارقة بضوئها، والبحر ساكن راكد يكاد يكون بلا موج، والمدينة تلبس السواد حتى من قبل اغتيال قائدها ورجل الدولة في الوطن المفتقد رشيد كرامي.
والمهرجان يبدأ شاحباً، وفي جو من التوتر المضغوط، وينتهي بكثير من الكلام ولكن من دون أن يوفر العزاء الكافي لطرابلس.
وإذا شئنا الدقة لقلنا إن طرابلس “تفرجت” على المهرجان أكثر مما شاركت فيه.
لقد احتضنته، وسعدت بأن يحتشد فيها دفعة واحدة كل هذا العدد من القيادات والزعامات والرجالات والأسماء الرنانة.
فطرابلس تحزن على طريقتها، وتعبر عن اللوعة بطريقتها، وليس بالأمر أو للمناسبة،
ثم إن المهرجان قد أحرق سلفاً بجو الشائعات المسمومة التي أحيط بها، والمبالغة في الحديث عن مخاوف التفجير الأمني لمناسبة الأربعين،
وفي اليومين الأخيرين السابقين على المهرجان وقعت حوادث صغيرة وتافهة، وعولجت بأسلوب خاطئ، فأكدت على المخاوف وجعلت الناس يحزمون أمرهم وحقائبهم ويهربون إلى الجبل أو إلى البحر…
من هنا فإن المهرجان كان شاحباً بجمهوره والهتافات، وكان أرضاً مشاعاً يأخذه القادر على ملء ساحتها بمن استقدم من بشر وأعلام وشعارات.
وكيف لا يكون شاحباً ذلك المهرجان الذي يقام في طرابلس، ولمناسبة ذكرى الأربعين على اغتيال زعيمها رشيد كرامي، فتكون نسبة المشاركين فيه من جبل وليد جنبلاط أعلى من نسبة الطرابلسيين أنفسهم وابناء البترون والكورة وبشري والضنية وعكار والمنية ناهيك بالفلسطينيين الذين يرون أنفسهم – ومنذ زمن بعيد – طرابلسيين كأبناء عائلات المقدم والبيسار وسلطان والرافعي والدبليز والحسيني ودرويش والمصري والداية ومسقاوي والغندور ومسيكة الخ…
لقد غابت أحياء طرابلس المدمرة بالحروب التي أنهكت المدينة، وغابت الأحياء الأخرى التي لم يصلها السلام بعد، وغاب إجمالاً كل أولئك الخائفين حتى من انفجار صغير قد يكون بشارة سوء بالانفجار الكبير، كذلك غاب الشماليون الذين تعترض طريقهم إلى طرابلس الحواجز والعقبات الظاهرة والمستترة.
كان هناك زغرتاويون مع روبير فرنجية وعبد الله الراسي ومع رينيه معوض، ولكنهم، وبرغم طرابلسيتهم العريقة، كانوا يتلفتون بتوجس ويمشون بحذر، ويتصرفون بتحوط لأنهم يخافون ما يخافه الطرابلسيون أنفسهم: أهل الردة والفتنة وتجار الحرب الأهلية الدائمة.
وكان هناك مشاركون من الكورة، ومن بشري، من الضنية ومن المنية وحتى من البترون، لكن تلك المناطق بأهلها “الطرابلسيين” والمحبين لرشيد كرامي، والمسحوقين بشعور اليتم نتيجة غيابه، كانت مغيبة في انتظار عودة عاصمتهم الجريح والثكلى الآن.
شمس تموز حارقة الضوء، والحقائق لا يمكن أن تغرق في البحر الراكد، لهذا فلا بد من شيء من الكلام الصريح.
فطرابلس أكبر بكثير من “المعرض” غير المنجز بناؤه، والمتروك للريح والماعز والمحتاج إلى مستودع مجاني،
وطرابلس أوسع من أن تحصر أو تحاصر في مبنى غير ناجز لمعرض لم يقم أبداًز
ثم إن المعرض مساحة خلاء بلا هوية ولا طابع، ولا أصحاب، والذين توافدوا لإحياء ذكرى الأربعين فاحتشدوا فيه، أجنحة على جانب أجنحة، إنما جاءوا بدافع الواجب واللياقة وتأكيد الذات أكثر مما جاءوا بدافع إعلان الحرب على الجناة، منفذين ومخططين وأدوات.
والطرابلسيون ليسوا بضاعة تعرض، ولا هم جمهور فضولي يزحف للفرجة، كما إنهم لا يتاجرون بأحزانهم.. لذا اكتفوا بأن يطلوا عن الشرفات ساعة وصول الوفود، ثم جلسوا إلى التلفزيون يتفرجون، أو إنهم هربوا إلى البحر يغطسون في أمواجه حتى لا عين ترى ولا قلب يوجع.
لقد تعودت طرابلس أن يختصرها الآخرون برشيد كرامي، وهي تحتاج إلى وقت طويل قبل أن تقرر الحضور بذاتها وإلغاء الإنابة.
وهي تقف حائرة قبل أن تتخذ قرارها: هل ينتقل التوكيل إلى عمر كرامي منفرداً أم لا بد من صيغة أخرى للأفندي فيها مكانه المميز ولكن إلى جانب آخرين ومعهم، ومن هم هؤلاء الآخرون؟!
وعمر كرامي خائف وجل من القرار الأول، وحائز من احتمال مواجهة القرار الآخر،
فلا هو أعد نفسه ولا الشقيق الشهيد أعده لمثل هذا الدور، ولا هو قد نسج مع المدينة وأهلها ومحيطها علاقة محددة وواضحة من موقع “القائد” والمرجع المسؤول.
من هنا إنه تحرج في الجلوس حيث يجب أن يجلس في المهرجان، فأخذت كرسيه وأخذ الكثير من دوره وموقعه كأول أو حتى كمتقدم بين متساوين.
وعمر هو أحد شقيقين متساويين في وجود الرشيد، وإذا كان معن قد ارتضى أن يكون أخوه الأصغر خيير خلف لخير سلف فلأنه – هو – لا – يحب السياسة ولا يريد وجع الرأس ويفضل أن يستمر في مجاله العملي كمهندس ورجل أعمال.
وعمر، ومثله معن، ليس إلا واحخد من أفراد أسرة الرئيس الراحل، القليل عديدها، والمتقاربة كفاءات رجالها وهي بالإجمال عادية.
ثم إن تاريخ الأسرة السياسي قد بدأ بعد الحرب العالمية الأولى وبعبد الحميد كرامي، الذي هجر ثوب المفتي إلى دور السياسي مع استقلال الدولة، وهي – في كل حال – ليست أسرة إقطاعية، وليست صاحبة حق إلهي مقدس في الزعامة والقيادة، وغالباً ما تسببت السياسة في إثارة خلافات وأحقاد داخل البيت الواحد،
من هنا فإن المهمة ستكون شاقة جداً أمام عمر كرامي، وأمام المدينة التي عليها الآن أن تصنع زعيمها بجهد منها لا يقل عن جهده هو في تسلم الزمام.
شمس تموز حارقة الضوء في طرابلس، والحقائق عارية تستحم في البحر الراكد فتطفو فوق صفحته ولا تغرق،
والمشاركون في المهرجان جاءوا فعزوا وخطبوا ثم عادوا من حين أتوا،
كان الحشد السياسي مقبولاً، وكانت الكلمات، إجمالاً، فخمة العبارات مدوية الرنين، لكن هم المدينة باق وهو أمر من حزنها وأمضى.
لقد استمعت إليهم يخطبون ثم هزت رأسها ومضت في طريقها.
أطلقوا شعارات براقة، وقطعوا عهوداً ووعوداً، ثم انفض سامرهم وخلا منهم المعرض وعاد فارغاً وغير مكتمل البناء كما كان قبل مجيئهم.
وطرابلس التي سمعتهم بأذن واحدة، فرحت بقدومهم إليها، ولو في مناسبة حزينة، فهم كانوا قد نسوها أو تناسوها منذ فترة بعيدة، ومضى زمن طويل وهم لا يتحدثون عنها إلا كموقع عسكري، وغالباً على إنه في يد غيرهم ولا بد من أخذه عنوة، وهم من أجل أخذه أو استرداده أو حماية وجودهم فيه كانوا يتساهلون في شأن الثمن الذي لا بد من دفعه… وهو ثمن دفعه في كل مرة أهل طرابلس من حياتهم وأرزاقهم وهناءة عيشهم ودورهم ومدينتهم في القرار الوطني الكبير.
لقد جاءوا فقالوا الكثير، تعاقبوا على الكلام مستخدمين مختلف النبرات وطبقات الصوت. بعضهم هدر كموج البحر الشتوي، وبعضهم رق كنسمة ربيعية، بعضهم أخذته لوثة الشعر، وبعض انساق مع السجع حتى خرج على المعنى، بعضهم تهدج صوته فبكى واستبكى، وبعضهم أرعد مهدداً متوعداً الخصم المجهول المعلوم، بعضهم نصب المشانق للقتلة، وبعضهم قرر إعدام الدولار، والبعض الآخر سامح فغفر واستغفر للقتلة مذكراً بالمحبة سبيلاً إلى العقاب الصارم.
لكن رشيد كرامي ظل غائباً، وظل صامتاً، وظلت ابتسامته الممرورة، جامدة على شفتيه في الصورة المجللة بالسواد وبالعهد المنظوم: باق وأعمار الطغاة قصار.
وظلت المدينة غارقة في حيرتها وفي خوفها من المستقبل: لقد أطربتها بعض الشعارات المسبوكة شعراً، وهزها أن يستذكر بعض الخطباء معاني مهجورة منذ أن انطوى عصر النهوض القومي وغاب فارسه العظيم جمال عبد الناصر ورفاقه من المناضلين الوحدويين.
فطرابلس مدينة طبيعية جداً، وبسيطة في السياسة، إلى حد السذاجة،
وهي تعيش بماضيها السابق على الحرب الأهلية ومفرداتها الهجينة، أكثر مما تعيش في حاضر الكلام العقائدي المترجم مبنى ومعنى. من ذلك إن كلمات مثل “العروبة” و”الوطنية” و”الوحدة”، الأمة والوطن والشعب، الدولة والشرعية وحتى الجيش ما تزال تجد لها صدى، في الفيحاء، وتستدر تصفيق المتشوقين إلى تجسيد حي لهذه المعاني.
ثم إنها متحررة من العقد التي يستولدها النقص في الانتماء.
فهي مدينة سورية في لبنان، ولبنانية في سوريا، لا تشغلها صيغة العلاقات المميزة لأنها عاشتها ويمكن أن تعيشها في أي زمان بغير حاجة إلى تنظير وتفلسف ومزايدات.
وهي مدينة مسلمة مفتوحة للمسيحيين من أهلها ومن محيطها، فابن الكورة يعيش فيها ويتعامل معها بوصفها مدينته وعاصمته، وهي تراه وتريده وتعامله باعتباره مواطنها الأصيل، وكذلك الأمر بالنسبة لابن زغرتا وابن البترون وابن بشري حتى لو تجاوزها بعض هؤلاء إلى بيروت مباشرة.
ولقد تعودت أن يكون الكل فيها وأن تكون للكل وبالكل،
وحين غاب عنها أو غيّب عنها بعض هؤلاء اعتراها الشعور بالنقص بل بالثكل.
وهي تجتهد الآن لاستعادة توازنها في الداخل وفي المحيط ومع الخارج، وهذه مهمة صعبة جداً في غياب رجل التوازن الأول رشيد كرامي.
طرابلس مدينة بسيطة، ولشدة سذاجتها فهي تلخص الأمور على الشكل الآتي:
*لقد قتل ابنها البار ورئيس حكومة لبنان رشيد كرامي في الأول من حزيران 1987 في طوافة عسكرية فخخت وانطلقت من قاعدة عسكرية، وحتى اليوم لم تبلغ المدينة بأسماء الجناة، المخطط منهم والمنفذ والأداة… المدني منهم والعسكري، والعسكري أساساًز
*فإذا استمرت ادلولة تتصرف عبر الحكم وكأنها غير معنية بمقتل رئيس حكومتها فلا بد من الفصل الكامل بين الحكم والدولة، فلكي تبقى الدولة لا بد من سقوط أو إسقاط الحكم.
*وإذا كان الجيش غير معني بإظهار براءته، كمؤسسة، وكشف المخترقين وعناصر الاختراق ومواقعهم، فلماذا الجيش؟! إذا كان الاختراق أقوى من الجيش فلا بد من حل الجيش أو تخطيه لمقاتلة الاختراق، خصوصاً وإنه يحمل الآن بصمات العدو الإسرائيلي.
*وإذا كان ممكناً، في الماضي، القبول بجيش لا يقاتل إسرائيل فهل من الضروري القبول بجيش يقاتل مع إسرائيل ولحسابها، مباشرة أو بالاختراق؟!
*إن التقسيميين بدأوا الحرب على طرابلس منذ سنين طويلة وهم يستكملونها اليوم بقتل رشيد كرامي،
لقد بدأوا الحرب عليها حين قطعوا طريقها إلى بيروت عبر الساحل، أي عبر أهلها في جبيل وكسروان وساحل المتن الجنوبي.
فإذا كان لا بد من الحرب فلتكن حرباً من أجل الوحدة، وليتم تدمير الحواجز التي تفصل أنحاء الوطن وأجزاءه بعضها عن البعض الآخر، وبدءاً من حاجز البربارة.
إن الذين أقاموا الحاجز عن البربارة لا يريدون دفع طرابلس إلى سوريا، ولكنهم يريدون مد الاحتلال الإسرائيلي والتواجد الإسرائيلي، إلى حدود طرابلس،
بل إنهم بقتل رشيد كرامي قد مدوا تأثيرات هذا التواجد إلى قلب طرابلس ذاتها.
والمهم إن السؤال الكبير ما زال معلقاً، بعد المهرجان في سماء طرابلس، وفي وجدانها المتعب.
ماذا بعد رشيد كرامي؟!
ماذا في طرابلس، وماذا في لبنان؟!
وهل تبقى طرابلس طرابلس ويبقى لبنان لبنان؟
والمهرجان كان مناسبة لطرح السؤال، أكثر منه محاولة لتوفير الحرب، الذي سينتظر وقتاً أطول لتتكشف معالم المخلوق الموعود المسمى: جبهة التحرير والتوحيد، ثم ذلك المخلوق الغامض الآخر – المرتجى – الجبهة العريضة.
والناس، خارج طرابلس، تنتظر مع الطرابلسيين،
لكنهم لا يستطيعون أن ينتظروا طويلاً، خصوصاً وإن الذين قتلوا رشيد كرامي ما زالوا يسرحون ويمرحون ويمكنهم بعد أن يمارسوا القتل، قتل الأشخاص وقتل المدن وقتل الجبهات وقتل الأحلام والورود وصورة الغد الأفضل!
والسؤال هو من يتصدى للقتلة، في طرابلس كما في سائر الأنحاء، وقبل فوات الأوان؟!!

Exit mobile version