طلال سلمان

على الطريق ضد الحرب لأننا عرب أما في الحرب فعراقيون

لأننا عرب فنحن ضد الحرب بالمطلق،
وحتى لحظة انفجار الحرب، إذا ما انفجرت لا سمح الله، سنظل نجهر برفضنا للحرب ومقاوتنا لحاولة فرضها على هذه الأمة،
فالحرب ليست مطلباً عربياً، ولا هي الآن طريق العرب إلى أهداف نضالهم أو أداة حفظ أو تحقيق مصالحهم المشروعة.
هي على النقيض من هذا كله مطلب إسرائيلي، فماذا يطلب العدو القومي أكثر من أن يجتمع العالم كله على العرب فيقاتلهم – نيابة عنه – ملحقاً بهم هزيمة ماحقة، موفراً له فرصة التمدد من بعد لإقامة إسرائيل الكبرى في ظل السلام الأميركي العتيد؟!
ولأننا عرب فنحن في الحرب “عراقيون”. ضد الأميركي وضد البريطاني وضد الفرنسي وسائر الغزاة الذين استدعتهم وبررت وجودهم غزة الكويت التي نفذها صدام حسين في لحظة تخل.
نحن “عراقيون” في الحرب، مع وعينا إننا سنكون في خانة “المهزوم” وليس الضحية فحسب.
فالعراق عراقنا، هو أهلنا ونحن أهله، وهو بعض أملنا في مستقبلنا كما كان بعض أعظم الصفحات المضيئة في ماضينا.
ولأننا “عراقيون” فنحن ضد الحرب، لأنها – بالنتيجة – حرب على الأمة، على حقها في أرضها وفي ثرواتها وفي التقدم. حقها في الحياة وفي أن تكون جديرة بالعصر.
نحن ضد الحرب لأننا مع فلسطين ومع الوحدة العربية ومع إعادة توزيع الثروة القومية وتسخيرها لبناء المستقبل العربي الأفضل في كل أرض عربية.
ومن أجل، العراق أولاً، نتمنى أن يحبط صدام حسين خطة إسرائيل لاستدراجه إلى حرب غير متكافئة وغير مبررة ضد العالم كله : حرب سنموت فيها ملعونين وكأننا المستفيدون منها في حين إننا قد ننتهي فيها ضحايا بلا قبور.
لا عذر في الحيانة، خصوصاً وإنها تستبطن الهزيمة: تمهد لها وتبررها، تحول الشهيد على ضحية غفلة وبلاهة وتقصير، والثورة إلى فضيحة سياسية، والقضية إلى فكرة مجردة أو قصيدة رثاء بلغة بائدة لماض انقضى ولن يعود، بل أن تبقى راية للشمس والحرية والإنسان في أربع رياح الأرض.
كذلك لا عذر في الذهاب إلى الحرب من دون قضية ومن دون ضمان أسباب النصر وبالحدل الأقصى الممكن في ظل توازن القوى الذي تفرضه الحقائق السياسية الراهنة.
فالخيانة كسوء التقدير أو كسياسة التوريط: أمر من الهزيمة وأعمق أثراً وأخطر في نتائجها على الأمة وأهداف نضالها المقدسة.
فليس كل قتال وأي قتال ضرورة أو واجباً، ليس كل موت استشهاداً يمكن توظيفه لاحقاً في خدمة القضية.
المهم أن تموت في الزمان الصح والمكان الصح ومن أجل الهدف الصح. المهم أن تختار عدوك وأن تختار الميدان وأن تختار موتك إذا تعذر عليك النصر.
أما الموت بالمجان فأسوأ من الهزيمة، بل هو أسوأ من الانتحار.
وفي موسم الموت بالمجان يسقط القادة حيث يجب أن يعيشوا ليعودوا، وتقاد الجيوش إلى جبهات غير التي كان الجنود يعدون أنفسهم لها ويطلبونها ويتشوقون للوصول إليها، ويحتفظون بدمائهم أمانة لكي يسقوا بها أرضها والحجارة.
لماذا التبرع بتقديم انتصارات مجانية لأعداء الأمة والمتربصين بأحلامها في غد أفضل؟!
لا ترحل الثورة برحيل بعض قادتها، ولا هي تنتهي أو تتوقف بغيابهم…
الثورة كالنهر تتفجر بها الأرض وتفتح لها في قلبها مجراها وتمنحها الرعاية والحماية وضمانة الاستمرار.
وإذا كانت الخيانة قد اردت قائدين بارزين من قادة حركة المقاومة الفلسطينية، فجر أمس في تونس، هما صلاح خلف (أبو أياد) وهايل عبد الحميد (أبو الهول) فإن اندفاعة الثورة العربية في فلسطين لن تتوقف، والأرض تستولد انتفاضتها أطفالاً وحجارة.
كذلك فالخيانة لا تغير تاريخ القائدين اللذين انضما إلى كوكبة الشهداء على طريق التحرير، ولا هي يمكن أن تطمس علاقة مرتكبها بالعدو، فالعدو هو القاتل كائناً ما كان اسم المنفذ.
حيث الدم هناك فلسطين.
يترك القادة بصماتهم الحمراء ويرحلون، فتنبت الأرض المزيد من الزنابق والحجارة والأطفال وشقائق النعمان.
خيط الدم هو الطريق إلى فلسطين… قد يهدر بعضه، وقد تشرب الأخطاء والخطايا بعضه، وقد يذهب التيه وافتقاد وضوح الرؤية ببعضه، لكن الطريق تظل هي الطريق والهدف يظل هو الهدف.
آه من الخطأ… لكم يبعدنا عن فلسطين!
الموت في الأرض البعيدة. الموت خارج الأرض. الأرضهي الزمن. إذاخرج الزمن من الارض خرج الإنسان من التاريخ، إذا خرجت الأرض من الزمن خرج الوطن من ضمير المواطن.
البعد هو الموت. الموت في البعد يلغي الحزن ولا يستبقي غير المرارة ولوم الذات ومحاسبة الضحية على الغفلة والتقصير والاطمئنان إلى أمان الغربة وافتراض أن اتساع المسافة يلغي العدو.
الثورة ثكلى، والثوار أيتام، والأرض تنبت حجرها بشراً وتقاتل الترمل وتهزم العقم وتروي بدمها الحلم السني حتى لا تبهت صورة الوطن أو تضيع منه المعالم.
في الغربة حيث لا وطن يقتحم الغبار الذاكرة، ويلتبس المنفى والبديل مع صورة البيت والبيارة. يصبح الشخص هو الوطن. الفلسطيني هو فلسطين، يشكلها ويعيد صياغتها على مثاله، بالحب والإيمان أحياناً، وبالمصلحة والانانية أحياناً أخرى. يسكن الوطن مخارج اللفظ، وتصبح “الدول” هي الطريق وجسر العودة. يتنامى الوهم بأن المزيد من البعد اقتراب. وإن الدوران من حول الكرة الأرضية ينتهي بنقطة البداية.
الذاكرة مقبرة باتساع الصحراء، والعمر شواهد قبور وصور، جامدة مجللة بالسواد للذين لا تتكامل ولا تنوجد إلا بهم ومعهم.
الأيام بأسمائهم… والعمر يبدأ بـ “كان” وينتهي بـ “لعلم” أو “يا ليت”. وليس بين الكلمات المفككة صلة غير أجداث الذين عبروا من الشتات إلى التشتت والضياع والموت المجاني.
لا تكاد تنهي الفاتحة حتى يرجعك التوغل في بحر الخطأ سوء التقدير إلى بدايتها فتتلبث تردد ولا تتعب: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، إياك نعبد وإياك نستعين”… “بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين…”.
لكأنما منذور للخسارة. تخسر الأرض، تخسر التاريخ، تخسر نفسك، تخسر الحق في أن تكون. تخسر الجدارة بادعاء الانتماء إلى أهدافك الجليلة.
لم يعد قاتلك “الآخر”. أنت قاتلك. أنت الضد. أنت العدو…،
لكن العدو غيرك. أزاحك ثم اقتحمك. ألغاك ثم استولد نفسه فيك فإذا أنت غير ما كنت وإذا هو في عينك غير ما كان. كبر بقدر ما صغرت. حسم منك ليأخذ لنفسه. مع الأرض أخذك منك، ومن الأرض أخذك، ومنك أخذ الأرض، ولبثت تنتظر أن يفاوضك على قبر وخيمة للمقرئ الضريب ونواح الأم الثكلى – يقتلك سلاحك، مرة أخرى، ويصبح العدو شاهد الاتهام والقاضي والديان!
يذهب الشهداء بلا وداع… ويقف القادة في مواكب التشييع بغير دموع.
والحرب مؤامرة، والثورة رفض للعدو الفارض الحرب. الثورة هي القرارالصح بالتقال في الزمن الصح والمكان الصح وتحت الشعار الصح.
ولأننا عرب فنحن ضد العرب.
ولأننا عرب فنحن في الحرب “عراقيون”، ونحن في الثورة “فلسطينيون”.
فهل تعود بغداد ونعود معها جميعاً إلى طريق فلسطين الذي لا يمكن أن يضيع عنه أو يضيعه مناضل.
فحيث الدم هناك فلسطين، وخيط الدم هو الطريق والراية.

Exit mobile version