طلال سلمان

على الطريق صُنع في لبنن…

… إذن فهي الانتخابات، أو “الحرب الجديدة” وإنما بوسائل وأشكال “ديموقراطية”، كما يراها البعض، ربما لأنها دهمته قبل أن يستعد لها، وربما لأن خصومه يرون فيها “الفرصة” التي طالما انتظروها لإحداث انقلاب كان يتعذر عليهم إنجازه في ظروف أخرى، أقرب إلى ما هو طبيعي.
هي الانتخابات، لكن الفولكلور فيها أقل من المعتاد، والطرافة تكاد تكون غائبة تماماً وكذلك التقاليد المرعية الإجراء وفيها المهرجانات ومنظموها و”المفاتيح” وكلفتهم الباهظة، و”الجولات” الترويجية التي تسوق المرشحين بأساليب تتراوح بين منتهى العشائرية وذروة التقدم التكنولوجي،
لذا يفتقد المدمنون، وكلهم متقدمون في السن، عناصر التشويق والإثارة، كما يفتقد المستجدون والداخلون إلى الحلبة لأول مرة ذلك “السحر” الذي سمعوا عنه وارتبط في ذاكرتهم باعتباره فعلاً مباشراً لتغيير الواقع… بقوة الديموقراطية!
وبرغم اللغط الذي يملأ جنبات البلاد (والمغتربات) فالحماسة غائبة، والأكثرية تذهب إلى الانتخابات من قبيل الواجب واستكمال الشكل والأصول، ولذا فهي تبدو “مضبوطة” في حركتها، حتى لا تذهب الحماسة ببعضهم إلى الحرب في زمن السلم، أو يغيب الاستنكاف صاحبه عن دائرة التأثير على مجرى الأحداث.
رؤساء اللوائح لا يجدون، في الغالب الأعم، من يكملون به قوائم “الوفاق الوطني” أو “الائتلاف” الاضطراري على غير ما قاعدة سياسية،
والناخبون لا يجدون – مهما صغرة الدوائر – من هم جديرون بأصواتهم، لأنهم لا يعرفون من المرشحين أو عنهم ما يكفي للحكم لهم أو عليهم.
ليست للبلاد ذاكرة واحدة،
وليست للانتخابات قضية مركزية محددة،
ليس للمرشحين ، في أية منطقة، برنامج سياسي يصلح أداة قياس ليمكن في ضوئها الحكم واتخاذ القرار السيلم.
البلاد جهات وطوائف ومذاهب، والتقسيمات الإدارية لا تلغي الانقسام الفعلي ولا هي الجسر الصالح للعبور إلى المصالحة ومن ثم إلى الوحدة.
والناخب إما إنه بلا ذاكرة، أو إن ذاكرته مزدحمة بالشيء ونقيضه بحيث تشل قدرته على التمييز. هل هي معايير صالحة تلك التي طالما اعتمدها قبل الحرب في حكمه على السياسيين ومواقفهم، أم قد تجاوزها وتجاوزهم الزمن ولا بد من معايير جديدة تصلح لليوم وللغد الضبابي الملامح؟!
الذاكرة الوطنية ليست حصيلة جمع ذاكرات جهوية، والنتف الملمومة من هنا وهنا لا تشكل إذا ما ألصقت إلى جانب بعضها البعض ذاكرة موحدة، خصوصاً في غياب أي برنامج سياسي تفصيليز
لا الماضي مقبول بذاته، ولا هو مرفوض تماماً إذا ما قورن بالحاضر… فمن كانوا يوصفون بـ “التقليديين”، وكانوا موضع الهجوم والتشهير بوصفهم رموز الأقطار واستغلال النفوذ، يستعيدون الكثير من اعتبارهم متى قورنوا بالخلفاء المحتملين ممن أنجبتهم الحروب القذرة متعددة الشعارات والأغراض التي توالت على “الساحة اللبنانية”.
والذين تصدروا المسرح في أعقاب الاجتياح الإسرائيلي وسادوا بقوة الميليشيات الطائفية والمذهبية، بزوا أهل التقليد في الارتكاب والتجاوز واستغلال النفذ والاثراء غير المشروع وتسخير الدولة لخدمة مصالحهم الخاصة،
وليس ثمة مجال لفئة ثالثة، أي لتلك النخب الفكرية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي كانت تعمل لتأسيس حركة تغيير وشق تيار جديد طموحه إخراج البلاد من المستنقع الطائفي الذي يحول دولتها بالضرورة إلى مزرعة للأكثر قدرة على الإفادة من الفساد وإفساد الآخرين.
وإذا كانت الحرب الأهلية قد سحقت، أول ما سحقت، الطبقة الوسطى وبرنامجها ورموزها، فإن القوى التي انتفعت بهذه الحرب قد عملت وهي ما تزال تعمل لشطب أي دور لهذه الطبقة ونخبها في المستقبل. وأهل التقليد، أو الاقطاع، ارحم مع هؤلاء من الميليشيات الطائفية والمذهبيةن فالقادة الجدد ينصبون أنفسهم أسراً مالكة ولا يرون مجالاً أو مبرراً لوسطاء بينهم وبين “رعاياهم” أو “شعبهم المخلص”.
إنها انتخابات ذات وظيفة سياسية محددة، والمهم فيها ليس مدى شعبية الفائزين فيها وتعبيرهم عن الإرادة الوطنية وتجسيدهم لروح الديموقراطية، بل تلبية هؤلاء لمتطلبات المهمة السياسة الملقاة سلفاً على عاتقهم.
إنه مجلس نيابي لدور مقرر سلفاً، ولذلك فالاهتمام بمحاور الاستقطاب وضبط الحركة والإيقاع فيه أكثر من كفاءة أعضائه.
ربما لهذا تبدو وكأنها انتخابات بلا قضية، لها ارتباطها المباشر بحياة المواطن اليومية وهمومه وتطلعاته وشوقه إلى غد أفضل.
ربما لهذا، أيضاً، لا تعرف المعارضات المختلفة كيف تتفق وكيف توحد خطابها السياسي، خصوصاً وإنها هي أيضاً بلا قضية.
أما القائلون بالانتخابات فيكفيهم اللجوء إلى الموقف المبدئي: ضرورة التغيير، وحق المواطن في اختيار نوابه بعد عشرين سنة من الانقطاع عن العمل السياسي وممارسة الديموقراطية المباشرة، تشريع الوضع القائم في لبنان ما بعد الحرب بحيث لا يظل قابلاً للطعن والتشكيك في شرعيته الخ…
بالمقابل:
لا أوهام لدى الناخبين، ولذا فلا مطالب حياتية، ولا مطالبة ببرنامج سياسي محدد. والأسوأ: لا مجال لمحاسبة على الماضي، ولا فرصة للحكم على صدق الوعد المبذول. فالمستقبل لله، ولله في خلقه شؤون.
كذلك فلا وعود من المرشحين (المفترضين) بالمشروعات والخدمات من ماء وكهرباء وهاتف وطبابة ومواصلات وطرق معبدة الخ…
إذن هي الانتخابات،
… وليس في البلاد ما يكفي من “الناس المعروفين” ليكونوا نواب المستقبل.
فالحزبيات القديمة وهنت وضعفت، والعصبيات المحلية تتهاوى في لحظة الاختيار الضميري حتى الغرائز الطائفية والمذهبية لا تصمد في تلك اللحظة المباركة وسيتحرر المثقل بها من عبئها متى أمسك بالقلم وهم بكتابة أسماء من يستحقون ثقته ومن يأتمنهم على مستقبل أبنائه.
إنما نصنع نوابنا!! إنما نصنع الآن أسماء المعروفين منا، إن على مستوى القضاء أو المحافظة أو الدائرة بمحافظتين (على وزن البيضة بصفارين)!!
فهل بعد هذا إثارة وتشويق؟!
مع ذلك فالانتخاب حق طبيعي وواجب مقدس،
فكيف إذا ما كنا ننجز الآن ما تفاخر به الأجيال غداً: الديموقراطية البرلمانية على الطريقة اللبنانية، ومشغولة بالإبرة، وصناعة يدوية وليس من إنتاج الآلات التي تذهب بالفرادة.
في ظل هذا الكم الهائل من الديموقراطية يظل السؤال مشروعاً: ولكن، أي هم الديموقراطيون؟!
وتلك مسألة أخرى متروكة للمجلس العتيد.

Exit mobile version