طلال سلمان

على الطريق صورة من بعيد!

ترتفع بك الطائرة وترتفع، لكنك لا تبتعد ولا تغيب! تصبح فوق المطر والغيم والضباب ومدى القذائف وصدى القصف العشوائي وهرطقات “التصريحات اليومية” وصور النشاطات الاجتماعية للقوى السياسية عبر لقاءات التسالي كمثل “عرض التطورات والمستجدات في أزمة الشرق الأوسط” أو نتائج مباحثات سالت – 2″.. لكن ما في البال باق، والحزن في الصدر مقيم، والجنوب وشاح أسود يلف العالم كله ويتجاوز موقع رفيق السفر فيغدو اسمك والهوية.
وفي بودابست ، عاشقة الدانوب الخضراء، تسحرك وداعة الجمال الطبيعي، ولمسة الفنان هنا وهناك، ويغمرك المجريون بروح الود والتعاطف، لكن الجنوب يملأ عليك الأفق والهواء ويضيق رقعة الحوار مع مضيفيك اللطفاء.
ويمزقك الشعور بالهوان حين تنهال عليك تلك الأسئلة المنطقية التي خلاصتها: لماذا لا تغيرون واقعكم المخزي، يا رفيق؟!
وتنتبه إلى أن أنظمتك تستخدم معك ومع العالم منطلقاً مخزياً ومفضوح الكذب: فهي ترغب في “تحرير” أرضها، ولكنها تحترم سلام العالم، ومن هنا فهي تطالبه هو بأن يحرر لها أرضها! وهي لا تفكر باستخدام النفط كسلاح سياسي لخدمة أهداف نضالها، لأنها تريد الخير للعالم، وتحرص على رخائه وتقدمه، ومن هنا فهي تعطي نفطها للأكثر تقدماً، مبقية بلادها الأكثر تخلفاً واثقة من أخلاق الأميركان وشهامتهم ووفائهم!
وتنتبه إلى أن صورتك في عين العالم، وبفضل ممارسات حكامك والشيوخ، هي واحدة من ثلاث:
*أهبل نفط مقبل على الدنيا بفجع قل نظيره، ومستعد لأن يبيع كل شيء ويتنازل عن كل شيء ويعطي كل شيء من أجل نزوة.. شقراء!
*فارس من فرسان الجمل الثورية يخطب ويناقش ويحاضر مستخدماً تلك الكلمات الكبيرة جداً، فإذا جاء زمن الفعل اختفى حتى كأنه لم يولد قط!
*عنصر مخابرات يطارد بالدسيسة والوقيعة أو بالمسدس والقنبلة مواطنيه ويستغل فرصة وجوده في الخارج لجني بعض الأرباح مستفيداً من خيرات السوق السوداء وميزات الدولار الذي لا يقهر!
وخلال المناقشات وجلسات المباسطة تأخذ الحيرة بخناقك: فإذا قلت الحق نظر إليك الآخرون بإشفاق واحترموا فيك نموذجاً عربياً لدون كيشوت – هذا في أحسن الحالات – وابتسموا في سرهم من سذاجتك وقلة خبرتك بالسياسة، وإن تبنيت “الخط الرسمي” للسياسة العربية أنكرتك نفسك وحاصرك الشعور باحتقار الذات فكيف تعمم ما تعرف إنه كذب ودجل مفبرك للاستهلاك المحلي أو العالمي لا فرق؟!
وتتوثق، عبر محن المواجهة مع الآخرين، تلك الرابطة المتينة بينك وبين الفلسطيني فكلاكما “موضوع” أو “حالة” للمراقبة والدراسة والاستنتاج!
أنت لا أحد! ووطنك مجرد مساحة مشاع، وأمتك حرم مستباح للساداتيين والإسرائيليين والأميركان، وقضاياك محكومة بأن ينظر إليها بوصفها من مشتقات النفط!
أنت لا أحد! فحكامك يلغون تاريخك ليكونوا، وتاريخك يتناقض مع واقعك بحيث لا يمكن أن يكونا معاً وأن تكون فيهما!
أنت لا أحد، وإلا فلماذا يبقى السادات؟!
أنت لا أحد، وإلا فلماذا يقدر سعد حداد أن يفعل ما يفعله في الجنوب؟!
أنت لا أحد، وإلا فأين ذهبت مقررات القمم والمؤتمرات السرية والعلنية؟
إذا كنت أنت مصر فمن هو السادات ناهيك بالـ 99,99%؟!
وإذا كنت أنت أنت الأمة فمتى يجيء يومك وكيف؟
وفي صوفيا يلتقيك الشباب باللهفة والحنين العظيم وعلى الشفاه ألف سؤال، لكن الصمت سرعان ما يرين عليهم جميعاً إذ لا جواب غير الجواب المعروف: القضية معقدة ومتشابكة! إنها قضية سنين لا قضية أيام! ولا ضوء يشق عتمة الليل الطويل!
وهكذا تتقلص الجلسة إلى تطمينات عن الأحواب الشخصية والأهل وأسعار الأراضي وتكاليف البناء ومستقبل الخريجين!
فإذا غاب الوطن أو تغيب تبقى أنت، ومن حقك – في مثل هذه اللحظات – أن تعتبر وجودك واستمرار هذا الوجود شرطاً لبقائه أو لعودته غداً أو بعد غد أو بعد بعد بعد بعد غد!
وفي ميلانو تزور معرضاً للطباعة فإذا الحشد “لبناني”: هذا قادم من السعودية وذاك من الكويت والثالث من قطر والرابع من باريس والخامس من لندن، وفي اللحظة الأولى للتلاقي تهجم الأسئلة ثم تتوارى جميعاً خلف الاقتناع المشترك للكل بأن الجرح المفتوح سيستمر مفتوحاً حتى إشعار آخر!
أنت لا احد، أنت “حالة”، أنت “موضوع”، أنت في أحسن الحالات “قضية عادلة”، لكن العدل شرطته بندقية مشرعة وإرادة قتال مطلقة، والقتال جنون لا يقدم عليه الحاكم العاقل و”الحسيب”، والنفط سلاح أخطر من أن يترك في أيدي البدو المتخلفين الذين يدللون – يومياً – على أنهم هم أيضاً قد دخلوا دائرة العقل شرط أن تتضمن مائدة للميسر وندامى وبعض ما لذ وطاب من نعم الله وأفضاله!
وتصل طرابلس فإذا أنت في دنيا أخرى: تسمع لغة مختلفة تصدر عن ذلك النمط في التفكير الذي يراه الباقون “جنوناً”! وتحب هذا “الجنوب” الذي يمكنك من استعادة انسانيتك! فأنت إذن لست مجرد “حالة” معروضة أمام هواة البحث والاكتشاف العلمي، وأنت لست بعض الأرض والناس المهجرين الباحثين عن مأوى ورغيف خبز للصغار.
أنت الأمة،
أنت المئة وأربعون مليوناً: بأحزانهم وهمومهم وتخلفهم وشوقهم إلى غد أفضل.
أنت ذلك الفتى دون العشرين المقتحم بالرشاش والقنبلة الدولة – الحصن، والترسانة الأميركية المزرعة في “الشرق الأوسط”.
أنت تلك الآلاف ومئات الألوف والملايين التي ما فتئت تطالب بأن يسمح لها بأن تقاتل، بأن تستشهد ، فحرمت حتى من حق الموت من أجل وطنها وغدها واستمروا يقتلونها كل لحظة من أجل أن يكونوا هم أيضاً الغد!
وحين ينعقد “اللقاء بين الثورتين” تكتشف أن لبنان أكبر مما ظننت، لقد كبر بالقتال ضد العدو الإسرائيلي حتى بات أكبر من المستسلمين والمتخاذلين جميعاً، تماماً كما كبر الفلسطيني المشرد حتى بات أكبر بكثير من المتسلطين على ملايين الكيلومترات المربعة!
الحل سهل، إذن، ومتيسر: قاتل فتكن! تهاون أو اصمت فتلغ نهائياً، ويؤرخ لك بوصفك “حالة” كانت ذات يوم ثم اندثرت!
قاتل ضد نفسك أولاً، ضد الشعور بالاسترخاء والميل إلى الراحة والتلذذ بنعم النفط،
قاتل ضد اليأس، فليس السادات أول الخونة ولن يكون آخرهم،
وقاتل ضد “التأمرك”، فأميركا ليست بعيدة، إنها مثل إسرائيل والسادات، في داخلك، وفي كل مكان من حولك وحواليك،
وقاتل ضد “العقلاء” فهم ليسوا إلا الوجه الآخر للهزيمة،
وأهم ما تعود به من رحلة طويلة، برغم الألم والحزن والتمزق، إنك لست وحدك، وإن هذا الذي يطفو فوق السطح لا يعبر عن ضمير الأمة التي تغلي أعماقها بالأفكار “المجنونة”ز
فقط قليلاً من الصمود، لأن صمودك هو هو مفتاح الغد، والوطن العربي كله جنوب: في اليقين وليس بالتمني، في واقع الاحتلال المباشر أو المقنع وليس بمجرد التحليل والاستدلال المنطقي.
والمعركة طويلة حقاً ، لكن الصمود هو الذي يقصر أمدها ويقرب نهايتها وليس الاستسلام أو القعود عن النضال وانتظار يقظة الضمير العالمي.
لقد انتهى لبنان الماضي، والبديل عن لبنان المقاتل هو لبنان – المحمية الإسرائيلية، وعلينا أن نعي هذه الحقيقة وأن نتصرف على أساسها، وإلا خسرنا الواقع والحلم، اليوم والغد، واستمرت أنظمتنا المجيدة تتحدث عن الحرية والديمقراطية والشعب السعيد!
… واستمرت عين الرمانة بدايتنا والنهاية مركز الكون!

Exit mobile version