طلال سلمان

على الطريق صورة الغد العربي في العين الإسرائيلية القلعة والرعايا…

“الأخبار” تذهب بالعواطف والتمنيات،
.. أما صورة الغد كما ترسمها أجهزة التخطيط الإسرائيلية فتفرض استحضار العقل العربي، أو ما تبقى منه، استعداداً للأسوأ، أي للنتائج التي لا بد أن يستولدها هذا الواقع المهترئ بتداعياته المنطقية.
هنا ملخص لتقرير شامل أعدّه بعض الخبراء العرب في الشؤون الاستراتيجية بعد جولة واسعة على مراكز الأبحاث والدراسات، وبعد سلسلة طويلة من اللقاءات مع العديد من المعنيين في “مركز القرار” عن “صورة الغد في منطقة الشرق الأوسط”:
1 – إسرائيل – القلعة
يركز العقل الاستراتيجي الإسرائيلي على نموذج “القلعة”، مستبعداً النموذج الأمبراطوري، تجنباً لتكرار التجربةالفاشلة للصليبيين.
*الهيمنة هي المطلوبة لا السيطرة، أي أن القلعة تفتح أبوابها صباحاً فيندفع الإسرائيليون إلى أقصى المشرق، أو أقصى المغرب، يجمعون حصيلة هيمنتهم على مختلف موارد المنطقة، ثم يعودون مع الليل، لا “إمارات”، ولا “حصون” تحمي الطرق، ولا “جيوش” عند الثغور.
*طبعاً، لا بد من شبكات من الأوتوسترادات تربط “القلعة” بمناطق الهيمنة جميعاً، معززة بشبكة من خطوط السكك الحديدية، لتوطيد السيطرة الاقتصادية، لكن الإسرائيليين لا ينوون المخاطرة، بل ستكون وسيلتهم الشركات متعددة الجنسيات والوسطاء من الفلسطينيين أو الأردنيين (ومن يقع في الشبكة من “رجال الأعمال” العرب الآخرين).
*على الصعيد العسكري: لا بد من نزع سلاح “الأعداء السابقين”، وتسريح الجيوش، وضمان استمرار التفوّق الإسرائيلي المطلق (على كامل المنطقة) لمدة خمسين عاماً على الأقل.
*إسرائيل غير معنية بأن يتقاطر على شواطئها ومنتجعاتها “السياح” العرب، إنها تريد ثرواتهم والمياه وكل أسباب القوة التي يملكون، ثم فليذهبوا حيث شاؤوا. ليست مصيفهم وفندقهم. إنها “السيد”. إنها الدولة المركزية وهم أشتات ومشيخات ومحميات لا أكثر.
2 – إسرائيل – الاردن والفلسطينيون
يأخذ الإسرائيليون على الملك حسين تردده. بل إنهم يصفونه بالجبن، ويقولون أنه خذلهم، بعدما كان قد التزم معهم، فاضطرهم إلى الاندفاع في خيار آخر لم يكونوا يرغبون به، وهو التوقيع مع الطرف الفلسطيني. وبرغم اطمئنانهم الكامل إلى شخص ياسرعرفات وتفضيله عن أي فلسطيني آخر، وبالمطلق، فلو أن الملك حسين التزم بما تعهد به لأغناهم عن التورط في المغامرة المحسوبة “اتفاق أوسلو”.
ويقول الإسرائيليون أنهم كانوا أحرص الناس على حياة ياسرعرفات. وأنهم قلقوا أشد القلق حين سقطت به الطائرة في الصحراء الليبية، ثم أسعدهم نبأ نجاته، وأنهم تقصدوا أن يبقوا عليه وحده في تونس، بعد تصفية خلفائه المحتملين، ويخلصون إلى أن وظيفته في طريقها لأن تنتهي خلال فترة وجيزة، ويرشون محمود عباس وفيصل الحسيني ونبيل شعث (كثلاثي) لتولي المسؤولية خلال مرحلة الانتقال إلى “الوضع الدائم”.
يضيف الإسرائيليون : أن لعبة الملك حسين بالتقرّب من سوريا كانت مكشوفة، لكن الأميركيين تدخلوا طالبين تسوية الأمر معه، بعدما تلقوا منه ضمانات كافية بأنه لن يرجع مرة أخرى عن تعهداته.
وخلال اللقاء الأول بين الملك وإسحق رابين فإن رئيس حكومة إسرائيل قد بدأ حديثه بالقول: “-لقد شخت أنا، ومرضت أنت، وعلينا أن ننجز ما كنا بدأناه لتطمئن على مستقبل العرش الهاشمي، فإذا ما التزمت معنا أعدنا العرب إليك وفتحنا أبوابهم أمامك”.
على أن التقرير لا يسقط احتمال زوال العرش بمجرد غياب الملك حسين، وهو يتحدث عن “الوريث” باعتباره تحالفاً بين الجيش الأردني والوجهاء الفلسطينيين المتأردنين.
3 – إسرائيل – سوريا ولبنان
ليس في حسابات المؤسسة العسكرية الإسرائيلية (الحاكمة) أن تجيء لحظة يلتقي فيها الرئيس السوري حافظ الأسد مع إسحق رابين مثلاً، بل أنهم يستبعدون أن يقبل الأسد (شخصياً) بوضع توقيعه على أي اتفاق سلام معهم.
وينقل عن رابين أنه أبلغ الرئيس الأميركي كلينتون ما مفاده: “لقد سمعت الرئيس الأسد يتحدث إليكم عن صلح الشجعان. هذا مرفوض تماماً. الصلح الوحيد المطروح هو صلح الأقوياء، ونحو الأقوياء، ونحن من يفرض شروط الصلح”.
ويدرك الإسرائيليون أن سوريا لا تتعجل “السلام” بأي ثمن، ولن تقبل بشروط كالتي قبلها الملك حسين أو عرفات أو حتى مصر السادات، وأنها – بالمقابل – تعرف أن الظروف غير مؤاتية حالياً لتعديل هذه الشروط، لذلك تفضل إرجاء الأمر أطول فترة ممكنة، مراهنة على “تغيير ما”، على الصعيد العربي أو على المستوى الدولي، يمكنها من تحسين الشروط، وإلا فإن بوسعها أن تنتظر سنوات أخرى.
على هذا يتوقع التقرير أن يتزايد الضغط الإسرائيلي على سوريا سياسياً في واشنطن، وميدانياً في لبنانز
ويؤكد التقرير أن النفوذ الإسرائيلي على إدارة كلينتون غير محدود، و”أن رابين هو الأقوى إطلاقاً وما يقرره يكون، وأنه لو تولى وزارة الخارجية عربي متطرف لما تبدّل حرف في السياسة الأميركية في المنطقة، فهي إسرائيلية جملة وتفصيلاً”.
على الهامش، يشير التقرير إلى أن الإسرائيليين أبلغوا دمشق، عبر واشنطن وأقنية أخرى غير مباشرة، “أن سمير جعجع غير متروك، وأن تصفيته مع تنظيمه لن تمر بغير حساب”.
وفي التفصيل: أن عملية الكوماندوس في قصرنبا واختطاف مصطفى الديراني، ثم الغارة على مركز تدريب للمتطوعين في “حزب الله” في عين كوكب – بجرود بعلبك ، والغارات الوهمية وخرق جدار الصوت في البقاع يومياً، كل ذلك كان للتعبير وبشكل فج “أن تصفية سمير جعجع وتنظيمه لن تمر من دون عقاب”.
ويحذر التقرير من احتمال قيام إسرائيل باعتداء واسع النطاق، على غرار “عملية تصفية الحساب” في تموز الماضي، وإنما بأسلوب مختلف، “لدفع عشرات الآلاف من المهجرين من الجنوب وربما بعض البقاع في اتجاه بيروت، بما يربك الحكم ويزعزع أكثر فأكثر هيبة الوجود العسكري السوري والنفوذ السياسي السوري في لبنان”.
4 – إسرائيل والعراق
تخطت العلاقة بين إسرائيل والنظام العراقي المستوى الشكلي أو الرمزي وأخذت تكتسي بمضامين سياسية واقتصادية ذات أبعاد استراتيجية.
وإذا كان اللقاء الذي تم مؤخراً بين نائب رئيس الوزراء العراقي طارق عزيز وبين الدبلوماسي والأكاديمي الإسرائيلي البارز ايتمار رابينوفيتش، هو الجزء البارز من جبل الثلج، فإن شبكة العلاقات “الثنائية” تشمل الآن إضافة إلى السياسة النفط والمساعي المبذولة لرفع العقوبات أو بعضها، والمسألة الكردية والعلاقة مع تركيا وبطبيعة الحال العلاقات بين واشنطن ونظام صدام حسين.
فإسرائيل موجودة في بغداد، سراً، وداخل الحركة الكردية في الشمال بمختلف فصائلها عملياً، مع محاولات لمد شبكاتها داخل بعض الفئات الطائفية والعناصر العرقية وما أكثرها في العراق.
وتشكل العلاقات الإسرائيلية – التركية الوثيقة حزاماً إضافياً من حول العراق، ويجري استخدام هذه العلاقات كحاضنة للنظام توظف أزمته الداخلية من أجل الحصول على تنازلات يمكن استخدامها لاحقاً في مواجهة سوريا وإيران خصوصاً، كما على مستوى الصراع العربي – الإسرائيلي بمجمله.
ويتضمن التقرير إشارة سريعة إلى أن إسرائيل استمرت تشجع النظام الأردني على الإبقاء على بعض جسوره ومعابره مع النظام العراقي، بذريعة اقتصادية معلنة وكستار مفيد لتمويه النفق السياسي الذي كان الإسرائيليون والعراقيون يعملون على توسيعه باستمرار.
5 – إسرائيل ومصر
لا يحظى الحكم المصري بالكثير من التقدير لدى الإسرائيليين.. أما الأميركيون فلم يعودوا يتحفظون في إظهار “فجيعتهم” بالرئيس المصري حسني مبارك وحكومته وإدارته ورموز الانفتاح “الذين لو كانوا في أي بلد آخر لأمضوا بقية أعمارهم في السجون لمسلكهم المشين ولتسببهم في تدمير الاقتصاد المصري بالنهب المنظم وبالرشوة والإفساد المنهجي وبضعف انتمائهم الوطني”.
ويجمع الطرفان على توصيف جهاز الحكم في مصر بأنه نموذج فاقع للفساد والانهيار الخلقي والتخلف السياسي.
ويأخذ الإسرائيليون على الأميركيين أنهم تساهلوا أكثر مما ينبغي مع مبارك مما شجعه على التجديد لنفسه ولاية ثالثة، ثم على التفرد بالحكم وإلغاء الآخرين جميعاً “حتى أنه يرفض مجرد البحث في تعيين نائب له لأنه لا يرى في مصر كلها من هو جدير بمثل هذا المنصب”.
ومع أن الإسرائيليين سعداء بوجود عمرو موسى في وزارة الخارجية وبالنفوذ الواسع الذي يتمتع به رئيس الحزب الحاكم ونائب رئيس الوزراء – وزير الزراعة يوسف والي، داخل السلطة، فإنهم يتحدثون وكان النظام يعيش حالة احتضار.
ويسجل الإسرائيليون على رجل النظام في مصر أنهم “يخافون” من الأسد أكثر مما يجب، ويتهيبونه كثيراً، ولذا فهم يستدرجونهم للتواطؤ على الموقف السوري بذريعة أنه يفضحهم ويحرجهم أمام الجمهور المصري.
وفي تقدير الإسرائيليين فإن “الوريث الشرعي” للحكم القائم هو “تحالف ما بين الجيش وبين “أعدائه” الحاليين من الأصوليين”… وهم يتركون للأميركيين أن يعملوا على نسج مثل هذا التحالف العتيد محتفظين لأنفسهم بحق الفيتو، خصوصاً وأنهم لا ينظرون إلى الأصوليين جميعاً على أنهم واحد، وهم يطمئنون إلى بعضهم ويتهيبون بعضهم الآخر ويقاتلون البعض الثالث الأكثر وعياً والأكثر استعداداً للانفتاح والحوار مع القوى السياسية (والعسكرية) الأخرى.
هذه بعض ملامح “صورة الغد” في المنطقة كما تراها، أو كما تريدها، القيادة الإسرائيلية.
تبقى استدراكات محدودة:
*انتهى مؤتمر مدريد، خصوصاً وقد أدى غرضه بالاتفاق مع القيادة الفلسطينية ثم مع الملك حسينز
*لم يتوقف التقرير طويلاً عند الموضوع الأثير لدى الإسرائيليين وهو “مستقبل سوريا بعد حافظ الأسد”، والذي ينطلق دائماً من مقولة ثبت أنها غير صحيحة وهي أن الحالة الصحية للرئيس السوري ليست على ما يرام، وأن فجيعته ببكرة باسل قد أثرت فيه كثيراً برغم تماسكه الظاهر.
*أشار التقارير إلى نظرية إسرائيلية مستخلصة من التجارب مع الحكومات العربية التي توصلت إلى اتفاقات منفردة معها، وخلاصة النظرية أن “العرب يناقصون ولا يزايدون في تسعير الاتفاق المنفرد، فبينما كان السعر مع السادات في مصر بضعة مليارات من الدولارات مقسمة على عدد محدود من السنين، فإنه مع عرفات قد تدنى إلى نحو مليار (على دفعات تمتد طيلة سنوات الحكم الذاتي)، بينما ارتضى الملك حسين ببضع مئات من ملايين الدولارات هي قيمة الديون الأميركية عليه”.
استدراك أخير: قد تكون هذه الاستنتاجات والتقديرات دقيقة أو لا تكون، ولكن المهم ماذا نفعل نحن، وماذا نعرف نحن، وماذا أعددنا نحن للغد.. غدنا في أرضنا!

Exit mobile version