طلال سلمان

على الطريق صواريخ على اسمر البشرة!

مبكراً جاء الموت الأميركي واختطف الطفلة العربية “هناء” وهي لما تتم شهرها السادس عشر،
وبالمصادفة وحدها نجا أطفال آخرون كانوا مع “هناء” في البيت ذاته، وإن كان اثنان منهم قد أصيبا بجراح خطرة هما “سيف العرب” و”خميس”،
لم يكن ثمة خطأ في الأمر، فليس الهدف الأمس العربي، أو حتى الحاضر العربي بل هو، على وجه التحديد، الغد العربي،
ولكي يكتسب الواقع وهج الرمز نجح الأميركيون في اغتيال “هناء” العرب وفي ثلم “سيف العرب” وشقيقه “خميس” وكلهم من عدة الغد، وكلهم وعد بالأفضل.
لم يكن ثمة خطأ في الأمر، ولم يرتبك ريغان والريغانيون أمام صور الأطفال الممزقة أجسادهم الصغيرة، المشوهة وجوههم والابتسامات الملائكية التي كانت مرتسمة عليها لحظة الإغارة ومعها تلك الأحلام الساذجة عن رمضان الآتي بعيده والهدايا بعد أيام قلائل.
على العكس تماماً ، فلقد هتف “الرئيس” وردد من خلفه الهتيفة: “لقد ضربنا الإرهاب فأصبنا منه مقتلاً، وأما الأطفال فكانوا سيصيرون إرهابيين بالتأكيد في المستقبل، ومن حقنا في حرب وقائية مشروعة كالتي نشنها أن نستأصل شافة الإرهابيين الحاليين والمستقبليين”!
لم يكن في الأمر خطأ، فالرئيس قد سجل اسمه في التاريخ بوصفه أول من استخدم أسطولاً كاملاً في محاولة اغتيال رجل هو قائد لشعبه وزعيم في أمته التي تفصلها عن الولايات المتحدة الأميركية آلاف الأميال.
ولقد هتف الرئيس: “فعلتها ونجحت” وردد الهتيفة من خلف الكاوبوي الدولي: “برافو! ونحن نشهد معك بأنك كنت في حالة دفاع عن النفس!”
ومن يمكنه الانكار أن “هناء” العربية كانت تنغص على ريغان، والريغانيين، في أربع رياح الأرض، “هناء” عيشه كسيد للكون، كلي القدرة، كلي القوة، كلي السيطرة، يرفع من يشاء ويذل من يشاء، يحيي من يشاء ويميت من يشاء، ولا تسقط شعرة من رأس مخلوق إلا بإذنه!
لم يكن في الأمر خطأ، ولا ارتكب الطيارون حسنو التدريب أية مخالفة: لقد أطلقوا صواريخهم المدمرة وثقتهم مطلقة بأن الإصابات ستكون مباشرة وقاتلة، فأشعة الليزر تقود الصاروخ إلى هدفه المحدد بدقة بغير خلل ولو بنسبة واحد في المليون،
ثم إنهم لم يكونوا ، أصلاً، بحاجة إلى إحداثيات، فالمهم أن يصيبوا أكبر عدد ممكن من البيوت والمرافق والمنشآت (والخيام…)، وأن يقتلوا أكبر عدد ممكن من البشر، لا يهم أن يكون بينهم عجزة أو نساء أو أطفال رضع.
لم يكن في الأمر أي خطأ، قالوا لهم: اذهبوا فدمروا أي كائن حي يحمل المواصفات الآتية: أسمر البشرة، عالي الجبهة، فاحم الشعر مجعده، عسلي العينين أشهلهما، ويا حبذا لو كان أسود العينين طويل العنق، أسيل الخدين، كث الشاربين، مرفوع الرأس بعزة الانتماء إلى أمة عظيمة، ولا بأس إن كان على جبينه أثر من طول السجود.
قالوا لهم: اسم الهدف أحمد، محمد، معمر ، خليل، سليم، الخويلدي علي، يوسف، مفتاح، سيف الإسلام، محمود، طه، حسين، حسن، سمير، طارق، زياد، نافع، أبو بكر، عقبة، عثمان، الأمين، موسى، نصير، عبد الله، ضو، فرج، عمر، صالح، سالم، عبد السلام نوري، أبو زيد، عبد اللطيف، البهلول، امحمد، مصطفى، منصور.
وقالوا لهم: اسم الهدف فاطمة، خديجة ، عائشة، سالمه، مباركة، صبيحة، زينب، سكينة، أم البنين، رجاء، أمل، أم السعد، صابرة، سعدية، الزهراء، فتحية، نادية، تحية، محمودة، سناء، زينة، رابعة، صباح، ست البنين.
وقالوا لهم: الهدف أي اسم يكتب أو ينطق بالعربية، جورج، جوزف، أنطوان أو طانوس، سمعان، بطرس، بولس، جبرايل، ميخائل، أو ميشال، عيسى، فادي، الياس أو إيليا أو إيلي الخ…
قالوا لهم باختصار: الهدف هو الكائن العربي، كل عربي، وكتبوها للتوضيح هكذا “ع. ر. ب. ي”.
لم يكن في الأمر أي خطأ، فالعرب هم الإرهابيون ومن قبلهم لم يعرف “العالم الحرب” أو “العالم المتحضر” الإرهاب لا بشكل الاغتيال الفردي ولا بشكل ضرب المنشآت والمؤسسات،
فالعرب هو الذين حاولوا اغتيال ريغان ذاته،
واغتالوا من قبله جون كنيدي،
بل ومن قبل القبل، هم الذين اغتالوا أبرز مؤسسي الولايات المتحدة الأميركية إبراهام لينكولن،
… وهم الذين أبادوا سكان أميركا الأصليين، الهنود الأحمر،
والعرب هم الذين قصدوا بولونيا وبعض أنحاء أوروبا الشرقية والاتحاد السوفياتي فطاردوا يهود الحركة الصهيونية واقتلعوهم من جذورهم واغتصبوا أرضهم وحقوقهم المشروعة في أوطانهم “الفلسطينية”..
… وهم الذين قصدوا إلى كوريا فاحتلوا ما أمكنهم احتلاله من أرضها، وفرضوا على الشعب الواحد الانقسام في دولتين الحد بينهما مثل إعادة التوحيد: الحرب العالمية الثالثة!
والعرب هم الذين هاجموا فيتنام فأبادوا ثلث شعبها وشوهوا ثلثا آخر وفرضوا القتال حتى الموت أو النصر على الثلث الثالث، وأحرقوا سماءها وأرضها وزرعها وماءها وكل أثر للحياة فيها.
والعرب هم أبطال عملية خليج الخنازير ضد شعب كوبا، وعملية غرانادا، ثم إنهم هو الذين اغتالوا الليندي ومعه ربع شعب التشيلي وشردوا ربعاً آخر وفرضوا القهر على من تبقى داخل وطنه،
هذا بغير أن ننسى إن العرب هم أول من استخدم القنبلة الذرية فدمروا بها مدينتين في اليابان، وما زالوا يطورون أسلحة الموت ليدمروا العالم كله!
لم يكن في الأمر أي خطأ، فأمام العربي خيار محدد أن يموت ذلاً أو يعيش ذلاً.. لا حق له في أرضه ولا في خيرات أرضه، ولا حق له في الحرية بأي شكل من أشكالها الشخصية أو الوطنية أو القومية ، ولا حق له في الكرامة والسيادة والاستقلال والوحدة على وجه الخصوص،
فإذا ما اعترض أو انتفض أو ثار على ذلك القهر المفروض مباشرة أو بواسطة حكامه المستسلمين والعملاء،
وإذا ما حاول أن يطل على عالم القرن العشرين، أن يأخذ نصيبه من العلم، أن يعرف أمته وتاريخها ودورها، أن يحب أرضه فيحميها بدمه وسيفه ومآقي العيون والقصيدة واللحن والأغنية.
إذا ما أراد أن يكون إنساناً له مثل أولئك الذين يقرأ لهم أو يقرأ عنهم أو يدهشه نمط حياتهم، وتقدمهم و”ديمقراطيتهم” في البلاد الأخرى، وهي غربية دائماً في نموذجها المفضل لديه عموماً.
إذا ما أراد أن يحرر أرضاً مغتصبة، ويستعيد بيته وسريره ومخدته وذكرياته والجبانة المدفونة فيها رفات أجداده
إذا ما أراد أن يستعيد ثروة طبيعية منهوبة، أو مرافق ومؤسسات وشركات (قناة السويس، النفط، المصارف الخ)، أرباحها كلها من عرقه وقوت عياله،
إذا ما أتى فعلاً شائناً من هذه الأفعال المدرجة أعلاه، أو ما شابهها أو ما ماثلها أو ما تفرع عنها، فهو الإرهابي ابن الإرهابي، وقصاصه واجب وإعدامه حق مشروع ، و”الشريف” الأميركي هو المكلف بالتنفيذ بأساطيله المتحركة أو بأسطوله الإسرائيلي المثبت بالقهر فوق أرض فلسطين العربية.
أنت العدو، إذن، باسمك، بنبرة صوتك، بغنائك ولو شجياً، بلحنك، بشعرك مهما رق، بحبك، ومشاعرك الدافئة.
أنت أنت العدو، بلون بشرتك، بلون شعرك، بلون عينيك، بحسبك ونسبك الضائع أو المحفوظ في شجرة العائلة.
أنت العدو، بطموحك، بخيالك، بأحلامك، بعشقك للحياة، بتذوقك للموسيقى (ولو غربية)، برغبتك في أن تحقق ذاتك، بإنشائك بعبق الطيب ولو كان شميم عرار نجد،
فلانك الطالب تصير المطلوب،
إلا بأن تقاتل دفاعاً عن حقك في طلبك العادل فتصير إرهابياً خطراً تطلق في أثرك الكلاب، ويرمى جواز سفرك في وجهك، وتهان وأنت الدافع وبسخاء والمعطي ولست الآخذ او المستفيد.
لم يكن في الأمر أي خطأ، فها هو ريغان يتدخل شخصياً ليفهمنا بقوة منطق لا يدحض (الأسطول السادس كله بعد تعزيه بحاملات طائرات إضافية وبوارخ وغواصات إضافية). ما تحاول إسرائيل أن تعلمنا إياه عبثاً منذ 38 سنة أو يزيد وعبر خمس حروب ومئات العمليات الخاصة وعشرات الاجتياحات لهذا الجزء أو ذاك من الأرض العربية (ولبنان بالذات، في الحقبة الأخيرة).
نحن جميعاً، بملوكنا وقادتنا ورؤسائنا وأمرائنا وسلاطيننا وشيوخنا الملهمين،
نحن جميعاً، برجالنا، ونسائنا والأطفال،
نحن جميعاً، بخريجي أوكسفورد، وهارفرد وبرنستون وجورج تاون والسوربون والبولي تكنيك،
نحن جميعاً، بالمستسلمين والمفاوضين، بالعقلاء والحكماء والمتعصبين والمتطرفين،
نحن جميعاً هدف حرب الإبادة الأميركية – الإسرائيلية.
تلغى مصر بالسادات وصلحه المنفرد، وتلغى ليبيا القذافي بالحرب المباشرة براً وبحراً وجواً.
يلغى لبنان بالحرب الأهلية وتلغى سوريا باستنزافها وصلبها على خشبة حرب مفتوحة ضد أعظم قوة في الدنيا وأعتاها،
تلغى اليمن بالاختلاف العقائدي (!!) وتلغى الجزائر والمغرب بحرب الصحراء المجيدة!! ويلغى السودان بالاقتتال العرقي – الطائفي ثم بحرب الجوع التي لا تبقي ولا تذر، ويلغى العراق بتورطه في حرب خطأ شعارها وخطأ مكانها وخطأ زمانها وخطأ استمرارها تحت أي ذريعة.
نحن جميعاً “هناء” و”سيف العرب” في العين الأميركية – الإسرائيلية، الحليف كما الخصم ، المتواطئ كما المقاتل، البائع أمته بثلاثين من الفضة أو من براميل النفط يدفعها هو مع الفوائد أو الثائر لكرامة الأمة والعامل لكي تبقى لها خيراتها.
ليس في الأمر أي خطأ، في الجانب الأميركي،
فهل آن أوان اكتشاف الخطأ في جانبنا؟!
هل آن أن نحمي حق “هناء” في الحياة حتى لا يجيئها الموت الأميركي قبيل الفجر فيغتال أحلامها والابتسامة الملائكية والحلم الذي لما يتكون بعد؟!
هل آن نعطي “سيف العرب” القبضة التي تحميه والزند الذي يضرب به، فلا ينبو ولا يقع خطأ على غير الهدف المقصود؟!
هل آن لنا أن نكون؟!
هل آن أن نوقف حربنا ضد الذات لنبدأ حربنا ضد من يريد قتلنا وإلغاء دورنا وحقنا في الحياة، وما الحياة بغير حرية وكرامة وسيادة وعزة الانتماء إلى أمة قوتها في وحدتها وضعفها أي تفككها هو الذي يغري بها عدوها المزدهي بقوته، والمستعرض هذه القوة أمام السواحل العربية الهائلة الامتداد.
والكلام موجه إلى من في بيروت كما إلى الآخرين في كل أرض عربية، والجنوب هو الشاهد والمقصد وأرض الشهادة والحيادة لطالبي الحياة،
فلو كانت بيروت معافاة، والقاهرة معافاة، وسائر العواصم معافاة، لما تمكن ريغان من اغتيال “هناء”، ولما تمكن معتمده الإسرائيلي من اغتيال “الهناءات” الأخرى في مشرق الأرض العربية ومغربها الأقصى!
والنصرل هو عزاؤنا في هناء الليبية،
في انتظار النصر الأكبر: أن نكون عرباً كما يرانا العدو، وكما يقتلنا العدو،
أفنكون عرباً في الموت ولا نكون عرباً في الحياة؟!
أفنقتل هناء مرتين، والعدو ريغان؟!
أم ترانا سنبدأ عصراً جديداً يجدد ما كان قبل أن يغتالنا العدو نفسه في أيلول 1970؟!
إن جمال عبد الناصر ما يزال حياً، في نظر العدو، وسيبقى حياً ما دام ثمة عربي يجهر بعروبته ويفاخر بها.
فلنكن عرباً يكن لنا النصر، وإلا فلمن نطلب الحياة؟! ولماذا نغضب لاغتيال هناء،
… وهناء الآن تلبس المريول الوردي وتقصد مدرسة بحر البقر لتكون عربية. عربية. عربية.

Exit mobile version