طلال سلمان

على الطريق صحافة لبنان ضرورة عربية..

صباح الخير، سادسة، من بيروت – المساء،
وأتمنى صادقاً، وشاكراً، أن تكون قد انقضت فعلاً وبغير رجعة فترة استضافتها لنا، أنا وافتتاحيتي “على الطريق” وبعض زملائي في “السفير”،
أتمنى صادقاً أن تكون قد انتهت الاستضافة الاستثنائية التي فرضها تدبير استثنائي استغل مرسوماً استثنائياً لاسترضاء مزاج استثنائي اختار أن يظهر قدراته الاستثنائية بأن .. يكسر مزراب العين!
ما لنا وللأشخاص، فلنعد إلى القضية،
والقضية هي – ببساطة وبغير انفعال – حرية الصحافة، حرية التعبير عن الذات، حرية تحقيق الذات، حرية الاعتراض والنقد والاختلاف مع الحاكم.
القضية هي – ببساطة وبموضوعية – صورة لبنان ووظيفته عربياً ودوره المفتقد، واصتال ذلك كله بالحرية فيه، وتحديداً بحرية صحافته بما هي الصحافة العربية بلا بديل أو معوض لغيابها، إذا ما غيبت لا سمح الله، أقله في المدى المنظور.
إن لبنان، في نظر العرب قبل أن يكون في نظر أبنائه، هو الواحدة الديموقراطية اليتيمة. إنه دنيا الأحلام والجنة الموعودة والنعيم الأرضي.
في صحراء العسف والقمع والصمت نبتت وسحقت وردة، زهرة صبار، وانتصرت على الشوك والرمال واليباب، وأنعشت الأمل في أن يكون العربي إنساناً.. افننقض عليها بسيوفنا وأنيابنا لنستأصلها بذريعة إنها خروج على إرادة الموت الجماعي وخرق لسديمية المشهد العدمي لهذه المساحة الهائلة من الفراغ والبؤس واليأس التي تسمى الوطن العربي؟!
سفاح هو قاتل الورد من أجل أن تبقى السيادة للشوك وإرادة السلطان!
ومتواطئ ذلك الذي يسكت عن اغتيال أقمار البيلسان وأكمام الاجتهادات المستشرفة غداً أفضل وهمسات العشاق المتدارين عن العيون بعريشة ياسمين تنثر مع العطر ابتساماتها الوضاءة على العابرين!
الم يدخل في وعي الحاكم اللبناني بعد، وبرغم كل التجارب والمحن، ان لبنان يندثر مع اندثار الحرية فيه أو إعاقة نموها أو تعطيلها بإسكات صحافته التي تبقى – وسط الخواء – جزراً للمعارضة والاعتراض والمطالبة بالتغيير في أربع رياح الأرض العربية؟!
إن المعارضة إنقاذ لشرف الإنسان،
إن المعارضة تحقيق لكرامة لاإنسان،
هل أتفه من مدح السلطان غير مادحيه؟
وهل أبشع من الصمت على الخطأ غير التواطؤ مع الحاكم على التستير عليه وتمويهه برفع السلطان إلى مرتبة الآلهة وإنزال “الرعية” إلى مستوى البهائم: تأكل وتشرب وتتناسل وتنام، ويمنع عليها التثاؤب حتى لا تزعج مزاج السلطان؟!
ما لنا وللسلاطين، فلنعد إلى القضية،
إن حاكم لبنان بلا صحافة أدنى من رئيس بلدية وأقل قدرة من رئيس مجلس إدارة شركة وأوهى نفوذاً من ضابط جوازات في أي من نقاط الحدود العربية.
فلبنان بلا حرية فاقد المعنى معدوم الدور: مساحة من الأرض بسيطة فيها أقوام وقبائل تحترف التهريب والسمسرة وقطع الطرقات والعناية بالزراعات الممنوعة إضافة إلى شيء من فنون الفندقة وتنظيم ليالي الأنس كمقدمة لا بد منها لعقد الصفقات المريبة.
ولبنان – الحرية ليس كازينو، وليس ملهى ليلياً، وليس وكر تجسس.
لبنان – الحرية دولة قوية بمواطنها كما بقوانينها التي توفر المناخ الصحي للديموقراطية وتحمي “الواحة” أو “الشارع الوطني العربي” أو المنتدى الفكري والمطبعة والكتاب وصحيفة الصباح.
لا نفط لدى لبنان ولا ثروات طبيعية. لا صناعة ثقيلة ولا زراعة مصنعة، لا بنية تحتية متطورة ولا وسائل اتصال حديثة.
لبنان بإنسانه، والإنسان بحريته، والحرية هي مصدر الدور وهي الضرورة العربية في وجود لبنان واستمراره سيداً مستقلاً بنظامه الفريد.
والتسليم العربي بوجود لبنان يتلازم مع دوره كواحة للديموقراطية، وكمختبر للانصهار بين عناصر الأمة، وكبرهان قاطع على أهليتها بأن تكون بين صناع التاريخ لأنها تملك ما تضيفه وتغني به مسيرة الرقي والحضارة الإنسانية.
أوليس عيباً على لبنان نهايات القرن العشرين أن يتلقى الحكم فيه اللوم والانتقاد من عواصم الحضارة الغربية، التي طالما اتخذها نموذجاً ومثلاً أعلى،لأنه أغلق صحيفة، بينما كان اللبنانيون – ومنذ أكثر من قرن – رواداً في إصدار الصحافة العربية تحت الاحتلال في أكثر من قطر عربي، بل وحتى في عواصم الدول الاستعمارية ذاتها؟!
إن حكامنا يتهيبون دائماً “الرأي العام” في الدول البعيدة، وبشكل خاص في الكيان الصهيوني، فلماذا لا يترك هذا الهامش في لبنان وللرأي العام العربي، كله وليس فقط للرأي العام اللبناني، فالمواطن لم يعد قاصراً وبحاجة إلى وصاية دائمة من حاكمه (وهو في خاتمة المطاف ابن البيئة نفسها والثقافة نفسها، وقد كان قبل فترة معارضاً وقد يعود بعد فترة أخرى إلى المعارضة).
لقد عبر ذلك الحشد من المفكرين والكتاب والمثقفين الذي تصادف وجوده في بيروت يوم إسكات “صوت الذين لا صوت لهم”، عما يتجاوز الغضب: كانوا حزانى كمن فقد آخر أمل، كمن وجد نفسه فجأة بلا وطن ولا بيت ولا أسرة ولا معنى لوجوده.
ولقد جاءت الغضبة العربية لتعطيل “السفير” تعبر كم هي حرية لبنان ضرورة عربية: ضرورة للحاكم قبل أن تكون ضرورة للمحكوم!
وكائناً ما كان الافتراق في المواقف بين السلطة وبين المواطن في لبنان فإن القمع مصدر خطر على السلطة أكثر منه على المحكومين.
هل كتب علينا دائماً أن نعيد التجارب البائسة نفسها ونحصد الشوك من جديد؟!
ولماذا هذا الصدام غير الضروري والمؤذي للطرفين والذي سيدفع لبنان ثمنه من سمعته ومن رصيده المعنوي العظيم الذي صنعته أقلام مفكريه وكتابه وصحافييه أكثر مما صنعته عبقرية حكامه، ماضياً وحاضراً؟!
لقد عاد اللبنانيون من منافيهم التي قذفتهم إليها الحرب بعدما اطمأنوا إلى أن الحرية باقية في لبنان المدمر،
وعاد الأخوة العرب إلى “واحتهم” لكي يتنشقوا فيها نسيم الحرية، ولكي يسمعوا ويقولوا،
تغاضى الكل عن انعدام الخدمات (كهرباء وهاتف ومياه وطرق الخ) مكتفين بالرصيد الباقي من الحرية، مطمئنين على أنه جدير بأن يستولد الحيوية المطلوبة لإعادة البناء.
ولن تكون خدمة للعرب أن تضرب الحرية في لبنان، إضافة إلى أنها ستكون طعنة للبنان وبداية طعنة للحكم فيه وإسقاطاً لجدراته بأن يستمر فكيف بأن يبني أو يعيد البناء ويمسح آثار الحرب والدهر؟!
ومرة أخرى، فإن “السفير” لم تطلب “الحرب” مع السلطة، ولا هي ترغب فيها أو في استمرارها، ولكنها تدافع عن قضية الحرية وعن دور لبنان العربي عبر دفاعها عن نفسها.
والشجاعة في العودة عن الخطأ وليست في ارتكابه أو في الإيغال فيه.
ولن نسجل مثل تلك العودة انتصاراً لـ “السفير” بل انتصار للبنان كله (بمن في ذلك الحكم) وللعرب جميعاً بمن في ذلك من ضاقت وتضيق صدورهم باستمرار الصحافة في لبنان، باعتبارها أمس واليوم وغداً وحتى إشعار آخر، صحافة العرب، بقدر ما هو لبنان واحة الديموقراطية العربية.

Exit mobile version