طلال سلمان

على الطريق شيحين وأمن الاحتلال

“شيحين” وهذا البلد الأمين إلا من الاحتلال وهو شر مبين!
“شيحين” والدم يثأر للدم المراق ظلماً وعدواناً، دم الأطفال، دم النساء، دم الشيوخ، دم الرجال، دم البيوت، دم الشجر، دم نبتات التبغ الواعدة بقوت الفقراء،
“شيحين” والإرادة أقوى من الدبابة والحوامة والطائرة الأسرع من الصوت والمدفع المثقل بجرائم الاغتيال، اغتيال ألعاب الصبية وأحلام الفتيات ذات الضفاير بالهوى والشباب والأمل المنشود..
“شيحين” والجرح يقهر السكين ويلوي يد الجلاد، والأرض تنتقم لذاتها فإذا كل حبة عنب توفر الملجأ والحماية للذين أعادوا إليها اعتبارها فأكدوا انتماءهم إليها فإذا هم في حرز حصين!
لا سلام مع الاحتلال، ولا أمن للعدو ومستوطناته ومشاريعه التوسعية وأوهام الإمبراطورية الإسرائيلية،
ولا أمان لجند الاحتلال مهما تدرعوا وتصفحوا، إذ سيأتيهم الموت ولو كانوا في بروج مشيدة… بالفولاذ!
فها هو “الحساب” ما زال مفتوحاً، لم تتم تصفيته باجتياح التدمير والتهجير، بل لقد ازدادت الضحية صلابة وتصميماً وقدرة على الرد، فالمقاومة كما الروح خالدة لا تموت: لا تطالها صواريخ الكوبرا ولا تستأصلها القنابل العنقودية ولا تنفع في القضاء عليها القذائف المستأخر انفجارها لتقتل مع ضحايا الغارة المسعفين وأهل النجدة!
القضية محددة تماماً: حيث يكون الاحتلال تكون المقاومة، والحرب سجال.
ولقد جندت إسرائيل، قبل ثلاثة أسابيع، قدراتها العسكرية الهائلة، وأطلقت لقوة نيرانها العنان، من البر والبحر والجو، فدكت جبل عامل وبعض البقاع الغربي دكاً: قتلت العشرات وجرحت المئات، وهدمت أو صدعت آلاف المنازل، وهجرت مئات الألوف من بسطاء الناس،
وهي كانت قد “باعت” عدوانها سلفاً، فبرره الأميركي وتقبله الغربي عموماً، وأغضت عنه الكثرة من حكام العرب والمتخمين بنفظهم.
حتى ذلك المسؤول اللبناني أضاع الرشد فبدل أن يشكو المعتدي تعجل فتبنى منطقه فانطلق يطارد “الذريعة” متناسياً هوية الاحتلال وطبيعة العدو واستهدافاته السياسية،
خاف حتى من “مغبة” تقديم شكوى إلى مجلس الأمن الدولي، وحاول استرضاء الأميركي بالتعهد له بالعمل على ضمان الأمن للإسرائيلي، وأقام المشانق للكاتيوشا وكل من حملها فنقلها أو ركب قواعدها فأطلقها، وكل من صنعها أو اشتراها أو سهل مرورها.
وها هي المقاومة – وبغير كاتيوشا – تضرب في “شيحين” فتلغي العتو الإسرائيلي ومعه تلهف ذلك المسؤول اللبناني إلى إثبات براءته من “الإرهاب” بأشكاله كافة… حتى لو بقيت الأرض مدنسة بالاحتلال!!
ما علينا، فثمة من جاء إلى الحكم محمولاً على وهم أن الأمة قد انتهت، وإن زمانه قد جاء مع سيادة السلام الأميركي الذي يغدو فوق الأرض العربية سلاماً إسرائيلياً مهما اجتهدوا في تمويهه وتزييف طبيعته.
لنعد إلى الموضوع: شيحين وما بعدها،
خصوصاً وإن “شيحين” تختزل الآن جبل عامل كله، بالمدن والقرى التي مستها النار الإسرائيلية فأحرقت بيوتها ومواسمها وشردت أهلها: من النبطية إلى كفرملكي، ومن تبنين إلى جبشيت، ومن صديقين إلى عربصاليم وجباع وجرجوع وعين بوسوار وكفرفيلا الخ..
يروي دبلوماسي غربي أنه التقى ذات يوم منسق أنشطة الاحتلال الإسرائيلي ورئيس الوفد الإسرائيلي المفاوض مع لبنان في واشنطن، وجرى الكلام عن احتمالات السلام وعن تأثير المقاومة في جبل عامل والانتفاضة داخل فلسطين المحتلة على مسيرة المفاوضات واستهدافاتها.
في ذلك اللقاء استذكر لوبراني حادثة لها دلالتها، قال:
“- إن بن غوريون استهول مع انفجار الثورة في الجزائر، في العام 1954، أن تعجز فرنسا، وهي الدولة العظمى، عن ضبط الوضع وإعادة الهدوء برغم استقدامها حوالي المليون جنودي إلى تلك الأرض التي باتت تعرف بعد ثورتها المجيدة ببلاد المليون شهيد،
“كان دافيد بن غوريون، الغرهابي العريق، يفترض أن قوة النار يجب أن تكون كافية، خصوصاً وإن لفرنسا اليد الحرة في الجزائر تقتل وتهدم وتسجن وتنفي وفق هواها… فلماذا إذن لا تنجح؟!
“ولقد أوفدني إلى الجزائر لكي أتابع الوضع واستخلص الدروس، فذهبت وأمضيت أسبوعين أناقش القادة الفرنسيين وأسجل ملاحظاتي. وكان أعظم ما سمعت ذاك الذي قاله قائد عسكري فرنسي كبير، إذ1 لخص الموقف بكلمات معدودة: هم في بلادهم أما جنودي فعيونهم إلى بلادنا خلف البحر. إنهم يقاتلون ليكونوا في أرضهم، ونحن نقاتل وأرضنا بعيدة ثم إن جنودي لا يستشعرون خطر هؤلاء على فرنسا ذاتها، لذلك لا يمكن أن نربح هذه الحرب”!!
لوبراني ذاته يقول اليوم ما يناقض ذلك “الدرس”. يقوله في تل أبيب، ويقوله في واشنطن وهو “يماحك” المفاوض اللبناني حول الانسحاب!
ورئيس حكومته إسحق رابين الذي رفع شعبيته داخل الكيان الصهيوني إلى أعلى معدل ناله أي “زعيم”، بلحم اللبنانيين وبيوتهم وأزراقهم، لا يجد ما يفعله غير التوغل في الجريمة فيبعت بطائراته لتغير على بعض ضواحي بعلبك التي تبعد عن شيحين حوالي المائتي كيلوتر بينما لا تبعد شيحين عن الحدود الدولية مع فلسطين المحتلة أكثر من عشرة كيلومترات!
والذين ضربوا في شيحين إنما ضربوا جنود الاحتلال شخصياً، وفي دباباتهم ومدرعاتهم، وهم مدججون بالسلاح حتى أسنانهم… وقد ضربوهم وهم فوق “أرضنا”، وكانت “أرضنا” هذه أقوى من السلاح الإسرائيلي جميعاً!! أما جنود الاحتلال فكانت عيونهم إلى الخلف، إلى حيث انطلقوا، وربما بلغت البحر ارتداد!
لكن شيمون بيريز يرى في مقتل جنوده “مأساة”، ولا يكلف نفسه عناء أن يشرح للعالم ماذا يفعل هؤلاء الجنود في شيحين؟!
وجنرالات إسرائيل، وهم حكامها، يكابرون فيتعامون عن السبب الحقيقي لمقتل جنودهم المستوردين من البعيد البعيد، ربما من أوكرانيا أو من أستونيا أو من الحبشة أو من بولونيا، ولا يربطون بين السبب والنتيجة، أي بين الاحتلال والمقاومة، أي بين الجريمة والعقاب.
وقبل عشر سنوات تماماً كان الرئيس السوري حافظ الأسد قد أرشد جنرالات احتلال آخر، هو في منزلة “الشريك الكامل” للاحتلال الإسرائيلي، والمسرح دائماً لبنان، لكنها كانت بيروت 1983، وليست الجنوب 1993.
فلقد شكا بعض الموفدين الغربيين إلى الرئيس الأسد حالة جنودهم الذين أنزلوا في بيروت ضمن ما سمي آنذاك بالقوة المتعددة الجنسيات، والتي كانت أطلسية بكليتها: أميركية، فرنسية، بريطانية، وإيطالية.
قال أولئك الموفدون أن جنودهم يعيشون ذعراً دائماً، فلا يجرأون على الحركة، ويخافون الناس جميعاً، ويحصنون أنفسهم كل ساعة بمزيد من المتاريس وأكياس الرمل والأنوار الكاشفة،
وسأل الرئيس الأسد بهدوء: وكم تبعد مواقع أولئك الجنود عن البحر؟
وجاءه الجواب: – بضع مئات من الأمتار فقط!.
فأضاف الرئيس الأسد من خلال ابتسامة : – الحل بسيط، إذن… ليتراجع هؤلاء الجنود مئات الأمتال هذه إلى الخلف عائدين إلى البحر فتنتهي مشكلتهم!! ليعودوا إلى سفنهم، ولتعد بهم إلى بلادهم التي جاؤوا منها والتي تقع على بعد عشرة آلاف كيلوتر عن بلادنا، فيستعيدوا هناءة عيشهم ونكمل حياتنا هنا بهدوء.
لعل درس شيحين سينفع في توضيح ما لا حاجة إلى إيضاحه: الاحتلال يستولد المقاومة، وطالما بقي الاحتلال فستبقى المقاومة، وكلما صعد الاحتلال اعتداءاته ووسع دائرة النار سيتصلب عود المقاومة وستبتدع أشكالاً جديدة للرد عليه.
فلا الأرض تموت، ولا روح المقاومة تذهب بها أساطيل القتل والتدمير.
ولن يكون بوسع الاحتلال أن يدعي الآن أن كاتيوشا المقاومة قد قتلت أطفال المستوطنات الشمالية أو جرحت كرامة الجيش الإسرائيلي الذي لا يقهر، في أصبع الجليل.
وقديماً، وفي ثكنة مرجعيون، قال الرئيس اللبناني الراحل فؤاد شهاب، وقد كان ملازماً بعد، لعريف الحرس الذي ساوى في العقوبة بين جندي فرنسي (أيام الانتداب) وجندي لبناني أثر عراك بينهما:
“- ولكنك تنسى أمراً بسيطاً يا عريف، قفزحيا ضرب جان بيار في مرجعيون وليس في مرسيليا، فكيف يكون الجرم واحداً وتكون العقوبة واحدة على أهل البلاد وعلى الذين يحتلون البلاد”؟!
لا سلام مع الاحتلال، ولا أمان لعسكر الاحتلال.
وليست المقاومة “حزب الله”، إنها إرادة الشعب جميعاً، بمن في ذلك الذين اعترضوا على الكاتيوشا لأنهم رأوا فيها انتقاصاً من كرامة المقاومة وافتئاتاً على صلابة المقاومين في المواجهة.
فكل إسرائيلي محتل، وكل لبناني مقاوم، نيابة عن العرب جميعاً وباسمهم جميعاً وإنقاذاً لشرفهم (ولنفطهم) جميعاً، حتى لو لم يدفعوا ريالاً واحداً لكي يدخلوا التاري بينما هم دفعوا ثروتهم كلها (بما فيها نصيب أجيالهم الآتية) لكي يخرجوا من التاريخ!.
فهل يستوي الذين يقاومون والذين يساندون الاحتلال بالاستسلام؟
وشيحين نقطة بداية جديدة على خريطة “مسيرة السلام”.

Exit mobile version